تبدأ قصّتنا مع التلفزيون: علبة سوداء أخذت بالنحافة يوماً بعد يوم، نضعها على مناضد منسّقة، نفتحها آخر النهار لأخذ فسحة افتراضيّة من واقعنا المليء بالمشاغل والأزمات والهموم. العلبة الإلكترونية نفسها، أبيت وجودها منذ أربع سنوات في غرفتي، فالعالم اليوم بين يدي على السوشال ميديا فما حاجتي إليه بعد، وأي برامج سوف أتابع تحديداً إذا ما أردت بقاءه؟
ورغم أن هذا الانقطاع الطوعي أخذ شكلاً لا طوعيّاً بعد اختفاء الكهرباء من حياتنا، إلا أنّ سؤالي لم يختف معها: ما حاجتي إليه وأي برامج تلفزيونيّة سوف أتابع إذا ما أمكن وجوده؟
التفكّه والضحك
تجتاحني الرغبة أحياناً بتعريف مصطلحات نستخدمها بشكلها العفوي، كالفكاهة والضحك. أتصفّح غوغل بحثاً عن معنى للكلمتين، فتنهال "القرقرات" من هنا وهناك، والترفيه والتسلية واللعب، أي النشاطات التي يتسامى بها المرء لتعديل اعتلالات مزاجه، مفرّغاً غضبه ربما، وطاقاته العدوانيّة، وأفهم أن النكتة والمزاح إنتاج شعبي، فتفيض السرديّات الشعبيّة بالنوادر والقهقهات، ومن ضمنها النكات الإيروتيكية التي يتناقلها النساء والرجال للتحايل على الرقيب الأخلاقي.
أتوقّف عند هذا الحد، فلست أكتب محاضرة في ألف باء الضحك، ولم أنو تجاوز هذا الحدّ إلا لهدف، وهو إظهار كيف تتحوّل عفويّة النكتة إلى أداة سياسيّة تطال جنسانيّة النساء، فأجدني على الطرف الآخر متجهّمة، غاضبة، لأن ما أضحك الجميع يؤلمني، ويؤلم نساء أخريات كثيرات، الألم الذي لا نعبّر عنه ونكتفي بكبته وبطبع ابتسامة مزيّفة على وجوهنا، بأن لا شيء يستحق الضحك. إنها حيواتنا فقط.
والمنتج الأساسي للنكتة في هذه الحالة ليست الشعوب بل الحكومات، وخاصة أجهزة الأمن والمخابرات فيها، فهي التي تؤسّس الأجهزة "الإعلاميّة" التي تنشط في إبداع النكات بهدف امتصاص إحباط الناس ومعرفة مدى تقبّلهم الاتجاهات والأفكار التي تحتويها.
وغالباً ما يكون الخطاب المنتج حول النساء في الإعلام خطاباً مهيناً، وفيه اعتداء واضح وصريح، ويجبرهن على الانزواء والانكفاء على أنفسهن.
"باردات جنسيّاً"، "يتمنّعن وهنّ راغبات"، "مغويّات"... هي عيّنة صغيرة عن الخطاب الذي يخصّه الإعلام اللبناني للنساء، مقدّماً ترفيهاً تافهاً، وفي كثير الأحيان يدعو للغثيان، ولإعادة إنتاج قوالب نمطيّة تنفي النساء من المجال العام
نهرب… لكن لا مفرّ من وصمنا
أهرب من التلفزيون في غرفتي فأعتزله، أو بأبسط الأحوال، أتوقف عن الاستماع اذا ما صدح صوته في المنزل، لكن كيف أهرب مما تقدّمه المحطات، بمنصاتها الإعلاميّة الضخمة وأذرعها الممتدّة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل أعيش نافية نفسي عن أخبار العالم لأن هناك من يبيح لنفسه انتهاك أجسادنا وجنسانيّتنا والسخرية منها في الفضاءات الرقميّة، باسم الكوميديا أو العمل السياسي؟
فهم يستبيحون الفضاءات كلها، وما هي إلا محاولة لإثبات أن هذه المساحات تنتمي فقط للرجال، وعليه، فالنساء/الأجساد الموجودة في هذا الفضاء هنّ ملك لهم ولنكاتهم الوضيعة والمبتذلة.
وأتساءل ما المضحك حين نتحدّث عن التحرّش الجنسيّ والاغتصاب؟ ما المضحك عندما تتناول حقوق النساء اللاجئات الإنجابيّة وتقدّم كمادة للتهكّم؟ ما المضحك في أن تكون امرأة في سن الخمسين والستين والسبعين وما زالت تشعر بوهج الشباب وترغب وتحب؟ ولم لا يوصف الرجال بـ"التصابي" عندما يرغبون بمن هنّ طفلات بعد؟
وما محصّلة الضحك؟ فئات مهمّشة تزداد تهميشاً، وأجساد يزداد انتهاكها، وحقوق بصحّة جنسيّة وإنجابيّة تُسلب بخفّة، لأنّ يد السارق تعرف جيّداً بغيتها.
لسنا مجرّد مواد لكم
فما هي العوامل الخارجيّة التي تؤثر في جنسانيتنا وضرورة نيلنا حقوقنا الجنسيّة والإنجابيّة ولا تُناقش بجديّة؟
لا شك أبداً بأن الجنس تحت مظلّة الأبويّة الواسعة حصري للرجال وليس للنساء، لذا دعونا لا ننسى هذه الحقيقة، تأتي رغبات الرجل أولاً وغالباً منفردة، ماذا عن النساء؟
يعجّ أرشيف الحياة السياسية اللبنانية بالتطاول على حياة العديد من الإعلاميات والصحافيّات الشخصيّة، وأحياناً يحيلون أجساد النساء إلى ساحة لمعاركهم وتجاذباتهم السياسيّة، ويجعلون من أعضائهن الجنسية سلاحاً للحطّ من شأنها، وهو ما يعكس ميزوجينيّة في التعاطي
باردات جنسيّاً، يتمنّعن وهنّ راغبات، مغويّات، ماذا أيضاً؟ هذه عيّنة صغيرة عن الخطاب الذي يخصّه الإعلام اللبناني للنساء، مقدّماً ترفيهاً تافهاً، وفي كثير الأحيان يدعو للغثيان، ولإعادة إنتاج قوالب نمطيّة تنفي النساء من المجال العام.
كما يعجّ أرشيف الحياة السياسية اللبنانية بالتطاول على حياة العديد من الإعلاميات والصحافيّات الشخصيّة وحياتهن الجنسيّة بالهمز واللّمز، أو بإيحاءات جنسيّة مبطّنة، للردّ على أي جدال سياسي وقانوني، وأحياناً يحيلون أجساد النساء إلى ساحة لمعاركهم وتجاذباتهم السياسيّة، ويجعلون من أعضائهن الجنسية سلاحاً للحطّ من شأنها، وهو ما يعكس ميزوجينيّة في التعاطي.
هذا وتزخر البرامج الكوميديّة بتسخيف مشاعر النساء، ودوراتهنّ الشهريّة، وحاجتهن لمستلزمات العنايّة بالصحّة الجنسيّة، وأعضائهنّ التناسليّة، وتقلباتهنّ الهرمونيّة ونشاطهن الجنسي، أو تشكيكاً "بشرفهن"، والسخرية ما هي في هذه الحالة إلا مدخل لتحقير النساء.
كل هذا يحدث، في حين تعتبر أدنى أشكال التعبير عن الجنسانية لدى النساء مرفوضة، حتى وإن كان من باب التثقيف. وتفرض الكثير من أشكال البوليسيّة والرقابة عليهن، وعلى أي سلوك يقمن به، ما يترك آثاراً سلبية على نظرتهن لأنفسهن، ولصحّتهن النفسية والجنسيّة والإنجابيّة، ولموقعهن الاجتماعي والسياسي في الفضاءات العامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 4 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 14 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع