عمّان باتت جزءاً أساسياً من حياتي في السنوات العشر الماضية، ولكني ما زلت أندهش في كلّ مرة أرى فيها وجه صدام حسين في أماكن غير متوقعة في أنحاء المدينة.
كنت في أحد الأسواق، وباغتني وجهه في هيئة واقٍ للتليفون المحمول. لحظتها التقطت صورة انضمّت لألبوم صور لوجهه في أماكن مختلفة في أنحاء عمّان. وجه صدام حسين جزء من مشهد المدينة البصري، أتساءل عن مكانه عندما لا أجده أثناء القيادة في أوقات الذروة.
عندي مخزون ليس بقليل من صور ذلك الوجه المبتسم، الحكيم، المكلّل بشعر كثيف والذي يذكّرني بخالي رحمه الله. منذ عدة أيام، كنت في تجمّع عائلي، وسمعت في غرفة الصالون أحد أفراد العائلة يصيح بأن صدام حسين لم تلد مثله امرأة في العالم. إعجاب مبهر وحاضر يسكن فراغات عمّان وتجمّعاتها، وقد يقفز في وجهك في أي لحظة.
لا أعرف إذا كان هذا الاحتياج الدائم لإيجاد بطل مُخَلِّص في مجتمعاتنا المهزومة جزءاً من المسألة، أو إذا كان العداء تجاه الولايات المتحدة هو سقف الانتصار في المخيلة الجمعية في بلادنا عند الكثيرين، ولعل تنفيذ حكم الإعدام في جسد صدام حسين على يد الأمريكان هو قمة الشهادة. كل هذا جائز، لكن أكثر ما يشغلني حين أرى وجهه هو الهلوسة التطوّعية التي تبرِّئه من جرائمه وقبح أفعاله، فتحجب حقيقة أنه قاتل، نرجسي، جبان، وتمنحه بطولة شبه مطلقة، كل ما يخرج عن إطارها مصيره المحو والنسيان، كما هو حال تاريخنا وواقعنا.
سمعت في غرفة الصالون أحد أفراد العائلة يصيح بأن صدام حسين لم تلد مثله امرأة في العالم. هذه الهلوسة التطوّعية التي تبرِّئه من جرائمه وقبح أفعاله، فتحجب حقيقة أنه قاتل، نرجسي، جبان
يبدو أن استمرار حالنا السياسي المتردّي يؤثر على خيالنا، ويؤكد على أوضاع، قد تبدو في كثير من الأحيان أزلية وأبدية، وفي أحيان أخرى جزءاً من هويتنا السياسية، فتتبلور الأسئلة العامة السطحية التي يتناولها الناس في ثرثرتهم الجانبية، من قبيل: "من أحسن، الأسد أم داعش أم محمد بن سلمان؟". لقد سئمت هذه الأسئلة، فأصداء هذا البؤس تحيطني وقد وجدت من يأخذني بعيداً عن هذه النقطة إلى موقع قد أستطيع منه البحث عن معنى لهذا النصب العجيب الذي أصبح جزءاً من حياتنا اليومية.
كانت الكلمة الافتتاحية لمؤتمر المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في بيروت هذا العام للمعارض ياسين الحاج صالح، وجاءت بعنوان "ما لا يُكَذب وما لا يُصدق: الاستثناء والمستحيل والفظيع"، وكان اشتباكه وهمّه في تلك الكلمة هو كيفية خلق حوار معرفي عن واقع بلادنا الممتلئ بعدم تصديق الواقع، والاستعاضة بتصديق الأوهام والأكاذيب التي يتم نشرها.
ذكر ياسين أن رفض تصديق الواقع هو محاولة لاحترام المعقول والنفس، وطرح فكرة أن ما يُمارس علينا من تلاعب سياسي، والذي أصبح المعهود والموروث وبالتالي من المعطيات في حياتنا اليومية، تحوّل لمكوّن أساسي في مَنطَقَة تصوراتنا عن السلطة التي تحكمنا، وعن ديناميكيات ظروف معيشتنا كشعوب عربية، وأن أهم أركان تعاملاتنا هو أن "لم يعد النقد يطال السلطة" بأي شكل فعّال، فماذا يفعل بنا هذا التقليد العقيم الذي أفقد اشتباكنا مع الواقع؟
علّقت سوزان كساب على كلمة الحاج صالح بأن تكذيب الواقع أصبح أسهل من التحديق في الفظيع، فالفظاعة تكمن في كل ما حولنا من تشوّهات وانتهاكات بشكل يومي، يتعرّض له الإنسان في حريته وسيادته وعيشه الكريم في البلاد العربية بشكل ممنهج. الخطوة الأولى تكمن في قطع التواصل بيننا، عبر حجب المواقع وتعطيل شبكات الاتصالات والبرامج الرائجة، هنا يبدأ الاغتراب تجاه الواقع إلى حد إنكاره، لنجد أنفسنا أمام الحجب الأكثر إحكاماً في مصيرنا المشترك، لأننا نتبناه بـأنفسنا.
الأحاديث اليومية تنحرف عن أي مسار قد يؤدي إلى مساءلة السلطة حيث أن "الإفلات من العقاب ترسّخ كبنية سياسية وكثقافة. أتذكر أستاذي وهو يطرح فكرة ما إذا كان الخير في حياتنا أغلبه رياء ترصده أنظار الحشود، وأما "الباقي" من أفعال فيحميه الفراغ الذي ينسجه من حوله. فراغ لا يحتوي على فيل، فالفيل في مكان آخر. أحياناً ننحيه في موضع بعيد في العالم الدولي، كما ذكر ياسين الحاج صالح في كلمته، في أمريكا مثلاً حيث تكمن الحقيقة والباقي مرايا و"غير مهم".
لعل محور هذه العلّة هو ما نعيشه من "نسق للحياة البشرية (الذي) لم يُبنَى مفهوم له"، فحتى المفردات التي تشوّهت على أيدينا من جيل إلى جيل، أصبحت تحمل معاني مختلفة ومخالفة لما قصده وحلم به أجداد أجدادنا، مِمَن أحبّوا العدل والمساواة. تحضرني كلمات الكاتب محمد نعيم عمّا إذا كان لابد لنا أن نرجع لنقطة الصفر لنُعَرِّف ما هو الخير وما هو الشرّ بشكل مبدئي، لأننا أصبحنا لا نتفق، أو نتخيّل، أو نقصد نفس المعاني، حتى لو استخدمنا نفس المفردات. ولعل العالم بشكل أوسع قد استسلم لتعلّقه بشكل مبطن وفاعل لرغبات وطموحات هي في أصلها فاشية لم يشف منها حتى هذه اللحظة.
علاقة بين ما نتمناه من واقعنا السياسي وما نعيشه تحت الحكم الباطش الذي نبني وننشئ له المبرّرات، حيث نخلط بين رموز السلطة وتصوّر ما للخلفاء وامتداد لحياة الأنبياء
بعد أن أنهى ياسين الحاج صالح كلمته، سألتْ إحدى الحاضرات ما إذا كانت الأوهام المعاصرة التي تتفشّى في مجتمعاتنا العربية، بحيث نصدِّق ما لا يُكَذب ونرفض تصديق ما هو واقع (الذي يغلب عليه الفظاعة) نوع من أنواع مقاومة العقلانية التي تتصف بها الحداثة التي أتتنا من المستعمر؟ جعلتني أتأمّل كيف يمكن "للمقاومة" في أدواتها أن تشبه البطش، فلعل مساءلتنا لأنفسنا وأنظمتنا لابد لها أن تطول الأسماء والعناوين أيضاً، وكيف للواقع ومفرداته أن يصلا لاتساق فيه تقارب حقيقي.
ما تكلم عنه ياسين موجود بوفرة حولنا، فإنكار العنف في سبيل الاستقرار مثال وما أكثره. كتب أندري بريتون في كتابه "حب مجنون" أن السريالية موجهة ضد المعتاد والمتوقع، فواقعنا سريالي بطريقته الخاصة بما يتخلّله من عبث، مازال صعب التصديق على الكثيرين منا، ما يجعل دعوة ياسين الحاج صالح في التفكّر في "الاستثناء والمستحيل والفظيع" الجرح الذي لا بدّ أن نعتبر له، أم أنه أصبح بمثابة تحوّر نفسي كما سماه بريتون: هلوسات التفسير أو التفسير بالهلوسة (interpretive delirium) وهو عَرَض يأتي من التشبّع بالضبابية والتخبّط الناتج عنها، وفي رأي بريتون هو فعل أساسه الخوف. الخوف الذي يشعّ من كل مكان وهو يلعب دوراً محورياً في مناحي حياتنا المختلفة، فهو يشعّ علينا من السلطة ويصبغ حياتنا اليومية، فكما عبر عنها الحاج صالح في مقاله "عن الكرامة وحرمة الجسد البشري"، يقول: "في مجالنا، تقوم السلطة على التحكّم المباشر والتفضيلي بالأجساد، بما يجعل علاقة السلطة أساساً علاقة خوف من الموت أو من أذى شديد أو من إهانة لا ترد"، بما يؤول بنا إلى محل فيه الظلم سيء، ومفهوم العدل الذي نتبعه أيضاً سيء، كما يشير الكاتب لاحقاً في نفس المقال.
يظل السؤال المتعلق بالطعن في العقلانية الذي أثارته إحدى الحاضرات بعد انتهاء الكلمة يطرح في ذهني علاقة بين ما نتمناه من واقعنا السياسي وما نعيشه تحت الحكم الباطش الذي نبني وننشئ له المبرّرات، أي ما يوصف بالـ "لاهوتية (ال)سياسية بصورة مضاعفة"، حيث نخلط بين رموز السلطة وتصوّر ما للخلفاء وامتداد لحياة الأنبياء، ومن خلال كل هذا وذاك ننزّه حكامنا عن جرائمهم وأخطائهم وظلمهم بخيالنا عنهم قبل أي تعبير آخر عن التهليل والسجود.
أتصور أن الخروج من المأزق صعب، وأن بناء معرفة مبنية على الواقع (سواء أحببنا تصديقه أم لا) خطوة مُلحّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي