شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
علويات كما لا يريد أن يراهنّ أحد

علويات كما لا يريد أن يراهنّ أحد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والتطرف

الخميس 6 يوليو 202311:12 ص

"آخر شي كنت بتوقعو بحياتي أني رافق بنت علوية، لا تزعلي مني رؤى بس أنتو بنات الساحل سمعتكم سابقتكم"، ترنّ في أذني هذه المقولة لصديقتي الدمشقية في كل مرّة أقرأ فيها مقالاً يتحدّث عن العلويين، وبحكم الخزعبلات الكثيرة التي ترد في معارض تلك المقالات أو السخرية من معتقدات طائفة بأكملها، خصوصاً أننا شركاء في وطن وجغرافيا، ومن المؤلم أن نكون جاهلين بما يفكر به جيراننا وشركاؤنا.

دمشق 2009

من حضن أمي من قرية في جبال الساحل السوري إلى العاصمة دمشق دفعة واحدة وبلا أي مقدّمات، كانت ساحة معهد الاتصالات في دمشق هي الحيّز المكاني الأول الذي رأيت فيه صبايا محجبات على أرض الواقع، أعرف بأن بعض نساء الشام يتحجبن من خلال متابعتي للدراما، ولكن رؤية هذا الكمّ من المحجّبات والمنقبات دفعة واحدة أشعرني باللغط، فبت أعجز عن التفريق بينهنّ، نجلس معاً في المحاضرة ونتناقش، ثم أفشل في تمييزهن خارجاً فأرد عليهن بجفاء يستغربنه، أو أسلّم على أخريات لم يسبق أن تقابلنا بحرارة.

كان عقلي عاجزاً في بادئ الأمر عن رسم علامة فارقة لأي منهن سوى أنها محجبة، فظنّن بأنني غريبة الأطوار، وعزّز الأمر يمين شعبيّ أقسمته بزلّة لسان في حضرة زميلاتي القادمات من كل مناطق البلاد، فكان كافياً ليسود الصمت المكان، ولتتساءل كل منهنّ في سرها: "أي مخلوق فضائي هذه!".

أتذكر توصية أقربائي أثناء وداعي: "تجنبي الخوض في حديث الثالوث المحرم: الدين، السياسة والجنس"، واستهجاني المبطن لتلك التوصية وأنا أقف مذهولة أمام سؤالها: "أنتي علوية؟". فأجبت جفلة: "غالباً"

شاءت الأقدار، والترتيب الأبجدي للحروف الهجائية، أن أجاور في الجلوس زميلة دمشقية من دوما، أثارت امتعاضها بادئ الأمر لهجتي الفجّة وإقراري بما لم يكن خافياً أنني من محافظة طرطوس الساحلية، ثم جاء تشابه اسمنا الأول وما ترتب عليه من لغط ليكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لكن الواجبات والمشاريع العملية حتّمت وجود تواصل بيننا تطوّر حتى أصبح صداقة متينة.

أتذكر توصية أقربائي أثناء وداعي: "تجنبي الخوض في حديث الثالوث المحرم: الدين، السياسة والجنس"، واستهجاني المبطن لتلك التوصية وأنا أقف مذهولة أمام سؤالها: "أنتي علوية؟". لم أتوقع أن يحضرني عنصر الثالوث المحرّم شخصياً بهذه البساطة والسرعة، فأجبت جفلة: "غالباً"، وأردفت بسذاجة: "بتعرفي، ولا مرة حدا من أهلي قلي أننا علوية، بس غالباً نحنا هيك".

لا أدعي أن العلويين بعيدون عن لوثة الطائفية أو أنهم أشدّ إيماناً من غيرهم بحرية المعتقد، ولكن ما أريد تأكيده أنه قبل 2011 كان يوجد (بالصدفة أو بالقناعة) من لا تهمّه سيرة الطوائف والانتماءات والمناطقية، أو لعلّ السبب في ذلك هو التواجد في منطقة بلون موحّد لا تشوبه شائبة، لا أعلم.

تنامت علاقتي بصديقتي المذكورة، ووجدت كل منا في شخصية الأخرى ما قرّب القلوب وكسر الحواجز، وأذكر أنني سألتها مرة عن سبب عبارتها التي تكرّرها على مسمعي بمرح في كل مناسبة: "آخر شي توقعته بحياتي رافق بنت علوية"، فأنا لم أتوقع ولم أستبعد يوماً فئة من حيز الصداقة، فقالت لي: "سمعتكم سابقتكم"، وأخبرتني عن مقطع فيديو لسيدات تعرفهنّ من الساحل السوري يلبسن لباساً مكشوفاً ويشربن العرق ويشتمن الله ويرقصن في عرس مختلط، ناقشتني مطولاً في كل واحدة من هذه "الكبائر"، ثم ختمت: "بس والله أنتي غيرتيلي نظرتي بكل أهل الساحل"، فأجبت: "لك عيني ربك"، فاستغفرتْ الله كثيراً رغم تأكيدي لها بأن هذه العبارة ليست كفراً.

العلويات القويات

منذ بداية وعي لبيئتي، عرفت نساء علويات قويات الشخصية، السمة التي فرضها أسلوب الحياة الريفية ربما، فالمرأة العلوية، كما تحكي لي جدتي، لم تكن تملك رفاهية المرأة في مسلسل باب الحارة (كون الحقبة التي يتناولها المسلسل هي ذاتها التي عاشتها ولكن في جغرافيا مختلفة)، كانت جدتي ورفيقاتها في طفولتهن يستيقظن فجراً للذهاب للرعي ولا يعدن حتى المساء، يقضين النهار في مراقبة الدواب ولعب "القواميع" و"الفريفوط" تحت الشمس، وصنع الدمى من بعر الأغنام والماعز، وحمل جرار الماء من العيون إلى البيوت، وعندما يصلن مرحلة البلوغ يرافقن أمهاتهن في العجن فجراً والذهاب لاحقاً لجمع الأحطاب لخبز الغداء، والبحث عن أعشاب برية صالحة للأكل تسمى "السليق"، ومن ثم إعداد الطعام وغسل الثياب وحلب الأبقار وجمع البيض، وبعد الزواج يشاركن أزواجهن في حصاد القمح وجني الزيتون و"عرجلة" سطوح بيوت التراب، وحتى الحراثة على الثيران، فأيّ أنوثة تُرجى بعد كل هذا الشقاء، وأيّ "أمرك ابن عمي" ستخرج من فمها كالتي تخرج من فم "أم عصام" بعد أن تطالع يديها المتشققتين؟ 

منذ بداية وعي لبيئتي، عرفت نساء علويات قويات الشخصية، السمة التي فرضها أسلوب الحياة الريفية ربما، فالمرأة العلوية، كما تحكي لي جدتي، لم تكن تملك رفاهية المرأة في مسلسل باب الحارة

إن الاشتراكية في العمل انطوت على اشتراكية في صنع القرار، وهذا ما نجم عنه شخصية قوية تعزّزت بعوامل الشعور بالإنجاز ومخالطة الآخرين والصوت العالي الذي كان أسلوب اتصال معتمد في المساحات البرية الواسعة، إلى جانب قساوة الجغرافيا التي لا بد ستدخل في جينات السكان، فأورثت الجدات للبنات والحفيدات كل هذا الخليط.

العلويات غير محجبات

تعدّل جدتي إيشاربها وتخبرني بأنها تستيقظ فور انكشاف غطاء رأسها عن شعرها وهي نائمة، تحدثني كم هي معتادة عليه فهي تضعه مذ كانت "هالقد"، وتشير بكفها متباعدة الأصابع إلى ارتفاع 80 سنتيمتراً عن سطح الأرض، في إشارة إلى عدم وجود تاريخ دقيق تتذكره لذلك الحدث.

وكانت جدتي تحكي عن لباس نسوة الساحل ممن كنّ في جيل أمها، حيث كنّ يضعن على رؤوسهن "طربوش"، وهو أشبه بقبعة أسطوانية تشبه تلك التي يضعها الرجال ولكنها لا تحمل شراشيب، واعتدن أن يغطين طرابيشهن "بالبوشية" ومن ثم "العجمية" أو "الكفية" التي كانت تُلفّ حول الرقبة وتغطي الشعر، وتختلف طرق اللف والتسميات من ريف إلى آخر، إلّا أنه، وبطبيعة الحال، كان غطاء الرأس أمراً "دارجاً" ومتعارفاً عليه وليس مفروضاً، أما عن لباس الجسد فكان عبارة عن فساتين بياقات مرتفعة وأكمام كاملة وطول يصل إلى الكاحلين، واعتادت النساء أن يرتدين تحته سراويل واسعة مزمومة من الأسفل لسهولة الحركة أثناء العمل، أخذت تسميات عديدة نسبة إلى شكلها والقماش المستخدم في صناعتها، ومن بين التسميات "الاسفنج والفانيلا والبستونة والزفير والشيد".

في الجيل التالي، وحين جاء دور الفتيات اللاتي بدأن يتحولن إلى صبايا لارتداء الطرابيش، دخلت موضة المناديل، فاعتادت الصبايا تغطية رؤوسهن بمنديل مستطيل مصنوع من الحرير ومواد أخرى، يطوى بشكل قطري ليأخذ شكلاً مثلثاً ثم يوضع على الرأس ويعقد أسفل الذقن، فيُظهر جزءاً من مقدمة الشعر وما تجاوز طوله طول المنديل على الظهر، مع الاستمرار بارتداء الفساتين المحتشمة، وفي الجيل التالي لم ترتد النساء أي أغطية للرأس، ثم بدأت التنانير التي يصل طولها إلى الركبة تغزو الأسواق، وفي جيل لاحق درجت موضة البنطلون القادمة من بيروت مع البنات اللاتي عدن من "التقعيد" (وهو عادة فرضتها الفاقة تقتضي بإرسال القاصرات للعمل كخادمات)، ومن ثم الأكمام القصيرة حتى وصل حال اللباس إلى ما هو عليه الآن.

هذه التقلبات في الملابس وتطوّرها باتجاه أكثر انفتاحاً لم يلاق اعتراضاً شديداً من الرجال غالباً، ثم تم تقبّل الأمر بحكم مشاركة النساء في الدورة الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر أن ما ذُكر أعلاه لا ينفي وجود بعض التجمّعات التي لا تزال ملتزمة حتى اليوم باللباس التقليدي، وتتفاوت درجة "السبور" بين أهل الأرياف والمدن.

العلويات، كما غيرهن من النساء في الطوائف الأخرى، فيهن الجسورة والخائنة، الشجاعة والمتخاذلة، البسيطة والمركبة والمعقدة، لسن كتلة صمّاء واحدة ولا يصحّ الحديث عنهن كأنهن أشجار من صنف واحد، وطول وعمر ومساحة ظلّ موحدة، نالهن ما نال غيرهن من التطاول والاستعداء والأذى نتيجة الجهل المحيط بهن، وبكل العلويين أيضاً، وهن جزء من مجتمع مسحوق، يقاوم الانسحاق بمزيد من الحرية والحب، ومدّ الظلّ أكثر ليظلّل الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image