شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سامحك الله يا سيدنا إبراهيم

سامحك الله يا سيدنا إبراهيم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 27 يونيو 202311:03 ص



يحتفل العالم الإسلامي اليوم بعيد الأضحى،أو العيد الكبير، أو عيد القربان، كما يسمى في بعض الدول، ولسان حال السوريين يقول: "سامحك الله يا سيدنا إبراهيم".

بأي حال عدتَ

لطالما كانت الأعياد الدينية وشعائرها مناسبات تهلّل لها المجتمعات الإسلامية، وتجدها فرصة للتقرب من الله والتمثّل برسوله، لكنها اليوم باتت عبئاً ثقيلاً على شعوب ترزخ تحت وطأة الفقر، كما الحال في سوريا.

دأب المجتمع السوري المسلم، كغيره من الشعوب، على نحر الأضاحي صباح عيد الأضحى، تيمناً بالنبي إبراهيم الذي أمره له الله بذبح ابنه اسماعيل، وفي اللحظة الأخيرة افتداه بكبش عظيم، وتنفيذاً لقوله تعالى: "فصلّ لربك وانحر"، وتمثّلاً برسوله محمد بن عبد الله، حيث روي عن أنس بن مالك قوله: "ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمّى وكبّر".

منذ زمن ليس ببعيد، أي قبل الحرب السورية، كنت تمرّ في الشوارع فترى الأنعام، من خراف وعجول، تنحر على أبواب المنازل، ويوزّع لحمها على الفقراء وعابري السبيل والأقربين وكل من استطاع صاحب الأضحية إطعامه، وكنت إذا ما أردت ذبح أضحيتك عند جزار فعليك أن تحجز موعداً مسبقاً لديه، ربما قبل شهر تقريباً بسبب كثرة المضحين والأضاحي.

اليوم عليك أن تدور جميع الأحياء في مدينة سورية ما لتجد خروفين اثنين أو ثلاثة يضحّى بهم صباح يوم النحر، كما أسماه العرب، وربما يكون هذا جيداً للأضاحي لكنه بالتأكيد مؤشر قبيح لتدهور الحالة المعيشية

أما اليوم فعليك أن تدور جميع الأحياء في مدينة سورية ما لتجد خروفين اثنين، أو ثلاثة على أكثر تقدير، يضحّى بهم صباح يوم النحر، كما أسماه العرب، وربما يكون هذا جيداً للأضاحي لكنه بالتأكيد مؤشر قبيح لتدهور الحالة المعيشية للسوريين.

يخاف السوري من العيد أكثر من الخروف نفسه

فقر الحال وضيق ذات اليد منع السوريين اليوم من التقرّب إلى الله بشعائرهم المعهودة، مستسمحين بقوله: "لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها"، فقد وصل سعر الخروف الواحد في سوريا إلى ما يقارب مليوني ليرة سورية، أي 223 دولاراً، وهذا ما يعادل عشرين ضعفاً لمتوسّط الرواتب والأجور في سورية.

اليوم، وبعد انتهاء الحرب، لم تعد تكفينا باقة آس واحدة يا جدتي، فقد وارينا نصف العائلة الثرى

أمرّ قرب أبو عزيز، جزار الحي، ألقي التحية وأمازحه: "شو عم، الشغل داقر" ليجيبني بحسرة: "لك بنتي ذبحونا ذبح النعاج باسمه، سمّوا وكبروا على رقبة ابني عزيز في تدمر، ثم نحروه، بعد بدو منّا قرابين وأضاحي؟"، وهنا يشير إلى ما فعله تنظيم داعش بالسوريين في تدمر.

أمام أبو عزيز ومن مثله، من كافة أطياف المجتمع السوري، لا يمكنك الحديث عن العيد، فكل فرح يسقط أمام أحزانهم الكبيرة.

أكثر ما يحزّ في النفس هنا أن تصادفك منشورات، وأنت تتصفّح فيسبوك، من قبيل: "أنا امرأة متعففةٌ، لكنني أيضاً أم لثلاثة أولاد لم يتذوقوا اللحم منذ عامين، من أراد التضحية بذبيحة هذا العيد فأرجو أن يذكرنا بقطعة لحم".

صادفني البارحة أيضاً منشور مضحك في ظاهره، مبكٍ جداً في باطنه، يقول صاحبه: "يخاف السوري من العيد أكثر من الخروف نفسه"، متبعاً إياه بإيموجي ضاحك.

في الحقيقة نعم، بات السوري يخاف من العيد، فحتى لو أسقط الأضاحي من قاموسه، كيف له أن يسقط صحن الحلويات أو فنجان القهوة من ضيافته اذا ما زاره جار ليهنئه بالعيد؟ كيف يسقط رغبة أولاده بلباس جديد، أو ركوب الأراجيح، أو حتى مسدس خرز، على سوء هذه العادة؟

كل من يعيش في سوريا يعلم أنك اذا ما أردت أن تحضر لوازم العيد، "من قريبو" سيكلفك ذلك مئات الآلاف وراتبك مئة ألف واحدة فقط.

أن يستجدي رجلٌ تحت اسم مستعار، ثياباً مستعملة، ليرسم فرحاً رثاً على وجه أطفاله، فذاك عار وقهر يا سوريا. يا سوريا الجارحة كنصل سكين في الخاصرة، آلمت أبناءك كما لم يؤلمهم أحد من قبل

عن العيد في ذاكرتي البعيدة

عندما كنا صغاراً، كنا نتسابق للنوم في بيت جدي، فالعيد يبدأ عندهم لا كما يبدأ عندنا، تَصفُّ لنا جدتي، التي لم تكن تعرف الأسرّة، مجموعة كبيرة من فرشات الصوف على كامل أرضية الغرفة، لننام نحن الأحفاد الكثر على وقع حكاياتها، ثم نستيقظ صباحاً مع أولى تكبيرات العيد المسموعة من جامع الحي القريب، متسابقين لارتداء ثياب العيد الجديدة، حاملين عنها باقة الآس التي ابتاعتها في اليوم السابق ووضعتها في دلو ماء كيلا تذبل، ثم نتجه برفقتها وأعمامي وأبي إلى المقبرة التي تضم رفاة جدي، وفي الطريق نصادف جميع الجيران والأقرباء المتوجهين لزيارة موتاهم.

كان الأموات أول من نعايدهم في العيد، ولم تكن تلك الزيارة  تثير في أنفسنا نحن الصغار أي حزن، سيما أننا لم نكن ننتبه إن كان ثمة حزن في عيون أبي وإخوته وهم يزرعون الآس فوق قبر والدهم، وإنما كنا نعتبرها طقساً لازماً لا يبدأ العيد من دونه، نعود بعده لجمع عيدياتنا وشراء ألعابنا.

اليوم، وبعد انتهاء الحرب، لم تعد تكفينا باقة آس واحدة يا جدتي، فقد وارينا نصف العائلة الثرى.

مازالت زيارة المقابر من العادات التي يحافظ عليها السوريون بشدة أول أيام العيد، يزورون موتاهم الذين أكلتهم الحرب ويفرّغون فوق قبورهم دموعهم، وذلهم وقهرهم، ثم يغطون ذلك كله بالآس.

اليوم، رأيت بأم العين رجلاً يسند بكل دمعه سور مقبرة كاملة، فأيقنت أن الرجال قلوب هشة، يلبسون كامل جبروتهم في منازلهم، ثم ينهمرون كغيمة على أعتاب المقابر.

اليوم، رأيت بأم العين رجلاً يسند بكل دمعه سور مقبرة كاملة، فأيقنت أن الرجال قلوب هشة، يلبسون كامل جبروتهم في منازلهم، ثم ينهمرون كغيمة على أعتاب المقابر

ننتظر العيد فقط لأننا قد نحصل على منحة مالية

لم يعد يخفى على أحد في العالم تدني مستوى الأجور والرواتب في سوريا بنسبة لا تتوافق أبداً مع أدنى مستوى من مستويات المعيشة، حتى إنها خرجت نهائياً من قائمة ترتيب الدول حسب متوسط دخل الفرد، وقد جرت عادة الحكومة السورية في العامين الماضيين على إصدار منحة مالية لموظفي الدولة لتداري عجزها عن زيادة الرواتب بما يتناسب مع غلاء المعيشة، تتزامن هذه المنحة عادة مع قدوم الأعياد، وعلى الرغم من أن ما يُمنح لا يسمن ولا يغني من جوع، إلا أنه على قولة السوريين: "بحصة بتسند جرة".

لكن هذه المرة وصل العيد ولم تصل المنحة والحكومة "إدن من طين وإدن من عجين" أمام استغاثات الشعب، ولا شيء يلوح في الأفق سوى ارتفاع جنوني في أسعار السلع والمواد الغذائية.

بسبب كل ما سبق، تجد السوريين اليوم معتكفين بيوتهم، محجمين عن زيارة بعضهم، مكتفين بوسائل الاتصال الهاتفية والإلكترونية للحفاظ على ما تبقى من صلات بينهم، خوفاً على أقربائهم وأصدقائهم وعلى أنفسهم من الإحراج، فأن تقوم بزيارة اليوم يعني أن تكلف مضيفك نصف راتب شهري ثمن ضيافة بسيطة، كفنجان قهوة وصحن فاكهة.

يقول الشافعي: "جوهر المرء في ثلاث، كتمان الفقر حتى يظن الناس من عفتك أنك غني، وكتمان الغضب حتى يظن الناس أنك راض، وكتمان الشدّة حتى يظن الناس أنك متنعّم".

أما عن الفقر في سوريا فقد انفجر حتى سبغ ملامح أهليها، فما عاد ينفعهم الكتمان، فأن تتسوّل امرأة لقمة أولادها على الملأ في وسائل التواصل الاجتماعي، فذلك شيء مخزٍ ومعيب يا سوريا.

وأن يستجدي رجلٌ تحت اسم مستعار أو عضو مجهول الهوية، ثياباً مستعملة ليرسم فرحاً رثاً على وجه أطفاله، فذاك عار وقهر يا سوريا.

يا سوريا الجارحة كنصل سكين في الخاصرة، آلمت أبناءك كما لم يؤلمهم أحد من قبل.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard