في ظل الديناميكية الإيجابية التي تشهدها المنطقة بعد الاتفاق المبرم بين إيران والسعودية واستئناف علاقاتهما الدبلوماسية، زار وزير خارجية إيران أربع عواصم خليجية: الدوحة، مسقط، الكويت، أبو ظبي، في منتصف الشهر الجاري حزيران/يونيو، لتكون بداية انطلاق علاقات جديدة بين الجيران.
وعند عودته نشر الوزير الإيراني حسين أمير عبداللهيان، منشوراً على حسابه في إنستغرام جاء فيه: "تماشياً مع تعزيز سياسة الجيران التي تنتهجها الحكومة الثالثة عشرة (حكومة إبراهيم رئيسي)، بعد وقت قصير من استضافة وزير خارجية السعودية والمباحثات المفيدة التي عقدت في طهران، زرت 4 دول: قطر وعمان والكويت والإمارات".
وتابع الوزير: "تعتقد إيران أن إيجاد آلية مشتركة للحوار والتعاون بمشاركة جميع دول منطقة الخليج، أمر ضروري ومثمر أكثر من أي وقت مضى، ولهذا رحبنا بمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة بشأن اجتماع وزراء خارجية المنطقة في نيويورك، وسنطرح فكرة تشكيل 'مَجمع للحوار والتعاون' بمشاركة جميع الدول على الجانبين الشمالي والجنوبي للخليج، وسنعرض تفاصيلها المكتوبة في المستقبل القريب".
جاءت الجولة الخليجية لوزير الخارجية الإيرانية، بعد أن وسعت إيران مظلة الأدوار الدبلوماسية على العواصم الخليجية؛ أدوار تتراوح بين الاستضافة والوساطة
وجاءت الجولة الخليجية لوزير الخارجية الإيرانية، بعد أن وسعت إيران مظلة الأدوار الدبلوماسية على العواصم الخليجية؛ أدوار تتراوح بين الاستضافة والوساطة، فقبيل أن تحتضن عمان وقطر محادثاتٍ غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة، استضافت أبو ظبي اجتماعاً تنسيقياً بين طهران والعواصم الأوروبية المتواجدة في الاتفاق النووي: لندن وباريس وبرلين.
وقبل ذلك كان قد أعلن قائد القوات البحرية الإيرانية شَهرام إيراني في لقاء مع التلفزيون الإيراني عن إنشاء تحالف بحري جديد مكون من القوات الإيرانية والسعودية والعراقية والإماراتية والقطرية في مياه الخليج، كما شرح أنه كان هناك ائتلاف بحري سابق بين طهران ومسقط.
رفعت حكومة المحافظين برئاسة إبراهيم رئيسي، منذ توليها زمام الأمور في عام 2021، شعار تنمية العلاقات مع الجيران، وأكدت على عودة العلاقات مع دول الجوار خاصة العربية منها، ومع استضافة طهران لأمير قطر وسلطان عمان، زار رئيسي الدوحة ومسقط، خلال العامين الماضيين. كما يبدو أن على جدول أعماله زيارتين مهمتين: الرياض وأبو ظبي، يمكن أن تتما في العام الجاري.
يبحث الجميع عن فتح صفحة جديدة من الهدوء النسبي في المنطقة، بعدما شهدت حرباً باردة، وأخرى بالوكالة في أكثر من موقع بين طهران وعواصم خليجية، فما يطالب به قادة المنطقة اليوم هو النموّ الاقتصادي المستدام، وهذا لا يتحقق سوى بالحركة نحو السلام.
سنعرض في هذه المادة، جذور العلاقات الإيرانية الخليجية التي بدأت فصلاً جديداً من العلاقات الثنائية في المرحلة الراهنة، والتي ساعدت في خفض التوتر وتنمية العلاقات الدبلوماسية أولاً، ثم ستتجه إلى العلاقات العسكرية والأمنية كما يبدو، لتصل إلى رفع سقف العلاقات التجارية بين تلك البلدان.
صراع طهران والرياض على الشرعية السياسية
بدأت الاضطرابات بين السعودية وإيران منذ خمسينيات القرن الماضي، بسبب مشاكل ترسيم الحدود، خصوصاً تلك التي تتعلق بحقول البترول المشتركة، وبالرغم من الريبة التي كانت تشعر بها كل من الأسرتين الحاكمتين في البلدين، إلا أن هذا الخلاف لم يتطور إلى توتر عابر للحدود، لأن كلاً منهما كان منشغلاً بضبط الأوضاع الداخلية.
بعد انسحاب الإنكليز من الخليج سنة 1968، أصبحت العلاقات بين البلدين أكثر توتراً بسبب التنافس على الزعامة، والتحكم في منظمة أوبك، والأمن في الخليج، وكانت تخشى الرياض علاقةَ طهران القوية بالولايات المتحدة.
تأجج الخلاف بسبب جزر أبو موسى والطنب في الخليج. ثم اندلعت مشكلة البحرين، والتي كان الشاه يعدها المحافظة الرابعة عشرة لإيران، وانتهت الأزمة باستقلال المنامة.
ولكن أهم محطة في الصراع كانت انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 بزعامة روح الله الخميني، والتي توعد أن يصدر ثورته لباقي الدول؛ نداء سرعان ما تم تلبيته من قبل شيعة شرق المملكة حينما انتفضوا حاملين صور الخميني وشعارات ضد آل سعود.
ثم في الثمانينيات، تظاهر الحجاج الإيرانيين في مكة وأدى ذلك إلى مقتل 450 شخصاً، ما دفع بإيران للمطالبة بالوصاية على الحرمين، وردّت السعودية بتقليص ملحوظ في عدد حجاجها.
أصبح الخميني البطلَ الجديد للأمة الإسلامية بخطاباته الثورية ضد الغرب، وبذلك بات يشكل تهديداً لشرعية الأنظمة الخليجية، فقررت ست من دول الخليج الاتحادَ للدفاع عن أمنِها بإنشاء مجلس التعاون الخليجي.
ثم جاءت الحرب العراقية-الإيرانية سنة 2003، ووسعت إيران نفوذها على النخبة السياسية والحكم العراقي الجديد. وبعد الربيع العربي حاولت طهران دعم الثوار، فساندت البحرين واليمن، مما وصف بالتهديد المباشر للأمن القومي السعودي، وجعلت الرياض تتورط في حرب دامت 9 سنوات في اليمن.
الصراع بين السعودية وإيران يتفرع إلى مستويات عدة: الشرعية السياسية، والأمن والسياق الجيوسياسي، ولا يأتي الاختلاف المذهبي أو العرقي إلا كوسيلة لكسب دعم شعبي.
استمر الصراع بإعدام الفقيه الشيعي نمر باقر النمر بتهمة الإرهاب سنة 2016، فهاجم البعض السفارة السعودية وحرقها في طهران. ثم بعد سلسلة أحداث من الصراعات والحرب بالوكالة بين البلدين، عاد الطرفان إلى طاولة الحوار وتخفيض الصراع، ما سينعكس إيجابياً على كلا العاصمتين، وثمة دول عربية أخرى: اليمن ولبنان وسوريا والعراق والبحرين.
الإمارات، أكبر شريك تجاري لإيران
يمكن تلخيص الصراع بين أبو ظبي وطهران، على ملكية الجزر الثلاث: أبو موسي وطنب الكبرى وطنب الصغرى في الخليج، فمنذ خمسين عاماً وما زال التنازع قائماً حولها.
بعد الثورة الإسلامية أصبح الخميني البطلَ الجديد للأمة الإسلامية بخطاباته الثورية ضد الغرب، وبهذا بات يشكل تهديداً لشرعية الأنظمة الخليجية، فقررت ست من دول الخليج الاتحادَ للدفاع عن أمنها بإنشاء مجلس التعاون الخليجي.
وبعد الهجوم على السفارة السعودية عام 2016، خفضت الإمارات المتحدة العربية حضورها الدبلوماسي لدى طهران دعماً للرياض، كما هاجم الحوثيون المدعومون إيرانياً، موانئ الإمارات عدة مرات في عام 2020، وارتفعت المشادات الإعلامية بين الجانبين، وقرر محمد بن زايد التطبيع مع إسرائيل، فنددت طهران بذلك، واعتبرته تهديداً لأمن المنطقة.
ثم عادت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين، واستأنف سفير أبوظبي لدى طهران مهامه من جديد عام 2022. وبرغم الخلافات بين الدولتين إلا أن أبو ظبي لم تقطع علاقاتها التجارية مع طهران، فيصل حجم التجارة إلى نحو 22 مليار دولار، حيث تعتبر الإمارات أكبر شريك تجاري للإيرانيين، كما يعيش نحو نصف مليون إيراني في الإمارات.
البحرين، قضية طائفية
معظم سكان دولة البحرين من الشيعة، بينما الأسرة الحاكمة تنتمي للسنة، وكانت طهران تدّعي رسمياً أن بحرين جزء من أراضيها، حتى تنازل الشاه مقابل سيطرته على الجزر الثلاث المتنازع عليها مع الإمارات، ونالت المنامة استقلالها في عام 1970، حسب استفتاء عام برعاية أممية.
وحينما اندلعت الانتفاضة البحرينية ضد حكام آل خليفة في عام 2011، دعمت طهران المتظاهرين الشيعة، وطالبت الملك بالنزول عند رغبة الشارع، فتأجج الخلاف بين الدولتين.
وحينما قطعت السعودية علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية بسبب حرق السفارة عام 2016، قطعت البحرين علاقاتها أيضاً، ثم نفت الكثير من المتظاهرين، فضمتهم طهران، ومنهم الفقيه الشيعي عيسى قاسم.
في أيلول/سبتمبر 2020 تحركت البحرين نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وعقدت اتفاقيات عدة مع تل أبيب، واستضافت قادتهم في المنامة. احتجت طهران على ذلك وهددت البحرين بعواقب الأمر.
رحبت المنامة بعودة العلاقات بين الرياض وطهران، كما استضافت وفداً برلمانياً إيرانياً، والتقى الوفد مع رئيس البرلمان البحريني، وهناك أنباء عن مفاوضات بوساطة دولة أخرى لعودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات، وكذلك استئناف الرحلات الجوية بين البلدين، كي تتسنى فرصة زيارة المراقد الشيعية في إيران لسكان البحرين.
الكويت، علاقات هادئة
رحبت طهران باستقلال الكويت في حزيران/يونيو 1961، ففتحت الكويت سفارتها لدى طهران في شتاء عام 1962، وكباقي دول الخليج، تأثرت علاقة الكويت مع إيران، بالعلاقات السعودية الإيرانية.
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تخوفت الكويت من نفوذ أصداء الثورة بين سكانها، فقطعت العلاقات مع طهران، ودعمت صدام حسين في حربه مع إيران. بعد ذلك جددت علاقاتها في تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم كانت طهران أولَ دولة تندد بالغزو العراقي للكويت، وطالبت بإنهائه.
بعد ذلك وبرغم قلة التوترات في العلاقات الثنائية، إلا أن الكويت قللت من ممثليتها الدبلوماسية لدى طهران بعد أحداث السفارة السعودية عام 2016، ثم طالبت طهران بتقليص عدد دبلوماسيها لدى الكويت.
ثم عاد السفيران للعاصمتين في عام 2022، وتم عقد اللجنة القنصلية المشتركة بين إيران والكويت، بعد حوالى 7 سنوات، تطرقت للنقاش حول إصدار التأشيرات للمواطنين الإيرانيين، والمشاكل المتعلقة بالجالية الإيرانية في الكويت، وكذلك القضايا المتعلقة بالبوارج والسفن التجارية.
زار وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان الكويت الأسبوع الماضي (21 حزيران/يونيو 2023)، والتقى برئيس الوزراء الكويتي الشيخ أحمد نواف الأحمد الجابر الصباح، وبعد أن رحب الأخير بمساعي طهران لتنمية العلاقات مع الدول العربية، قال: "وجود 30 ألف مواطن إيراني في الكويت، إحدى الفرص للعلاقات الثنائية بين البلدين، وسياسة حسن الجوار".
عٌمان، مثال للعلاقات
تكمن أهمية العلاقات الاستراتيجية بين إيران وسلطنة عمان في وجود مضيق هُرمُز بينهما، وهي قناة طبيعية تربط الخليج بالمحيط الهندي. تقع شماله إيران وجنوبه سلطنة عمان، وتبلغ المسافة بين البلدين 21 ميلاً بحرياً.
بدأت العلاقة بين إيران الملكية في عهد الشاه محمد رضا بَهْلَوي وعُمان الحديثة بزعامة السلطان قابوس حين استولى على الحكم عام 1970، حيث طلب الأخير استئناف العلاقات بين الدولتين، فرحب الشاه، وتبادل البلدان سفراءهما.
طلب قابوس من الشاه أن يعينه في الحرب الأهلية أو ثورة ظفار في سنة 1972، فقبِل الشاه، وشارك الجيش الإيراني بنحو 4 آلاف ضابط وعشرات المعدات الجوية والبرية في صلالة، وبقيت قوات الجيش الإيراني في عمان حتى بعد نهاية الحرب، ليعودوا بشكل كامل بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
مع وقف العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والغرب بسبب الملف النووي، ودعم طهران لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، والبرنامج الصاروخي، وملف حقوق الإنسان، والاحتجاجات الأخيرة، يبدو أن حكومة المحافظين في إيران لجأت إلى تطوير علاقاتها مع جيرانها كي تخفف من ضغط العقوبات الاقتصادية التي أنهكت البلاد
بعد استقرار نظام الجمهورية الإسلامية، واصلت عمان علاقاتها مع النظام الجديد، حتى استضافت مسقط طرفي النزاع في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، بغية إجراء محادثات سرّية لوقف إطلاق النار. لم تفلح الوساطة، ولكن استمرت سياسات عمان تجاه إيران؛ فبعد حرب الخليج الأولى، استضافت وساطة ثانية لاستئناف العلاقات بين السعودية وإيران، وكذلك بين طهران ولندن. واستمرّ دورها حتى اللحظة، كوسيط آمن وموثوق بين طهران والغرب، وبين طهران والعالم العربي.
طهران تساند الدوحة لكسر الحصار
كانت إيران من أولى الدول التي اعترفت باستقلال قطر في عام 1971. وقعت قطر وإيران اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وبعد أن دعمت الدوحة بغدادَ في حربها مع طهران، رحب أمير قطر السابق حمد بن خليفة، بعد نهاية غزو الكويت، بمشاركة إيران في الترتيبات الأمنية للخليج، ولكن رفضت دول الخليج ذلك. بيد أن جهاز المخابرات القطرية حافظ على التعاون الأمني والاستخباراتي مع الاستخبارات الإيرانية.
ثم اختلف الجانبان في ملف سوريا ضمن الربيع العربي، فدعمت إيران بشار الأسد، ودعمت قطر الثورةَ السورية. وكانت الدوحة آخر بلد يساند السعودية باستدعاء سفيرها لدى طهران بعد حادثة السفارة في عام 2016.
بعد حصار قطر في عام 2017 من قبل السعودية، فتحت طهران أجواءها على الدوحة، وساندتها في كسر الحصار، فعادت العلاقات الثنائية من جديد، وأدت قطر في السنوات الأخيرة دور الوسيط بين إيران والدول العظمى بغية العودة للاتفاق النووي والحدّ من التوتر في المنطقة.
مع وقف العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والغرب بسبب الملف النووي، ودعمِ طهران لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، والبرنامج الصاروخي، وملف حقوق الإنسان، والاحتجاجات الأخيرة، يبدو أن حكومة المحافظين في إيران لجأت إلى تطوير علاقاتها مع جيرانها، كي تخفف من ضغط العقوبات الاقتصادية التي أنهكت البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...