"إنه شاعري، يحترق ليُنير طريقي". كانت هذه العبارة ذات الصيغة الفنية، رداً من سيدة الغناء العربي أم كلثوم على إحدى المذيعات، حين سألتها عن الشاعر أحمد رامي. ربما يقرأ البعض هذا الردَّ قراءة تقليدية، ويراه يعكس أنانيةً ولا مبالاة بالطرف الآخر (رامي)، وربما يرى آخرون أنها إجابة تحمل كيداً ما، بل ورغبة في إسكات الجميع؛ فالشاعر بكامل إرادته، بل وهو في غاية التلذذ والفرح، يحترق من أجل "الست".
وبعيداً عن هذه التحليلات والآراء المتعاقبة حول الإجابة التي يتساقط منها، إلى حدٍّ ما، غنجاً كلثومياً نادراً، فعلينا أن نتجه إلى الشاعر نفسه الذي مرّ ما يقرب من 42 عاماً على وفاته، ولا تزال قصته المثيرة والاستثنائية مع كوكب الشرق، في مقدمة سيرته وحياته، بل هي كل حياته، فهو القائل: "أيامي كلّها أم كلثوم. لقد أحببتها إلى درجة التقديس".
لا تزال قصته المثيرة والاستثنائية مع كوكب الشرق، في مقدمة سيرته وحياته، بل هي كل حياته، فهو القائل: "أيامي كلّها أم كلثوم. لقد أحببتها إلى درجة التقديس"
ربما السؤال المستمد من إجابة "الست" هو: هل حقاً احترق رامي من أجل أم كلثوم؟ لعل الإجابة تطرح سؤالاً آخر: هل للشعراء الحقيقيين نصيبٌ آخر غير الاحتراق؟! نعم لقد احترق رامي مئات المرات، من أجل القصيدة، وليس من أجل الست وحدها؛ كان يدخل غرفته بعد كل لقاء معها، يستعيد صوتها المُلهم، وقصتها العجيبة، هذه الريفية التي جاءت إلى القاهرة في زمن منيرة المهدية، وتُريد أن تصعد إلى ذُرى الفن، دون الاتكاء على عصابة أو حاشية.
إنها تحمل سرّاً ما، ليس فقط لأنها –بحسب عائلتها- مختارة، بسبب الرؤيا التي شاهدها أبوها قبل ولادتها، حين جاءته أم كلثوم ابنة النبي محمد في منامه، وأعطته جوهرة خضراء ثمينة، وليس لأنها من نسل الإمام حسن، فـ"سرّ" أم كلثوم لدى رامي كان يحمل بُعداً شعرياً وميتافيزيقياً لمح طيفه في ثنايا جلبابها البدوي المختبئة خلفه، وفي لمعان عينيها الذي يشع منه ذكاء حاد، وحتى يعثر رامي على هذا السرّ كان عليه أن يحترق. لكن هذا الاحتراق لم يكن لشاعرٍ فقط، بل كان أيضاً لمحبٍّ عاشق ظلّ يحترق ويكتب حتى وصل –ربما– إلى أبدية الحب، وكانت النتيجة ولادةَ أكثر من 150 أغنية، تحتل مكانة خالدة في سجل الغناء العربي، وفي قلوب عُشاق كوكب الشرق.
هنا كُتب الخلود لشعر رامي؛ هو الذي تخلى عن كتابة القصيدة الفصيحة، تلبيةً لرغبة معشوقته، حين طلبت منه أن يكتب لها قصائد بلغة الصحافة، يفهمها عامة الناس يتأثرون بها، ويُرددونها بسهولة. لكن كيف بدأت الحكاية؟
في عام 1924، كان أحمد رامي لا يزال في بعثته الدراسية في باريس، حين تلقى رسالة من أحد أصدقائه يُخبره بأن ثمة مطربة ناشئة، لها صوت ساحر، تُغني قصيدته "الصب تفضحه عيونه". اندهش شاعر الشباب رامي من هذا الأمر، وعلى الفور أنهى بعثته، وجاء إلى القاهرة، متشوقاً لرؤية هذه الشابة التي غنت قصيدته قبل أن تراه أو يراها. وفي اليوم التالي لوصوله، اتجه رامي بصحبة صديقه إلى حديقة الأزبكية حيث تغني هناك المطربة الشابة كل ليلة خميس.
هذا اليوم الفارق في تاريخ رامي، ظل يوماً آسراً له، حتى أنه حكى عنه كثيراً في كل اللقاءات التي اُجريت معه، وكتب عنه في بعض المذكرات التي تركها: "ظهرت أم كلثوم على المسرح، فتاة صغيرة ترتدي 'العقال' فوق رأسها، ومن خلفها جلس أفراد أسرتها من الموسيقيين، ونظرتُ مدققاً إلى هذه الفتاة؛ الذكاء الشديد يشع من عينيها، حركتها كلها ثقة. وأفقت من تأملاتي عندما همس صديقي في أذني: لماذا لا تتقدم وتطلب منها أن تُغني لك قصيدتك؟ وهكذا بعد تردد تقدمت منها، وقلتُ لها: مساء الخير... قالت في هدوء: مساء النور. وعُدت أقول لها: أنا غريب عن مصر منذ سنوات، ومشتاق لسماع صديقتي. وفي الحال أدركت من أكون. فقالت: أهلاً سي رامي. وعُدت إلى مقعدي من جديد، وغنت أم كلثوم قصيدتي: 'الصب تفضحه عيونه/وتنمّ عن وجد شؤونه'".
هذا اللقاء الأول بين رامي وأم كلثوم، أثار في نفس الشاعر، الدهشةَ والعجب من هذه الشابة الصغيرة، التي تغني بكل ثقة وهي مرتدية جلبابها البدوي، والعقال على رأسها، وعلى وسطها حزام. مشهد لم ينسَه شاعر الشباب طوال حياته، فيما القدر كان ينسج له حكاية طويلة مع هذه الشابة، سيُكتب لها الخلودُ للأبد. إنه خلود الحب والفن معاً، تحقَّقَ عبر الذكاء الخارق لسيدة الغناء العربي، وبالأحرى "اللعبة" الذكية التي أداراتها باقتدار، على مدار نصف قرن، وبجوارها رامي شاعراً وعاشقاً ملتاعاً.
ما هي قواعد لعبة الست؟ وهل كان رامي ضحيةً لها؟ قبل الإجابة على هذين السؤالين، علينا أن نذهب إلى اللقاء الثاني الذي تأخر لشهرين بين الشاعر وأم كلثوم، التي كانت قد ذهبت بعد اللقاء الأول لقضاء إجازة الصيف مع أسرتها برأس البر.
ثار في نفس الشاعر، الدهشة والعجب من هذه الشابة الصغيرة، التي تغني بكل ثقة وهي مرتدية جلبابها البدوي، والعقال على رأسها، وعلى وسطها حزام؛ مشهد لم ينساه شاعر الشباب طوال حياته.
تحكي أم كلثوم تفاصيل ما دار في هذا اللقاء في الكتاب الشهير "معجزة الغناء العربي" لرتيبة الحفني، والذي هو بمثابة فصل من فصول السيرة الفنية والذاتية لكوكب الشرق، تقول: "لم يُتح لنا أن نلتقي أنا ورامي على الفور بعد اللقاء الأول، لأنني كنت قد سافرت إلى مصيف رأس البر. فلما عدت اتصلت به، واتفقنا على موعد. وقد كان. في لقائي الثاني برامي، قلت له إن الجمهور يجب أن ينتقل من الأغاني المسفة التي يسمعها، إلى القصائد والشعر العظيم على مراحل. فقال رامي: ولكنني أعددت لك قصيدة 'إن حالي في هواها عجب'. قلتُ بعد أن قرأت كلماتها: تبدو في كلماتها السهولة... سوف أغنيها، ولكني أفضّل أن تستعمل في كلمات الأغاني ما هو سهل ومتداول. ما يمكن أن يفهمه الناس دون عناء".
بعد هذا اللقاء توالت قصائد رامي لأم كلثوم، حسبما اتفقا، لا إسفاف ولا عناء، فقدم لها الطقاطيق: "إنت فاكراني ولا نسياني، إن كنت أسامح وأنسى الأسية". ثم انتقل إلى معلقاته الغنائية: "سهران لوحدي"، "غلبت أصالح"، "جددت حبّك ليه"، "يا ظالمني"، "ياللي كان يشجيك أنيني"، و"هلت ليالي القمر"، والتحفة الفنية الخالدة "رباعيات الخيام" التي ترجمها أحمد رامي عن الفارسية مباشرة بعد دراسته في بعثة باريس لهذه اللغة التي عشقها.
ولم يأخذ رامي مليماً واحداً ثمناً لكل ما كتبه لأم كلثوم، باستثناء أغاني الأفلام التي كان يدفع أجرها المنتجون، وعندما اعترضت الست على ذلك وقالت له: "إزاي مش هتاخد فلوس؟ أنت مجنون!". ردّ عليها قائلاً: "نعم أنا مجنون بحبّك، والمجانين لا يتقاضون ثمن جنونهم. هل سمعتِ أن قيس أخذ من ليلى ثمن أشعاره؟!".
وهكذا تمّ الاتفاق الفني بين الشاعر ومطربته، فكان يذهب إليها يوم الاثنين الذي خصصه لها -وهو يوم إجازته من عمله الحكومي بدار الكتب المصرية- حاملاً قصائده، لتختار من بينها ما تحب أن تغنيه. وبجوار قصائد رامي، كانت هناك دواوين وقصائد الشعراء القدامى مثل المعري، وابن الرومي، وابن الفارض، وأبو العتاهية، وغيرهم من عمالقة الشعر. كان رامي يجلس بجوار الحبيبة، ويقرأ لها من عيون الشعر العربي، وكانت هي تناقشه في المعاني وتغوص معه في بحور الشعر وموسيقاه، فيما هو هائم في هذه السيدة التي كما قال من قبل تجلو الألفاظ لتنيرها، وتبث فيها من روحها، فتأتي موسيقاها هادرة وكأنها آتية من عالم آخر.
وأم كلثوم التي عشقت الشعرَ وتمنت أن تكون شاعرة، تحكي بتقدير كبير عن هذا الدور الذي لعبه أحمد رامي معها في تلقيها للشعر والإحساس بموسيقاه؛ تقول في الكتاب السابق ذكره: "يبقى لرامي فضل آخر، هو أنه جعلني أتعلق بالشعر. فقد كان يعمل في دار الكتب. وكان يُحضر لي دواوين الشعر فأقرأ. أقرأ بصوت عال. فأسمع موسيقى الشعر. وأناقشه في المعاني، فيضيف إلى ما فهمته. وأحس أنني أغوص إلى أعماق جديدة في بحور الشعر العربي. وعلى يد رامي قرأت 'الأغاني' في أحد عشر جزءاً. وقرأت 'كليلة ودمنة'، ولكل الشعراء القدامى. حتى تمنيت يوماً أن أكون شاعرة. وأحَسّ رامي بهذا وكان يقول لي: لا عليك أن تكوني شاعرة. إن تذوق الشعر وحده موهبة".
هذه العلاقة الأسطورية بين رامي وكوكب الشرق كانت دائماً في بؤرة الضوء؛ نُسجت حولها الحكايات، وتلقفها المحبون والمغرضون في آن. ونالت سهام الكارهين قلبَ رامي الهشّ الرقيق، واعتبروه ضحية من ضحايا الست بجانب محمد القصبجي، وكتبت الكثير من الأقلام أن هذا الشاعر قد أفنى حياته في سبيل امرأة لا تحبّه، حتى أن صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي قد نصحه بأن "تزوجٌ حتى ترى خلق الله في خلقك"، وكانت نصيحة شوقي تنطوي، كما هو متداول، على رغبة في إبعاد رامي عن أم كلثوم، لتخلو له الساحة مع مطربه وصديقه محمد عبد الوهاب.
وظل السؤال "لماذا لم يتزوج رامي وأم كلثوم؟" مشهراً في وجه الشاعر والست، ومثيراً للجدل، والحكايات التي كان أغلبها من صنع الخيال. فهناك من قال – مستنداً على ما ذكرته رتيبة الحفني في كتابها- أن أم كلثوم قد أعطت خاتماً لرامي مكتوباً عليه اسمها، وقالت له: هذا لك. ليبق معك طوال حياتك. غير أن ذلك لم يؤكَّد في كتاب الحفني؛ صحيح أنه كان هناك خاتم في يد رامي محفور عليه اسم أم كلثوم بالإنكليزية، لكن الست لم تكن قد منحته شيئاً. وإزاء هذه العلاقة العجيبة، نجد أنفسنا نحن أيضاً، قد وقعنا في شرك هذا السؤال: لماذا لم يتزوج رامي وأم كلثوم؟ بل، هل أحبت كوكب الشرق شاعرها رامي؟
كان حبّ رامي لأم كلثوم معلَناً أمام الجميع، فهو لم يخفِ عشقَه لها أبداً، أما هي فقد قالت صراحة عندما سُئلت: لقد أحببت رامي الشاعر، لا الرجل.
ثمة سؤال آخر: هل أراد رامي الزواج من أم كلثوم؟ هناك الكثير من الثغرات في هذه الحكاية. لكننا في تتبع سيرة الحب والفن هذه، ربما يتكشف لنا جانب آخر من القصة؛ فثمة لعبة أداراتها باقتدار أم كلثوم، هذه السيدة ذات الثبات والرسوخ، علاوة على الذكاء الحاد، فقد أدركت أم كلثوم –بحسب ما ورد في كتاب رتيبة الحفني وفي مقالات مشاهير الفن والأدب في ذلك الزمن- أن رامي شاعر يشعله الحرمان، ويحرضه على كتابة القصائد، وإن وصل إلى غايته، ستنضب روحه من الشعر.
وماذا عن رامي؟ هل رغب في الزواج حقاً من أم كلثوم؟ من خلال الاطلاع على العديد من المراجع والحوارات، بل بالنظر إلى المشروع الشعري لرامي وما يُمثله له، نرى أن الإجابة: لا
كان رامي هو الشاعر المفضل لدى كوكب الشرق، وكانت هي في حاجة إليه لصناعة أسطورتها وترسيخها، ومن ثم لم تبح له يوماً بالحبّ الذي لم تكن تكنه له كرجل، وأبقته هكذا على جمر النار. ومن أساليب هذه اللعبة، أنها كانت تتعمد في بعض الحفلات، ألا تغني قصائد رامي، فيعود إلى بيته متألماً، مجروحاً، ومن حالة الألم هذه يكتب للست قصيدة جديدة.
لكن، ماذا عن رامي؟ هل رغب في الزواج حقاً من أم كلثوم؟ من خلال الاطلاع على العديد من المراجع والحوارات، بل بالنظر إلى المشروع الشعري لرامي وما يُمثله له، نرى أن الإجابة: لا. لم يرغب رامي في الزواج من سيدة الغناء العربي، لأنه هو الآخر كان سيخسر القصيدة، وملهمته في آن واحد. وهكذا أدارت أم كلثوم اللعبة وكان رامي متواطئاً معها. ويا لجمال هذه اللعبة التي أهدت إلينا روائع خالدة في سجل الغناء العربي، وفي وجدان الملايين.
ظل رامي وفياً ومخلصاً لمعشوقته أم كلثوم، حتى بعد وفاتها عام 1975، حيث عاش بعدها لست سنوات في حالة من الاكتئاب الشديد، رافضاً أن يكتب حرفاً في غيابها سوى قصيدة رثائها: "ما جال في خاطري أني سأرثيها/بعد الذي صغتُ من أشجى أغانيها/قد كنتُ أسمعها تشدو، فتطربني/ واليوم أسمعني أبكي وأبكيها".
ظل أحمد رامي في هذه الحالة من الحزن العارم، حتى توفي في حزيران/يونيو عام 1981، عن عمر ناهز الـ 89، بعد رحلة حياة درامية مغلفة بالأسى والولَه، وملئية بالفن والشعر والغناء، والكثير من العذاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت