ما لا شك فيه، أننا جميعاً حظينا بصداقات كثيرة على مدار مراحل حياتنا المختلفة، ما يجعل الحديث عن الصداقة متاحاً للجميع ولا يحتاج معارف أو مؤهلات خاصة، فالكل مُحمّل بزاد من التجارب يكفي ليدخل غمار النقاش بيقين العارف.
وإن كان الحديث الأكثر طرحاً بين فئات واسعة من الناس منذ ثبوت حاجة الفرد إلى رفيق أو أنيس، يدور غالباً حول أهمية الصداقة بعد تجارب ناجحة، أو التشكيك في فرضية وجودها بعد تجارب خائبة، فإن لي زاوية أخرى. فأنا لا أستطيع بأي حال من الأحوال نكران وجود الصداقة المثالية التي ينشدها الجميع، لكن ماذا لو خذلنا الأصدقاء؟ هل نسقط في فخ الكره أو نذهب مذاهب أخرى؟
سألتني صديقتي ماذا لو أتيحت لك الفرصة لشطب شخص أو مجموعة من حياتك، هل ستجدين أسماء جاهزة؟ هل سيكون بمقدورك فعل ذلك؟
قبل أيام، باغتتني صديقتي بسؤال أربكني في البداية، ولكن الإجابة التي صدرت عني جعلتني أعود إلى نفسي وأعيد ذات السؤال، علني أظفر بإجابة أخرى غير التي قدمتها، لعلي تسرعت في حكمي، لكن حواري مع نفسي لم يثمر عن إجابة مغايرة. قد يتساءل البعض ما هذا السؤال الذي أثار داخلي هذه الفوضى التي حملتني حتى لهذه الأسطر؟ لكن مهلاً قبل ذلك أريد أن أسأل: هل بمقدور أحدكم أن يقول يوماً بثقة، أتمنى لو بإمكاني محو ذلك الشخص نهائياً من ذاكرتي، أن يشطبه من صور الأيام التي كان بطلها دون منازع؟ هل يمكن أن نصل إلى النقطة التي نتأمل فيها شطب جزء من ذاكرتنا بسبب أحدهم، دون أن يكون مرد ذلك كرهنا له أو حقداً دفيناً؟
لقد سألتني صديقتي ماذا لو أتيحت لك الفرصة لشطب شخص أو مجموعة من حياتك، هل ستجدين أسماء جاهزة؟ هل سيكون بمقدورك فعل ذلك؟
لم أتردد كثيراً، وأشرت مباشرة لفتاة كانت لسنوات رفيقة درب لم يكن قصيراً بل وكانت الصديقة الأجمل لقرابة عقد من الزمن. فوجئت صديقتي التي حتماً تحسست حزني وأنا أقول ذلك، ولم تواصل الحوار.
كنت أعني تلك الإجابة تماماً رغم حساسيتها بالنسبة لي، فليس من اليسير أن تمنح أحدهم صدقك ومحبتك وثقتك لسنوات، بل وتكتفي به صديقاً دون البقية ممن ينشدون صداقتك، اعتقاداً منك أنه يساويهم جميعاً. غالباً عندما نصل إلى هذه النقطة مع أحدهم يصبح من الصعب بالنسبة لنا توقع الخذلان، أو افتراض أن ينكرك فجأة دون مبررات أو تفسيرات تذكر، كما حدث معي تماماً.
وعندما يحدث ذلك نتألم بعمق كبير، بل أستطيع القول إنه ألم مضاعف، أتعرفون لماذا؟ في الحالات العادية عندما تغلبنا الأوجاع نرتمي في أحضان الصديق الأقرب لأرواحنا، ولكن عندما يتحوّل هذا الصديق الذي اصطفيناه من بين الجميع إلى مبعث حزننا، حينها لمن سنشكو ذلك، ومن سينصت إلى اعترافاتنا وصراخنا ودموعنا وضعفنا برمته؟ في هذه اللحظة لا بد أن نلملم وجعنا وحدنا.
ليس من اليسير أن تمنح أحدهم صدقك ومحبتك وثقتك لسنوات، بل وتكتفي به صديقاً دون البقية ممن ينشدون صداقتك، اعتقاداً منك أنه يساويهم جميعاً. غالباً عندما نصل إلى هذه النقطة مع أحدهم يصبح من الصعب بالنسبة لنا توقع الخذلان، أو افتراض أن ينكرك فجأة دون مبررات أو تفسيرات تذكر، كما حدث معي تماماً
آلمني كثيراً بعد ما مر من سنوات (قرابة خمس سنوات) على هذه التجربة أن يكون ردي حاسماً بهذه الطريقة، فأنا التي لم يكن بوسعي أبداً أن أضمر الكره لصديقتي رغم ما تركه تنكرها الفجائي لي من ألم، لكن كان بمقدوري أن أود لو لم تكن في سجل ذكرياتي. لم أفهم كيف تستقيم المتناقضات هكذا؟ قد يبدو من غير المنطقي أن نحمل الكثير من المحبة لأحدهم ونرجو في لحظة صدقنا مع أنفسنا شطبه نهائياً، ربما هذا ما يسمونه لعنة العواطف التي لا تقبل التفسير أحياناً.
ولا عجب أن تحدث الصداقة فينا كل هذا الالتباس وهذا التناقض، كيف لا ونحن نقحم من نسميه صديقاً في دواخلنا، نناقش عيوبنا أمامه، نضعها دفعة واحدة بين يديه دون أن حرج أو ريبة، نرفع معه الغشاء عن نواقصنا دون أن يتملكنا الخوف، ونلقي بأرواحنا في الواهنة بكل ضعفها دون أن نضطر للتلون أو التجمل أو الكتمان.
في الحالات العادية عندما تغلبنا الأوجاع نرتمي في أحضان الصديق الأقرب لأرواحنا، ولكن عندما يتحوّل هذا الصديق الذي اصطفيناه من بين الجميع إلى مبعث حزننا، حينها لمن سنشكو ذلك، ومن سينصت إلى اعترافاتنا وصراخنا ودموعنا وضعفنا برمته؟ في هذه اللحظة لا بد أن نلملم وجعنا وحدنا
يتكوّن لدينا شعور أصيل أن هناك، في هذا الفضاء المحيط بنا، من يحتفظ لنا بأجنحة تقينا لحظة السقوط، ويتملكنا إحساس دفين بأن لا خوف من نفاذ زادنا، لأن طوق نجاتنا يقف قبالتنا دائماً ولن يفلت يدنا، وربما لهذا عندما سُئل أرسطو عن الصديق قال إنه "إنسان هو أنت... إلا أنه بالشخص غيرك".
هذه الصورة الأخرى عن ذاتنا كما ذهب إلى ذلك أرسطو، لا يمكن برأيي أن نرميها في خضم ما يحدث من تقلبات، قد تصل حد خذلانها لنا، في نيران كرهنا أو حقدنا، لأن تفاصيل المحبة الكبيرة التي رافقت طريقنا السابق عصية على التلف. قد نتوهم في لحظات انفعالنا الأولى أننا استنفذنا ذخيرة المحبة تلك لكن بمجرد أن تهدأ ثورتنا، نكتشف بوضوح كم هو صعب أن نغير صور أصدقائنا الذين أحببنا.
ربما لهذا وددت بصدق أن أخرج صديقتي التي خذلتني من سجل ذكرياتي بلا عودة، لم أشأ أن أحافظ على صورتها جامدة، بلا حياة وبلا تفاصيل جديدة: ما وزن الذكريات إذا لم تكن جزءاً فعلياً من حاضرنا وغدنا؟ ما أهمية بقائها محنطة في أحد الأركان؟ لم أسقط قط في فخ كراهية صديقتي، لكنني لم أعد أريدها في سجل محطاتي السابقة، ربما كيلا أشعر يوماً أنني أسأت الاختيار وأنا التي مازلت أتمسك بعكس ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 12 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين