شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عليّ أن أكتفي بمحمد منير الذي اخترعته

عليّ أن أكتفي بمحمد منير الذي اخترعته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 21 يونيو 202311:17 ص

عليّ أن أكتفي بمحمد منير الذي اخترعته

استمع-ـي إلى المقال هنا

في لحظة مرّت بالتأكيد على أي شاب مصري حاول كتابة الشعر وهو مازال طالباً في الجامعة، كنت أجلس مع أصدقائي في المقهى، لساعات من أجل أن نحقّق حلمنا الكبير، أن نكتب كلمات أغنية لمنير. طبعاً لم نفكر أننا لا نعرف كيف نصل إلى منير، لكن ذلك السؤال لم يكن عائقاً أمامنا، فمنير هو صديق شخصي لكل من استمع إلى أغانيه، لكلٍّ منا منيره الخاص الذي اخترعه ورافق بدايات تفتح وعيه، وربما ساهم في صياغته، ومنحه كلمات مختلفة لمعاني ابتذلها الطرب المصري عن الحب والوطن، وربما كان الوحيد الذي يغنّي عن الشيء المفقود الذي بدونه لا يصلح حب أو وطن: الحرية، كما يقول في أغنية "يونس"، كلمات عبد الرحمن الأبنودي.

لذا كان يكفي أن نكتب كلمات جميلة كما ظننا، كي يفتح لنا صديق المخيلة بابَه، كنا نكتب حينها ما نظن أنه سيكون كلمات منيرية حتى النخاع، فكنا نسرق من قاموس أغانيه الجميلة والهامة في مرحلة أحمد منيب وعبد الرحيم منصور ومجدي نجيب، هؤلاء الذين صنعوا أسطورته، فكنا ننتج أغاني تشبه منيراً، لكنها تحوي الكثير من الادعاء والسذاجة و"الحزق". كلمات كالغربة، حل الضفاير، السما، النخل، البحر، القمر، الشمس، والتي ظننا أن منير قد وجدها قبل أي مطرب آخر.

وتلك ليست أزمة، كنا مجرّد طلبة حالمين في الجامعة، الأزمة هو أن ما يغنيه منير فعلاً من بعد ألبوم "من أول لمسة"، كانت كلمات تشبه تلك التي ألّفناها على المقهى، مجرّد كلمات مدعية تحوي كل قاموس منير القديم، لكنها لا تشبه منير الفنان، بل منير " البراند"، " كأنه منير الكليشيهات التي عبر بها إلى مرحلة الجماهيرية الساحقة، تاركاً " مريديه الأصليين" ، ليتحول إلى مجرد منافس في سوق البوب المصري وسوق الإعلانات، مطرب ضمن عشرات المطربين، بحسب وصف الناقد الموسيقي محمد عطية، ليتحول منير من مغني المساكن الشعبية إلى مغني للتجمعات السكنية الفاخرة وعبوات الزيت والسمن، كأنه يبحث عن مكافأة نهاية الخدمة.

منير هو صديق شخصي لكل من استمع إلى أغانيه، لكلٍّ منا منيره الخاص الذي اخترعه ورافق بدايات تفتح وعيه، وربما ساهم في صياغته، ومنحه كلمات مختلفة لمعاني ابتذلها الطرب المصري عن الحب والوطن

انقلاب على ما كانه، بدأ مع انضمامه إلى شركة فري ميوزيك التي حرّرته من منير الذي أردناه، وكل ما قال بنفسه أنه مثله، يوسّع من دور الغناء العربي المقولب، ليستسلم لتلك القولبة عن طيب خاطر، ويكتسب عبر تلك الخطوة جماهير هم أضعاف أضعاف "مريدييه" الأصليين، متحرّراً من مشروعه برمته، لصالح أغاني أخفّ، لا كلمات لشعراء كبار، لا موسيقى مختلفة، لكن النجم لم يترك الفنان، ظل يستنسخه كأنه منير، يبني طريقه إلى النجومية بقاموس الكلمات نفسها والإيحاءات نفسها عن الوطن والحرية، بكثير من الادّعاء و"الحزق"و الأفورة".

*****

عقب حفل "مشواري" الذي أقامه لمنير تركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه، وهو حفل مبهر، بحضور موسيقيين عالمين وطريقة إخراجه، أشار الكاتب عبده البرماوي إلى التناقض المزعج بين مشروع منير الفني المتقدّم في زمنه والمحرّض، وبين ما يمثله تركي آل شيخ الذي يعيد الفن إلى مربع التسلية الصرفة الذي يفرغ "الرهان السعودي على دور الفن في تغيير وجهة المجتمع"، ففكر آل شيخ في جوهره يمثل إهانة للفن "وتحقيراً لدوره". أموال تركي معادية لأي روح تقدمية، غايتها الاستحواذ بلا حيثية وبغير رؤية حقيقية، شيء يعتمد الإبهار من خارجه ويضمر التخلّف العميق في داخله. ينسحب على الفنانين أنفسهم، فيردهم من مكانهم كصنّاع وعي إلى مجرّد أراجوزات تافهة تضحك أمير البؤس.

أموال تركي آل الشيخ معادية لأي روح تقدمية، غايتها الاستحواذ بلا حيثية وبغير رؤية حقيقية، شيء يعتمد الإبهار من خارجه ويضمر التخلّف العميق في داخله

طالب البرماوي الشباب السعودي أن يميزوا بين منير الذين رأوه على المسرح محاطاً ببهرجة وأضواء لا تخصّه ومنفصلة عن جوهر مشروعه الفني، بحثاً عن منير الذي كان يقول لنا في غناه قبل عقود، إننا نستحق الأفضل؛ حرية وديمقراطية وتقدمية وإنسانية. فهم أولى بهذه الرسالة اليوم منا، ومن منير نفسه.

ما فهمته عن رؤيتي عن منير، أدين له لمقابلة معه في بيته، عندما ذهبت إليه دون معرفة أو موعد مسبق، نزوة اتبعتها في بدايات عملي الصحفي.

ما أتذكره من هذا اليوم غائم، كالطريق إلى بيته في جاردن سيتي، ولا ضوء فيه سوى جرأة المغامرة ووقاحة اليقين. سرت دون أن أفكر مرتين، فلو فعلت لما خضت الطريق. وبثبات أخبرت أمن العمارة: لديّ موعد مع الملك. وكانت كذبة. طلب مني الأمن الانتظار للتأكد من أن لدي موعداً بالفعل. وظننت أني سأطرد، بعد اكتشاف كذبتي. كان هذا عامي الثاني في القاهرة، قبل عشر سنوات من الآن، أعمل في صحيفة مهدّدة بالإغلاق، ودون غرفة نوم تخصّني أو نقود أو عائلة أو أصدقاء.

لكني أفلتُّ بالكذبة وصعدت عندما جاء صوت مساعده، دون ارتباك ودون تلفّت، ودون أن أصدق أن ذلك حدث.

استقبلني شاب أسمر وشديد التهذيب. سألني: هل ترغب في شرب شيء حتى يأتي الملك؟ طلبت قهوة بتعفّف الملوك، بينما كنت أرتجف في داخلي: ها أنا في قلعة الكينج، أجلس على أريكته، واحتسي قهوته؛ بشارة النصر، وعلامة النبوءة.

كان منزلاً واسعاً، أثاثه قائم على الأناقة واللطف. جاء الكينج، فوجئت بقصر قامته، في طولي تقريباً، ظهره محني، نحيل الجسد، يعرج قليلاً.

كان دافعي وراء تلك المغامرة فكرة لطمت رأسي وامتلكت روحي، ظنتها الإلهام وتأكيد الهبة: ماذا لو ألّفتُ كتاباً عن الملك؟ لا، هذا سهل. ماذا لو وصفتُ تاريخ مصر عبر ألبومات محمد منير؟

كان علينا، ومنذ زمن طويل، أن نفك ارتباطنا الشاعري بمنير المليء بالحنين الذي يخلط الحب باللطميات، وأن يكتفي كلٌّ منا بمنير الذي اخترعه. وربما لم يكن في بلد مثل مصر، ليتحوّل من فنان إلى أسطورة، إلا بعد أن يتخلّى عن منير القديم

الأكيد أني لم أكن مستعداً في سن كهذا لفكرة كتلك حتى لو كانت كليشيه. طلب مني الكينج الجلوس، وأن أكون مرتاحاً أكثر، محاولاً رويداً رويداً امتصاص غرابة الموقف، وظني أنه كان يخطط ببرود للتخلّص من المتطفّل الذي فاجأه. أخبرته بفكرتي القنبلة عن كتابة تاريخ مصر عبر أغانيه. لكن يا لدهشتي، لم تزلزله الفكرة، بل قال ببرود تام: "لقد عُرضت عليّ الفكرة ذاتها من كتّاب أشهر منك، وطلبتُ مقابلاً مادياً كبيراً، لمَ أعطيها لك مجاناً؟".

شعرتُ بالحرج. قمت لأغادر غاضباً. لكنه تمسّك بي قائلاً: "اجلس... أنت تغضب بسرعة". جلست وقرّرت التودّد له بما أعرف، فذكرت كل الكليشيهات التي أحفظها عنه. أخبرته أني أحبه لأنه قاوم، آمن، أيقن، ولم يضل، ولم يزلّ، وقبض على الجمر، لهذا نجح. لكنه قال ببرود مماثل: "نجحت لأني أقضي أغلب الوقت خارج مصر، في ألمانيا عند شقيقتي".

كان بإمكاني التفكير ملياً في الإجابة المفاجئة، لكني آثرت أن أؤكد لنفسي مجدداً على الكليشيهات التي أحفظها عن منير، فتصرف عقلي لا إرادياً كأني لم أسمعها. قلت له: "نحبك لأنك عكس المطربين، لم ترغب في بطولة فيلم تافه، قصته ساذجة ومكرّرة عن صعود مطرب، وفضلت دائماً الانحياز للسينما المهمة بأدوار أصغر".

لم يرد لي محبتي بالامتنان الذي توقعته، بل أجاب منزعجاً: "لم أختر هذا.. بل المنتجون هم من خافوا إسناد بطولة فيلم إلى مطرب أسمر، وقريباً ستراني بطلاً على الشاشة".

أسقطتُ الإجابة كأنها لم تكن. لم يجل في بالي لحظة أنه لم يقل سوى الحقيقة. بعد عشر سنوات، من تلك المقابلة سيقدّم أسوأ مما قدّمه المطربون السذج، في مسلسل "المغني". كان الأمر يمثّل له جرحاً. لم يعتبرها بطولة، بل إهانة.

أسمعني منير أغاني لم تُطلق بعد. طلب رأيي وكنت مبهوراً لأني سمعت الأغاني قبل الآخرين، حتى إني لم أعرف ما أقوله. كنت أملك رأياً: كل كلام الكينج حلو، فلتقل ما تشاء. وهذا لم يكن رأياً على الإطلاق.

استأذنت في المغادرة، وصّلني بنفسه إلى الباب. بعد عشر سنوات من خروجي من بيت الكينج، أفكّر أن منير كان يرغب في أن أراه عارياً من أي خيال خاطئ، من أسطرته، كان يرغب في أن يقول إنه ليس ما تخيّلناه، لكني كنت أكثر سذاجة من التقاط ذلك.

ربما كان علينا، ومنذ زمن طويل، أن نفك ارتباطنا الشاعري بمنير المليء بالحنين الذي يخلط الحب باللطميات، وأن يكتفي كلٌّ منا بمنير الذي اخترعه. وربما لم يكن في بلد مثل مصر، ليتحوّل من فنان إلى أسطورة، إلا بعد أن يتخلّى عن منير القديم. يستحق منير النجومية أكثر من أي مطرب آخر، لكننا نستحق منير القديم، وكل ما غنّى من أجله، هذا ما يجب ألا ننساه. ما قدمه لكل واحد منا، سواء كان من " مريديه الأصليين" أو من الأجيال اللاحقة كان كافياً ليستحق لقب الفنان والأسطورة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image