شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جدّتي فارقت الدّنيا... ولم تفارق رائحتها قلبي

جدّتي فارقت الدّنيا... ولم تفارق رائحتها قلبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 19 يونيو 202301:41 م

لو لم تظهر تجاعيدها التي غطّت وجهها وحتى يديها، ولولا تساقط أسنانها الأمامية، لظلّت جدتي ذات الـ87 عاماً طفلةً صغيرةً ترتدي جوارب الأطفال وأحذيتهم؛ فقياس حذائها لا يتجاوز الـ35، ويحتار أبناؤها عند انتقاء حذاء أو "شبشب" لها، لأنّهم لا يعثرون على أيّ منها من دون أن تحمل صورةً كرتونيةً. أحذيتها وجواربها والشبشب تحمل أحياناً صوراً تدلّ على أنّها لطفل.

أذكر جيّداً أنها كانت تخجل من كل زائر يزورها، وهي بغير لباسها التقليدي، وتقول: "أشعر بأنني عارية".  هذه الطفلة الصغيرة تزوجت مرّتين قبل أن تبلغ سن الزواج

جدّتي قصيرة القامة، بشوشة الملامح، زيَّنت وجهها بعض النقوش ذات اللون الأخضر (الوشم)، ولا تحمل من الحليّ سوى خاتم وسوار من الفضة، أما عن لباسها التقليدي "الحرام"، وهو لباس تونسيّ ترتديه معظم الجدّات يضم ألواناً عديدةً، فقد تخلت عنه منذ فترة طويلة. لقد تمدَّنت جدتي الجميلة وارتدت الجبة التي هي لباس تقليدي تونسي شهير، ولم تتعود على هذا اللباس الجديد إلا بعد فترة من الزمن.

أذكر جيّداً أنها كانت تخجل من كل زائر يزورها، وهي بغير لباسها التقليدي، وتقول: "أشعر بأنني عارية".  هذه الطفلة الصغيرة تزوجت مرّتين قبل أن تبلغ سن الزواج المناسبة التي من المفترض أن تكون بعد سنّ البلوغ.


تزوجت زيجتها الأولى في سنّ لا تدري ما هي، ولم تكن تجيد القراءة والكتابة، وكثيراً ما قالت إنها سنّ لم تكن تبلغ فيها بعد مرحلة البلوغ. أمّا المرّة الثانية، فكانت في سن ما بعد البلوغ، وكان جدّي زوجها الثاني. كان جدّي صعب المراس معها، لطيفاً رؤوفاً بأبنائه. أنجبت من البنات ثلاثاً، ومن الأبناء أربعة. حين توفي ابنها البكر، انطلقت معاناتها الحقيقية ولازم ملامحها الحزن برغم محاولة إخفائه بابتسامتها العذبة اللطيفة، فجدّتي لا تقهقه. حتى نبرات صوتها يغلب عليها الهدوء واللطف. حين تتحدث قصد النصح يكون كلامها في غالبيته همساً لكيلا يسمع أحد موضوع النصيحة، مع مسكة خفيفة باليد، وأحياناً توصيات بعدد الأصابع. تقول: "لا تفعلي هذا وافعلي هذا، واحذري من هذا الأمر".

جسد نحيل وقويّ

أحتار كثيراً ممّا يصدر عن ذاك الجسد النحيل من قوة وصبر. حين يجادلها أحدهم أو إحداهن تكتفي بالنّظر إليه باستغراب وتمضي في حال سبيلها من دون أن ترد الفعل. تنظر إلى من يجادلها إلى الأعلى، لأنها أقصر قامةً من الجميع، فأشعر بأن الجميع أقوى منها. لكنَّ الأفعال التي تمارسها يومياً تبيّن مدى القوة التي فيها.

تستيقظ جدتي منذ الساعات الأولى للصباح، حين تكون الأعين عادةً مخدرةً بلذة النّوم الصباحي والجسم عاجزاً عن أن يتمالك نفسه وينهض، فجاذبية النوم قوية جداً لدى معظم الأشخاص. لكن جدتي تستيقظ من دون منبّه في التوقيت نفسه يومياً. لقد تعودت على ذلك منذ أن تزوجت. تنطلق في إعداد الخبز وعليها أن تعدّ كميةً لا بأس بها منه تكون كافيةً لفطور الصباح ووَجْبَتَي الغداء والعشاء.

أحتار كثيراً ممّا يصدر عن ذاك الجسد النحيل من قوة وصبر. حين يجادلها أحدهم أو إحداهن تكتفي بالنّظر إليه باستغراب وتمضي في حال سبيلها من دون أن ترد الفعل

تقوم بالعجن وتشكيل الخبز، ثم تقصد مكان الطهي. إنه خبز الطابونة الذي يُصنع في فرن تقليدي تونسي يُصنع من مادة الطين. وعند طهي الخبز، يتم تجهيزه بما تيسّر من الحطب لتصبح ناره ملتهبةً، فيتم وضع الخبز داخله ليُطهى في دقائق معدودة. وعلى هذه النار الملتهبة تقوم جدتي بتعديل خبزها الشهي كي لا يحترق. أما عن المعاصم والأصابع والكفوف المحترقة بـ"لسعات" الجمر، فحِّدث ولا حرج. جسم جدّتي النحيل يتقوى على نفسه، ويحمل وعاء الخبز الجاهز الكبير إلى المنزل، فيكون جاهزاً لفطور الصباح، وساخناً ولذيذاً قبل أن يستفيق الجميع، وقبل أن ترسل الشمس أشعتها الصباحية الأولى حتّى.

جدتي صاحبة العشرة الطيبة

هذا الخبز لا يكفي أهل البيت فحسب، بل الزائر والجار وكلّ شخص داست قدمه عتبة بيت جدتي في ذاك اليوم.

أما "العولة" (تخزين الكسكسي)، فيُعدّ يوم عيد في منزل جدتي الذي يقصده عدد من الأقارب والجيران من النساء قصد المساعدة، ومن الرجال للتذوق من "كسكسي العولة". وتقوم المرأة التونسية بعولة الكسكسي في فصل الصيف بكميات كبيرة تكفي طوال السنة.

جدتي فارقت الدنيا ولم تفارق رائحتُها قلبي لأنّ لكلّ جدّ وجدّة رائحةً مميّزةً. 

يعلم الأهل والجيران مدى طيبة جدتي، فيكثفون الزيارة. والزيارة في مدينتنا ليست متعلقةً بالأعياد والمناسبات فقط، بل تكاد تكون يوميّةً. ولا يمكن أن يغادر الزائر منزلها قبل أن يأكل ويشرب ويلقي بجسده على أحد المفروشات لينال قسطاً لا بأس به من الراحة.

زارها المرض الخبيث...

اهتزت حياة جدتي في مناسبتين: حين توفي ابنها الأكبر، وحين مرض ابنها الثاني بالداء الخبيث. تألمت في صمت إلى أن زارها الداء الخبيث في صمت، ولم ينبهها بأيّ من علاماته المرضية. لعلّه نبّهها ببعض الألم، لكنها ظلت صامتةً، ولم تُظهر ذلك إلى أن تمكّن منها، فأضعفها وانتشر فجأةً في كامل جسدها. لم يمنحها فرصةً للمقاومة أو حتى للألم. تمكّن من كامل أعضاء جسدها النحيل واستضعف قوتها، ولم يتمكن الأطباء من فعل شيء. كان صعباً جداً الاقتناع بأنها ستفارق الحياة في أيّ لحظة. لازمت الفراش وآلة الأوكسيجين طوال شهر رمضان، لتفارق الحياة يوم العيد، بعد أن تبادلت التهاني مع أبنائها صباحاً.

ماتت جدتي وختمت بموتها تاريخاً من عمري يحمل في طياته حنان الأجداد والجدات، فهي آخر أجدادي. شاءت الأقدار أن أودّعها بعد لقاء أخير جمعني بها قبل أشهر، خلاله لمحت في عينيها نظرات وداع، ولكن لم يسعني التّصديق.

جدتي فارقت الدنيا ولم تفارق رائحتُها قلبي لأنّ لكلّ جدّ وجدّة رائحةً مميّزةً. رحلت وخلّفت في الذهن صورةً لا يمكن أن تفارقني، ونظرةً ومشيةً مختالةً ويدين ملتويتين خلف الظهر، وابتسامةً كانت ترتسم على محياها وهي تتجاذب مع أحدنا أطراف الحديث، خاصّةً عند التندّر ببعض الطرائف التي وقعت ذات يوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard