الغناء دائماً مرادف للحياة، يصورها ويصفها ويعكس تفاصيلها بكل دقة، تتسرب إليه عادات وتقاليد وتختلط به أفكار ومبادئ، قصص عن العشق وعن الحزن وعن الظلم والفرح والبؤس، كل المشاعر التي تنتاب النفس البشرية تقوم الأغنيات بغزلها وإعادة تدويرها بطريقة تمتزج فيها الموسيقى وأنماطها المتعددة فتخرج إلينا منا، ومن عالمنا الذي نتماهى فيه بشغف حيناً وبتذمر حيناً آخر.
أرشيف من العذوبة
رغم انتماء ليبيا للمساحة الجغرافية المعروفة بالمغرب الكبير الذي يضم كل الدول العربية الممتدة من ليبيا حتى موريتانيا، ورغم تشابه أنماط الغناء المختلفة في المناطق الحدودية بين هذه الدول، فإن ليبيا ظلت تبتعد بأغنياتها عن بعض القضايا التي التصقت بنظيراتها في تونس والمغرب والجزائر، فالأخيرة كانت تطرق كثيراً أبواب الهجرة والاغتراب والابتعاد عن وطن قد لا يجد فيه أبناؤه ضالّتهم. أما في ليبيا فلم يكن الاتجاه إلى خارج حدود الوطن قد جرى بعد على الألسن وتسرب إلى أحلام الشباب.
المحرق لا يحتاج إلا إلى المال الذي يطفئ جشع المهربين وموبايل سيتقاسم مع صاحبه المصير فإما يصل إلى بر الأمان أو يفارق الحياة بعد أن يتسرب الماء إلى بطاريته ورئتي صاحبه
هي نظرة خاطفة على أرشيف الأغنيات الليبية الشعبية أو الكلاسيكية في النصف الأخير من القرن الماضي ولن نجد تقريباً أي أغنية تتحدث عن الهجرة سواء تدعمها أو تدعو للابتعاد عنها. وهذا لا يعني على كل حال مفردة "الغربة" التي لم ترتبط في القاموس الليبي بالهجرة التي عرفها الليبيون في السنوات الأخيرة، قوارب بعضها مطاطي يصبح المسافر على متنها أقرب للموت منه للحياة ويصبح الخيط الرابط بينه وبين هذا العالم رفيعاً حدّ التلاشي.
إن "غربة" و"شنطة سفر" ومفردات غيرها استعملها الفنان الثوري، ناصر المزوادي، في أغنياته لتسبق حتى المزاج المغاربي النازع إلى الرحيل والهجرة "والحَرقة".
صدر الألبوم الشهير للمزداوي عام 1975 أي قبل ولادة بعض أشهر فناني الراب في شمال أفريقيا وكان يضم الأغنية الشهيرة "شنطة سفر".
صدر الألبوم الشهير للمزداوي عام 1975 أي قبل ولادة بعض أشهر فناني الراب في شمال أفريقيا وكان يضم الأغنية الشهيرة "شنطة سفر". هذا الألبوم بموسيقاه الحديثة كان ثورة في عالم الموسيقى العربية لم يكن موضوع الأغنية مشابهاً لما يتناوله فنانو الراب اليوم. ففي فترة السبعينات والثمانينات كان الليبيون يختبرون الغربة. لكن ليست تلك المرتبطة بالقوارب التي يديرها المهربون خلسة في غفلة من عيون خفر السواحل على ضفتي المتوسط. كان الليبيون في تلك الفترات يسافرون من المطارات والموانئ ويدخلون إلى إيطاليا ورومانيا وروسيا والمجر ومالطا وعدة دول كانت صديقة للنظام السياسي الحاكم آنذاك، إمّا هذا أو أن يكون السفر والابتعاد عن الوطن من نصيب أولئك المغضوب عليهم من قبل النظام السياسي فيهاجرون تاركين كل شيء خلفهم ويبدأون حياة جديدة بعيداً عن قبضة الحاكم .
حين كان السفر حكراً على المعارضين السياسيين
نلاحظ أيضاً مع بداية الستينيات وقبل موجة الرحيل التي تلت أحداث أيلول/سبتمبر 1969 انتشار أغنيات تحمل في طياتها السفر والترحال لكنها تنظر إلى الوجه المشرق لغول الفراق اللعين، فتتجاهل البعد والغربة وتركز على العودة إلى حضن الوطن ودفء الأحبة كما في رائعة خالد سعيد "
طوالي مروح" التي كتبها مسعود القبلاوي ولحنها علي ماهر:
طوّالي مروّح طوّالي
لصغاري والوطن الغالي
طوالي راجع لاحبابي
يكفي من الغربة يا صحابي
في الشهر الماضي رحل آخر ثلاثي هذه الأغنية الملحن علي ماهر ورغم هذا ستبقى لتُسمَع في كل مرة مُدَشِّنة الارتباط الغريب مع الأرض رغم حلكة الظروف وحاثّة على هزيمة الغربة والارتماء في الأحضان البعيدة عنها.
هناك أيضاً رائعة محسن بيت المال "ترجع بالسلامة" التي راجت في أوساط الشباب أوائل التسعينيات، أي الفترة التي انتشرت فيها ظاهرة السفر إلى أوروبا ومالطا تحديداً عن طريق البحر بإجراءات سلسة غير معقدة، لا كما هي اليوم تقترب من المستحيل. كانت الأغنية أيضاً تحمل الأمنيات بالرجوع إلى الأحضان المُحبّة بعيداً عن الدموع والشوق:
ترجع بالسلامة
الاحباب تراجي فيك
انشالله بكرة العين تشوفك
دمعتها مشتاقة ليك
في ذلك الوقت بالذات كان السفر الطويل في ليبيا حكراً على المعارضين السياسيين والسفر القصير يمارسه طلاب العلم بضع سنين قبل العودة السريعة للوطن. كانت الأغنيات في المغرب الكبير خاصة "الراي" تصف حال الإنسان الذي وقع تحت ظلم أو استعصت عليه لقمة العيش ما اضطره لفرد جناحيه فوق الأزرق الكبير ليعبر المتوسط إلى إيطاليا وفرنسا أو يتبع خطى الأسلاف على جبل طارق فيستقر في إسبانيا وعدة مدن أخرى في البلاد البعيدة.
وقد لخص الشاب خالد هذا في أغنيته "وهران" التي صدرت بداية تسعينيات القرن الماضي:
وهران وهران رحتي خسارة
هجروا منك ناس شطارة
قعدوا في الغربة حيارى
والغربة صعيبة وغدارة
الحرقة غير السفر... مسألة حياة أو غرق
يقولون في تونس "الحَرْقَة" بتخفيف القاف، ولعل هذه المفردة جاءت من عدم الشرعية، فالفعل يحرق يختلف كلياً عن الفعل يسافر لأن الأخير يحمل أوراقاً تثبت هويته ويحمل حقيبة ملابسه ويعبر إلى العالم الآخر من مطار أو ميناء أو حتى من معبر حدودي بري.
لكن من يحرق يرمي بكل هذا في قلب نار مستعرة فتجبره الحياة على تجاهل هويته حتى إذا كانت في جيبه وترك معظم ملابسه في خزانته القديمة. المحرق لا يحتاج إلا إلى المال الذي يطفئ جشع المهربين وموبايل سيتقاسم مع صاحبه المصير فإما يصل إلى بر الأمان أو يفارق الحياة بعد أن يتسرب الماء إلى بطاريته ورئتي صاحبه.
مثل كل شيء في ليبيا تغيرت هذه النظرة في الأغنيات أيضاً بعد أحداث شباط/فبراير 2011، خاصة في "الراب". هذا النمط الفني الذي يكون أقرب إلى الصرخة المدوية في وجه الواقع المدجّج بالقهر المحفوف بالمخاطر.
فنانو الراب في ليبيا لم تستثنهم الظروف الاقتصادية والسياسية التي خيمت على البلاد، حتى في الأوقات العادية يصورون أغنياتهم في أماكن تتصاعد منها أعمدة الدخان وتنتشر في أرجائها الجدران المدمرة .
فنانو الراب في ليبيا لم تستثنهم الظروف، حتى في الأوقات العادية يصورون أغنياتهم في أماكن تتصاعد منها أعمدة الدخان وتنتشر في أرجائها الجدران المدمرة .
وكما كان الرابر التونسي الشهير "بالتي" يتساءل قبل سنوات:
زعما نحرق والا لا لا؟
استمر حتى شهور مضت في تناول هذه المفردة في أغنيته "وينو الحب" فلم تجعله الظروف يستبعد "حرقة لبلاد الروم" لأنها لا تزال أملاً يداعب خيالات شباب الضفة الجنوبية للمتوسط، بل انضمت للركب منذ سنوات الجنسية الليبية الحديثة العهد بالحرقة والهجرة لتزاحم الفارين من جحيم العالم الواصلين إلى القوارب الهشّة من مجاهل أفريقيا، غير عابئين جميعاً بالغول الأزرق العظيم الذي يتربص بأرواحهم في عرض البحر.
سامحيني يا أمي تفكيري في الهجرة
صار الليبيون أيضاً ممن تراودهم فكرة الهجرة بعيداً وتحديداً "الحَرقة" بعد أن خذلهم جواز السفر الليبي الذي تساقطت منه الدول بعد 2011 كما يتساقط الرطب الجني من نخلة باسقة. في أغنيته "
بحر" يريد الرابر ياسين بن لادن أن يشقّ البحر بسبب نفاد صبره من الحياة في بلاده التي عاش فيها كل عمره منذ ولادته رغم أصوله المغربية التي لم تبعده عن رغبته في الاتجاه شمالاً. أيضاً في أغنيته "تاعب" مع الرابر الليبي أحمد الشعافي نجده يحوم حول نفس الفكرة؛ العمر الضائع والعمل المرهق دون عائد وتراكم الهم والفقد على القلب الشاب.
يقولون في تونس "الحَرْقَة" بتخفيف القاف، ولعل هذه المفردة جاءت من عدم الشرعية أو المخاطرة، فالفعل يحرق يختلف كلياً عن الفعل يسافر لأن الأخير يحمل أوراقاً تثبت هويته ويحمل حقيبة ملابسه
من الأغنيات التي أعتبرها مرجعاً مهماً في عكسها تفاصيل البيت الليبي ووصفها المشاهد التي تسبق وتواكب فعل الانسحاب منه "
يا بحورنا" رائعة عيسى بن دردف وعماد القطعاني التي قالت كل شيء عن حياة شاب ليبي في بلاده وعتابه لها على طعناتها المتلاحقة وصولاً إلى جثة تعود إلى الشاطئ الذي انطلقت منه ولا تصل وجهتها:
يا بحورنا يا زهر أمانينا وصّي السفينة
أولادك تاهوا في حواريك الحزينة
شفنا واجد موش شوية
يمي ليبيا ضاقت بيا
بنهاجر واخترت السفر طريقي
معاش نبّيها بلادي
فيّا توجّع زادت ضيقي
يا بلادي أنا ولدك اللي يقمّر في الحرقة
عايش في طرابلس وفزان وبرقة
جعلت الظروف الاقتصادية والأمنية في البلاد هذه المفاهيم تتسلّل بخفة إلى أحلام الشباب خاصة، فلم تسلم من هذا المدّ حتى مدرجات الملاعب، يقول ألتراس الجزّارة "الأهلي بنغازي" في نشيدهم روس المافيات:
نكتب ونغنّي وخانقتني العَبرة
سامحيني يا امي تفكيري في الهجرة
تمّا طموحي في العيشة بَرَّا
بلكي نتهنّى وجروحي تَبرا
قصص وحكايات كثيرة وكبيرة عن ليبيين سافروا من مطارات أو حتى هاجروا من شواطئ خاضعة لسلطة المهربين بدأوا حياتهم من بعيد وحققوا شيئاً من أحلامهم وغيرهم ضاقت بهم الغربة فعادوا فزعين. هنالك أيضاً قصص وحكايات كثيرة لليبيين لم يغادروا تراب البلاد الساخن فقاوموا شراسة الواقع واستطاعوا أن يروضوا عناد لقمة العيش فكتبوا قصص نجاح باهر وما زالوا يقطفون ثماره في كل يوم رغم الصراعات المستترة القادرة على الظهور للعلن في أي لحظة ورغم الاشتباكات التي قد تشعلها كلمة وتطفئها رصاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت