"فين أيام عباس كامل وحسين فوزي الله يرحمه، الناس اللي كانوا بيعملوا الافلام الاستعراضية اللي مش موجودة دلوقتي؟". (من لقاء إذاعي جمع شكوكو بماري منيب عام 1969).
عبد الغني قنبَر الشيرازي، تاجر سجاد من أصل إيراني كان يعيش في مصر في القرن العشرين، وهو والد لثلاثة من مخرجي السينما المصرية المؤسسين والمؤثرين. ما تذكره كتب التاريخ عن جدّهم، علي قنبر الشيرازي، الرسام الإيراني الذي عاش في القرن الثالث عشر ميلادي، غريب، فربما انتقلت موهبة الفن من الجدّ إلى أحفاده الثلاثة في القرن العشرين.
أحمد جلال، حسين فوزي، عباس كامل، ثلاثة أشقاء ساهموا بمواهبهم المتعددة في نشأة السينما المصرية وتطويرها، واختلفت مصائرهم وأعمالهم. هم أشقاء لكن لديهم أسماء مركبةً كما كان سائداً في ذلك العصر.
تنوعت مواهب الثلاثة فشملت الفن التشكيلي، وكتابة الأغاني والسيناريو، والتمثيل، والكتابة الصحافية، والإنتاج، والماكياج، والمونتاج، والإخراج، واكتشاف المواهب الجديدة. تزوج الثلاثة من ممثلات، فامتزجت علاقاتهم الزوجية والعاطفية بحبهم للسينما.
جلال... ستوديو وميلودراما
كان أحمد جلال يعمل صحافياً في مجلة اللطائف المصورة في دار الهلال، وكان حاضراً منذ بدايات السينما المصرية، إذ شارك، كتابةً وتمثيلاً، في فيلم "ليلى" عام 1927، مع عزيزة أمير، وارتبط اسمه بعدها بالمنتجة والممثلة اللبنانية آسيا داغر، وأخرج لها 10 أفلام بين عامي 1933 و1942، وتزوج من ماري كويني ابنة أختها في عام 1940، وأسسا "استوديو جلال" في عام 1944.
تنوعت مواهب الثلاثة فشملت الفن التشكيلي، وكتابة الأغاني والسيناريو، والتمثيل، والكتابة الصحافية، والإنتاج، والماكياج، والمونتاج، والإخراج، واكتشاف المواهب الجديدة
ربما لم يكن جلال الشقيق الأبرز في موهبته السينمائية، ولم تبرز أفلامه في تاريخ السينما المصرية، ولكنه ساهم في نشأتها عبر إنشاء ستوديو مهم، وأفلام اجتماعية وعاطفية، غلب الخط الميلودرامي الاجتماعي عليها، مثل "رباب" و"عودة الغائب"، وهو الخط الذي استكمله مساعده في الإخراج حسن الإمام، الذي عمل مع ماري كويني بعد وفاة جلال في عام 1947، وهو في الخمسين من عمره. احتفظ الإمام بتيمة الميلودراما من أربعينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، بأفلام أصبحت جزءاً من تاريخ السينما المصرية مثل "ظلموني الناس"، "الخطايا" و"بالوالدين إحساناً". فتح جلال الباب لشقيقيه ليستكملا مسيرته ويقدّما المزيد للسينما، ولابنه وحفيده في ما بعد، نادر وأحمد جلال.
حسين فوزي... الرسام مكتشف النجوم
بدأت علاقة حسين فوزي بالسينما أيضاً مثل شقيقه أحمد جلال، من خلال فيلم "ليلى" لعزيزة أمير، الذي شارك فيه بالتمثيل، وارتبط بعالم الصحافة ولكن كرسام. درس الفن في أوروبا، وعمل في دار الهلال ثم رسم أفيشات السينما، واختارته عزيزة أمير ليُخرج لها فيلم "بياعة التفاح" المأخوذ عن "بيجماليون" أو سيدتي الجميلة لبرنارد شو. وفي هذا الفيلم ظهرت موهبته الخاصة في اكتشاف النجوم، عندما طلبت عزيزة أمير وجهاً جديداً ليشاركها البطولة، فعثر عليه فوزي في مكاتب وزارة الأوقاف، وأصبح بطل فيلمها وزوجها في ما بعد، وهو الممثل والمخرج محمود ذو الفقار، شقيق عز الدين وصلاح ذو الفقار.
بعدها قدّم أول بطولة لتحية كاريوكا في فيلم "أحب الغلط"، وتعاونه الثاني معها كبطلة في فيلم "نادوجا" مع شقيقه عباس كامل وبديع خيري في السيناريو والحوار، وأخرج أفلاماً عدة بعد ذلك، أبرزها "بلبل أفندي" لفريد الأطرش، إلى أن وصل إلى اكتشافه الأهم كما يروي الكاتب ماهر زهدي في كتابه "التمر حنّة".
لفتت نعيمة عاكف القادمة من سيرك عاكف، نظر عباس كامل في أدوارها ورقصاتها السينمائية الصغيرة، فدعا حسين شقيقه لمشاهدتها في ملهى الكيت كات على المسرح، وأُعجب بها حسين فوزي وقرر تقديمها مع وجه جديد آخر هو المذيع سعد عبد الوهاب في فيلم "العيش والملح"، في مخاطرة زاد منها سباقه مع أنور وجدي الذي كان يقدّم أيضاً أول بطولة لنعيمة، وغيّر اسم فيلمه من "سارق الحب" إلى "آه يا حرامي" في اتهام لفوزي بسرقة اكتشافه، ونجح وجدي في أن يسبق فوزي ويعرض فيلمه في نهاية عام 1948، بينما عُرض "العيش والملح" في كانون الثاني/يناير 1949.
ضحك حسين فوزي أخيراً وكثيراً؛ تفوّق فيلم "العيش والملح" في إيراداته برغم تكلفته المتوسطة، وتخطى في نجاحه فيلم "شادية الوادي" لنحاس وهو فيلم للشركة المنتجة نفسها، وكان من بطولة يوسف وهبي وليلى مراد، ليدرك أهل السينما أن فوزي عثر على كنز جديد، واستطاع توظيفه في توليفة شعبية تخرج من قلب الحارة المصرية، حارة العيش والملح التي تمتزج فيها الشهامة المصرية مع القصة الدرامية مع الغناء والاستعراض. طرق فوزي الحديد وهو ساخن فقدّم في العام نفسه 1949، فيلم "لهاليبو" الذي أضيف فيه الاستفادة من مهارات نعيمة عاكف في السيرك والأكروبات.
عشرة أعوام من "التمر حنة" تنتهي بـ"أحبك يا حسن"
استمر مشوار فوزي ونعيمة من بداية تعرفه إليها سنة 1948 حتى 1958. أصبح كل منهما مفتاح نجاح الآخر، وقدّما عدداً من الأفلام الناجحة التي عاشت في ذاكرة الجمهور: "بلدي وخفة"، "مليون جنيه"، "تمر حنة"، وبعد وفاة زوجة فوزي اليوغوسلافية، تحول الارتباط الفني إلى ارتباط عائلي فتزوجا في عام 1953. ولأن الزواج الفني سلاح ذو حدين، فقد منح الزوجين 5 سنوات من التعاون الفني المثمر، انتهت بالطلاق الشرعي والفني مع آخر فيلم جمعهما: "أحبك يا حسن".
تزوج فوزي بعدها من الفنانة الشابة ليلى طاهر التي قدّمها في فيلم "يا حبيبي"، وتزوجت نعيمة عاكف من محاسبها ومستشارها صلاح عبد العليم، قبل أن تتوفى بالسرطان في نهاية ميلودرامية.
لم يتوقف حسين فوزي عن العمل بعد الانفصال، وقدّم أفلاماً عدة كان أكثرها نجاحاً: "ليلى بنت الشاطئ" الذي قدّم فيه أجواء شعبيةً وسط مجتمع الصيادين هذه المرة، لينجح في تقديم فيلم غنائي جمع فيه بين محمد فوزي وفايزة أحمد، لأول وآخر مرة، ثم قدّم تجربةً فنيةً تستهدف وضع عبد السلام النابلسي كنجم أول في فيلم "عاشور قلب الأسد"، ولكن الجمهور اختار أن يبقى النابلسي في الأدوار المساعدة، فلم يحقق الفيلم النجاح، وقدّم بعده فيلمه الأخير "البنت الحلوة الكدابة" عام 1962، وتوفي في العام نفسه.
عباس كامل... الساخر الشعبي صاحب الخيال
تزداد الموهبة والأهمية بالتدريج من الشقيق الأكبر وصولاً إلى أصغر الأشقاء الثلاثة، عباس كامل الأكثر ابتكاراً وصاحب الحس الكوميدي المميز، ليضيف تلك المكونات إلى خلطة شقيقه حسين الشعبية الغنائية. يتقاطع مشوار الأخوة الثلاثة كثيراً. عمل كامل أيضاً في صحف دار الهلال، وبدأ مشواره ككاتب سيناريو وحوار مع شقيقه حسين فوزي في فيلم "نادوجا"، وتزوج من أجنبية أولاً، ثم من الفنانة سعاد مكاوي، وانفصلا وتزوج مرةً ثالثةً.
أما نجاحه البارز فجاء مع كتابته فيلم "طاقية الإخفاء" للمخرج نيازي مصطفى عام 1944، الذي حقق نجاحاً إلى درجة جعلت عباس يقدّم "عودة طاقية الإخفاء" بعد عامين، مع محمد عبد الجواد مساعد نيازي مصطفى. كان "طاقية الإخفاء" من إنتاج عزيزة أمير التي عمل معها شقيقاه، بالاشتراك مع محمود ذو الفقار الذي اكتشفه حسين فوزي.
قدّم كامل في أول أفلامه اكتشافه الراقصة اليونانية نيللي مظلوم، "صاحب بالين"، وفي ثاني أفلامه كمخرج قدّم محاولاته لمزج خياله الواسع بالفيلم الغنائي، مثل تجربته في "عروسة البحر" لعقيلة راتب ومحمد فوزي، إلا أن نجاحه الكبير يأتي من وصوله إلى الخلطة الشعبية مع الفنانَين كارم وعبد العزيز محمود، وقد يكون النجاح منطقياً مع كارم الأكثر وسامةً والأجمل صوتاً في أفلام "خبر أبيض" و"لسانك حصانك"، ولكن التحدي الحقيقي كان نجاح عبد العزيز محمود صاحب الأغاني الخفيفة البعيد عن الوسامة واللياقة البدنية، وذلك بتقديمه محاطاً بجيران الحارة وأهاليها، وهم مجموعة من أقوى ممثلي الكوميديا: ماري منيب وحسن فايق وشكوكو والقصري والنابلسي، في حوار ذكي وخفيف الظل مضافة إليه أغانٍ خفيفة في أغلبها وراقصة شرقية، ليخرج الجمهور من الفيلم سعيداً بالوجبة الكاملة البهارات.
لكن ذلك النجاح لم يحبس عباس داخل الأطر التقليدية، فقدّم أفكاراً جريئةً حتى بمعيار الزمن الحالي، في فيلم "عروسة المولد" (1954)، والبطلان هما سكر وحلاوة، وهما فارس الحصان وعروس المولد عندما يتحولان إلى بشر في أمنية يحققها إبليس، ويقدم فكرةً تقدميةً فانتازيةً في فيلم "الكمساريات الفاتنات" قصة كامل وإخراج حسن الصيفي. وفيه تطالب الفتيات بحقهن في العمل كـ"مساريات في الأوتوبيسات"، وهو ما لم يحدث حتى اليوم، وما يتبع ذلك من مواقف، وفي "هاء تلاتة"، يقدّم فكرةً من الخيال العلمي عن رجل عمره 80 عاماً يتناول عقاراً يعيد له الشباب.
حكاية الأخوة أحمد جلال وحسين فوزي وعباس كامل هي حبة من عنقود طويل من حكايات الوافدين إلى مصر الذين منحوها الفن وحازوا على المجد فيها
والملاحظة أن نهايات الخمسينيات شهدت زيادة اعتماد عباس كامل على مخرجين آخرين لتنفيذ أعماله، وهو ما أنتج اثنين من أنجح أعماله الكوميدية عبر تاريخ السينما المصرية: "إسماعيل يس في مستشفى المجانين" للمخرج عيسى كرامة عام 1957، و"ابن حميدو" عام 1958، ليقدّم بعد ذلك فيلماً غريباً على مسيرته وألوانه الفنية: "شهيدة الحب الإلهي" عن حياة رابعة العدوية، من بطولة عايدة هلال كبطلة للمرة الأولى.
واختفى الفيلم من الذاكرة التاريخية، ربما لظهور فيلم رابعة العدوية من بطولة نجمة جديدة هي نبيلة عبيد وغناء أم كلثوم، ويعلن هذا الفيلم عن بدء التراجع الكبير في مسيرته، فخلال 15 عاماً من 1962 حتى 1977، أخرج عباس 5 أفلام فقط، لم تلقَ الصدى الجماهيري الكبير. واستمر خياله الباحث عن الجديد في فيلمين من الـ5، هما "العقل والمال" لإسماعيل ياسين الذي مزج فيه بين الألوان والأبيض والأسود، و"مذكرات الآنسة منال" لنيللي وأحمد مظهر وعادل إمام، الذي قدّم فيه قصصاً منفصلةً ومتصلةً عن قصص منال العاطفية، ولكن الجمهور تغيّر كثيراً عما كان عليه في الأربعينيات والخمسينيات، ليتوقف عباس كامل عن العمل في السينما حتى وفاته في كانون الأول/ديسمبر 1985.
الشائع أن مصر هي هوليوود الشرق، ولكن أعتقد أن الأدق أنها هوليود الشرق الأوسط، إذ جمعت عبر الزمن الفنانين والمغامرين، من المحيط الأطلنطي غرباً، إلى تركيا وباكستان وإيران شرقاً، وحكاية الأخوة أحمد جلال وحسين فوزي وعباس كامل هي حبة من عنقود طويل من حكايات الوافدين إلى مصر الذين منحوها الفن وحازوا على المجد فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع