"أتذكر أنني حين ولجت المدرسة الابتدائية، لم أكن أتحدث الدارجة (العاميّة المغربية). لم أعرف كيف أطلب من الأستاذة أن تسمح لي بالذهاب إلى المرحاض، فبدأت تسخر مني، وقالت لي: "ما الذي أتى بك للدراسة إن كنت لا تتحدث العربية؟"؛ يحكي لحسن لرصيف22.
ترعرع لحسن، في منطقة تُعدّ الأمازيغية هي اللغة السائدة فيها، ولم يكن يتحدث الدارجة المغربية إلا في مناسبات قليلة، ولم يُعفه تعلّمها من التخلص من التمييز العنصري، فلكنته الأمازيغية ظلت طاغيةً على طريقة حديثه: "لطالما سخر مني الناس بسبب الطريقة التي أتكلم بها، فاللهجة الأمازيغية التي أتحدث بها تتصف بالبطء، وهو ما ينعكس على طريقة حديثي بالدراجة"، يقول لحسن ويضيف: "في المرحلة الجامعية كنت ألتقي بأشخاص يتحدثون الدارجة، يقولون لي تحدث بالعربية أو عُد إلى الجبل".
كثيراً ما نسمع عن "التمييز العنصري"، أي معاملة شخص أو مجموعة معيّنة بشكل مختلف وسلبي، وكثيراً ما يرتبط هذا التمييز بالجنس، اللون، العرق، الدين، الجنسية والإعاقة وغيرها من السمات التي تجعل الفرد مختلفاً، إلا أنه قليلاً ما نسمع عن سمة أخرى يعاني الأفراد بسببها من تمييز "عنصري" وهي اللغة، وهو ما عاشه لحسن وكثيرون في المغرب بحكم أن الأمازيغية هي لغتهم الأم التي ترعرعوا عليها قبل أن يعيشوا في مناطق ناطقة بالعربيّة.
التمييز اللغوي... أحكام مسبقة
تُخبر اللغة أو اللهجة التي يتحدث بها الأفراد الكثير عنهم، فهي تكشف عن البلد أو المنطقة التي ينتمون إليها، وتجعل الآخرين يرسمون عنهم انطباعات ربما ليست حقيقيةً، حيث يكفي أن ينطق الفرد حتى يبدأ المحيطون به بافتراض مستواه التعليمي، مهنته، وضعه الاجتماعي ومستوى ذكائه وثقافته، فيدخل في دوامة من التصنيفات الاجتماعية والثقافية، وربما يتعرض بسبب ذلك للتمييز اللغوي.
التمييز اللغوي هو تعرّض الفرد لمعاملة مختلفة وغير عادلة استناداً إلى اللغة أو اللهجة التي يتحدث بها، حيث يتم تكريس لغات أو لهجات أو لكنات قياسية يُنظر إليها على أنها الأفضل والأعلى قيمةً، ويتم ربطها بالوضع الاجتماعي والثقافي العالي، فيما يتم ربط لهجات أو لكنات أخرى بالفقر والمستوى التعليمي والثقافي المنخفض، كما يمكن من خلالها افتراض مدى قدرة الشخص على النجاح في أداء مهام معيّنة. ويظهر التمييز اللغوي على مستويين أساسيين، يتجلى الأول في عدم إتقان الفرد لغةً ما، ويشمل ذلك طريقة نطق بعض الحروف، وطبيعة المفردات المستعملة، بالإضافة إلى اللكنة، ويتجلى المستوى الثاني في الحديث بلغة أو لهجة تصوّر على أنها أقل قيمةً، حيث يُنظر إلى لهجة أو لكنة معيّنة على أنها الأفضل، فيما يُنظر إلى باقي اللهجات بطريقة دونية.
من الناس من يستهزئ من طريقة كلامي بطريقة جدية، لأن طريقة نطقي للدارجة لا تروقه، فيسألني ما هذه العربية التي أتحدث بها؟
يرى الأستاذ الجامعي المتخصص في السوسيو-لسانيّات، عمر عبدوه، في حديثه إلى رصيف22، الاختلاف بين اللهجات واللّكنات بأنه أمر إيجابي، إلا أن التمييز بينها على أساس الأفضلية يُعدّ مشكلةً مجتمعيةً، ويضيف: "اللهجات واللكنات هي كائنات حية في المجتمع، فهي تحدد الجغرافيا اللسانية في أي بلد، والتمييز بين الناس هو أمر طبيعي بالنظر إلى هذه الجغرافيا اللسانية التي ترتبط بالجغرافيا المجالية، فكما توجد الحدود الترابية بين الدول، توجد أيضاً الحدود اللسانية داخل الدولة الواحدة، إذ تتغير اللهجات واللكنات بالانتقال من منطقة إلى أخرى، تماماً كما تتغير الجغرافيا، وتالياً فهذا معطى مهم جداً يخلق الاختلاف بين الأفراد، وهو أمر حيوي وإيجابي في المجتمعات"، ويضيف أن النظر إلى بعض اللهجات واللكنات بطريقة دونية، مشكلة مجتمعية نابعة من مجموعة من الإسقاطات والتمثلات التي تعود إلى السلم المجتمعي، فالتموقع داخل الهرم المجتمعي هو تموقع طبقي وتموقع لغوي في الوقت نفسه.
ويرى عبدوه، في هذا الإطار أنه يجب أن نغيّر نظرتنا إلى اللهجات واللكنات، فهي شأنها شأن التضاريس الجغرافية، إذ يجب أن ننظر إلى المعجم اللِّسْني بالطريقة نفسها التي ننظر بها إلى تنوع التضاريس، ويضيف أنه من الغرابة ربط لهجة ما أو عدم إتقان لغة معيّنة بالذكاء أو القدرات الشخصية.
التنوع اللغوي بيئة خصبة لنمو التمييز اللغوي
لا تخلو مختلف المجتمعات من مظاهر التمييز اللغوي، فالتنوع اللغوي واقع حتمي، يمكن أن يتمظهر في وجود لغات مختلفة داخل المجتمع، كما يمكن ألا يتجاوز حدود اختلاف اللهجات أو فقط اللكنة وطريقة النطق، وتالياً فهذا التنوع يشكل أرضاً خصبةً لحضور التمييز اللغوي ونموه، خاصةً إذا تغذى على تكريس لغات أو لهجات قياسية على أنها الأعلى قيمةً، ويُعدّ المغرب من البلدان التي تعرف كلا المظهرين، حيث يتميز المشهد اللغوي المغربي بوجود لغتين رسميتين هما العربية والأمازيغية التي حظيت بمكانتها هذه في دستور 2011. ويشكّل تنوع لهجات وتلوينات هاتين اللغتين فسيفساء من اللكنات المختلفة، يتم من خلال الإعلام تكريس بعضها على أنها الأفضل، وتجاهل بعضها، وتقديم بعضها الآخر بطريقة تدعو للاستهزاء والسخرية.
التمييز اللغوي هو تعرّض الفرد لمعاملة مختلفة وغير عادلة استناداً إلى اللغة أو اللهجة التي يتحدث بها، حيث يتم تكريس لغات أو لهجات أو لكنات قياسية يُنظر إليها على أنها الأفضل والأعلى قيمةً
يتم التعامل مع تنوع اللهجات واللكنات بطرق مختلفة، فأحياناً يتم الاستهزاء من طريقة الحديث، وأحياناً أخرى تتم محاولة تقليدها بداعي المزاح فقط. يقول لحسن: "من الناس من يستهزئ من طريقة كلامي بطريقة جدية، لأن طريقة نطقي للدارجة لا تروقه، فيسألني ما هذه العربية التي أتحدث بها؟ ومنهم من يمازحني فقط، وفي الحقيقة أتعامل مع الأمر بشكل عادي، من يريد السخرية فليفعل لا يهمني الأمر". وبرغم عدم اهتمامه كثيراً بالسخرية التي يتعرض لها بسبب لكنته، يقول لحسن إن الموقف الذي يطبع ذاكرته هو الذي تعرّض له في المدرسة الابتدائية من طرف أستاذته: "سخرت مني ليس بسبب لهجتي أو لكنتي، وإنما لأنني لم أكن أتحدث بالدارجة أساساً".
التمييز اللغوي... تمييز هوياتي؟
ترتبط اللغة، اللهجة وحتى اللكنة، ارتباطاً وثيقاً بالشخص وبخلفيته الثقافية وتاريخ المنطقة التي ينتمي إليها، لذلك فإن التمييز اللغوي يُعدّ جانباً من جوانب التمييز تجاه هوية معيّنة. ففي المغرب يتم ربط طريقة نطق بعض الحروف بمناطق محددة، وتالياً بهويّات معيّنة، ذلك أن الطريقة التي ينطق بها بعض متحدثي الأمازيغية حرف التاء حين يتكلمون بالدارجة أو باللغة العربية، تكشف عن انتمائهم إلى منطقة تسود فيها اللغة الأمازيغية، ويتم تالياً ربط تلك اللكنة بالأمازيغ كمجموعة ثقافية مختلفة، ويتم بناءً على ذلك ربط أصحاب تلك اللكنة بمجموعة من الخصائص والسمات التي تكرّس فكرة اتصاف الأمازيغ بها على مدى السنين، كصفة البخل مثلاً، أو يتمّ افتراض أن الشخص يملك محل بقالة، وأنه يتوفر في بيته على زيت أركان يمكن أن يقدّمه كهدية. ويقول الباحث عبدوه لرصيف22: "هذا النوع من الافتراضات، عبارة عن إسقاطات غير موضوعية، وأحكام مسبقة خُلقت في المجتمع، مثلاً في المغرب "سْوَاسَة" )أمازيغ منطقة سوس جنوب المغرب(، يتكلمون اللغة الأمازيغية، وحين نسمع هذه اللهجة يتبادر إلى أذهاننا أنهم أذكياء ولهم القدرة على النجاح في التجارة أينما حلّوا وارتحلوا، وهو أمر غير صحيح بالضرورة، ولا يرتبط بأي شكل من الأشكال باللهجات واللكنات".
تقول إكرام، التي وُلدت وترعرعت في مدينة أكادير (جنوب المغرب)، والتي تتحدث بلكنة أمازيغية برغم أنها لا تتقن اللغة، إن سلوك الأفراد تجاهها يتغير حين يسمعون لكنتها: "حين ألتقي شخصاً غير أمازيغي يبدأ بتقليد طريقة حديثي، ويخبرني بأنني ألحن في الكلام ويسألني إن كنت أتوفر على زيت أركان".
عدم إتقان إكرام للّغة الأمازيغية، وهي التي ترعرعت في منطقة أمازيغية، يجعلها تتعرض لتمييز مزدوج، من قبل المتحدثين بالدارجة بسبب لكنتها الأمازيغية، ومن طرف المتحدثين بالأمازيغية بسبب عدم إتقانها اللغة: "حين ألتقي بشخص يتحدث الأمازيغية، يسألني لماذا لا أتحدث اللغة، ويقول إني لست أمازيغيةً إنما فقط أدّعي ذلك". وتضيف أن التمييز اللغوي يؤدي إلى حدوث تمييز عام: "يحدث أن أكون في مجلس يتحدث فيه الناس بالأمازيغية برغم علمهم بأنني لا أجيدها ولا أفهم ما يقال، وحين أستنكر ذلك يجيبونني بأنه من المفترض أن أفهم"، تختم إكرام التي تعيش ضياعاً تفرضه "الديغلوسيا" أو ازدواجيّة اللغة في المغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...