شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عنصرية الإنكليز وكرم السوريين اللاجئين... في فيلم

عنصرية الإنكليز وكرم السوريين اللاجئين... في فيلم "البلوط القديم" لكين لوتش

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 10 يونيو 202302:10 م

عشاق السينما، ومحبّو المخرج المخضرم البريطاني كين لوتش، يترقبون أفلامه، يتوقعون حرباً جديدة على فساد يسحق البسطاء. صولات لوتش السينمائية قد تكون عصية على وسائل الإعلام مهما تكن قوتها، لأن لديه القدرة على التعامل مع تفاصيل حيوية عميقة، يصوغها في فيلم ينطلق كرصاصة تصيب الهدف بدقة عُمره الذي بلغ سبعة وثمانين عاماً.


في فيلمه الجديد "البلوط القديم" (The Old Oak)، ينطلق لوتش من وجود اللاجئين السوريين في بريطانيا، لكي يناقش عنصرية الإنكليز في الفيلم الذي عرض بمهرجان كان السينمائي السادس والسبعين (16 ـ 27 أيار/مايو 2023).

في هذه المعركة، اختار المخرج أن يكون حكماً، لا محارباً في أحد الصفوف، كما عودنا في أفلامه الثائرة، لذلك كان الإيقاع هادئاً، رتيباً في بعض الأحيان، يبدو أن موقعه المختار كحكم يتوخى العدل، أخذه في نواح وتفاصيل مملة رغم إنسانيتها، ولم تغفر له دوافعه النبيلة صناعة فيلم بحبكة درامية ضعيفة، وأحداث مختلقة لم تحقق التصاعد الدرامي، كما أن الحوار إنشائي باهت، وإن حاول لوتش أن يضفي عليه من روحه الثورية.

تستقبل المدينة حافلة تنقل مهاجرين سوريين، بينهم "يارا"، فتاة في يدها كاميرا تسجل بها صوراً للحظات الفارقة في حياتها وحياة مواطنيها المذعورين، لكن أحد الرجال العنصريين الرافضين وجودهم، يخطف الكاميرا منها ويكسرها

تبدأ الأحداث في مدينة صغيرة شمال شرقي إنكلترا، في حانة "البلوط القديم" يملكها "تي جيه بالانتين" (ديف تيرنر)؛ رجل طيب هادئ يشارك رواد الحانة ثرثرة تكشف الحالة الاقتصادية المتدهورة للمدينة وأهلها الذين كانوا يعملون بالتعدين، ولم يعد لديهم مصدر جيد للدخل، غير انخفاض كبير في قيمة بيوتهم، مع دخول شركات استثمارية ضخمة لشراء البيوت بأسعار زهيدة، وتأجيرها باستغلال فاضح.

هؤلاء يرون اللاجئين يضاعفون أزمتهم. بالتوازي تستقبل المدينة حافلة تنقل مهاجرين سوريين، بينهم "يارا" (إيبلا مرعي)، فتاة في يدها كاميرا تسجل بها صوراً للحظات الفارقة في حياتها وحياة مواطنيها المذعورين، لكن أحد الرجال العنصريين الرافضين وجودهم، يخطف الكاميرا منها ويكسرها، ويشتبك معها، لكن "تي چيه بالانتين" يتدخل لفض الاشتباك؛ فالفتاة متوترة لا تملك رفاهية الاشتباك ولا الانهيار الآن، وتتبع أهلها بسرعة، لنقل أغراضهم من الحافلة.

تلك الواقعة يتابعها رواد حانة "البلوط القديم" على "يوتيوب"، ويصبون غضبهم على القادمين العرب، باعتبارهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية للمدينة. الكل يرفض وجودهم، في حين يبدي صاحب الحانة تعاطفاً، ويرفض أن يفتح مخزنه الكبير المهجور، لعقد اجتماع موسع لمناقشة حال المدينة المنكوبة بإهمال الحكومة ووفود اللاجئين.

تدخل الفتاة السورية "يارا"، وتطلب من صاحب الحانة أن يدلها على الرجل الذي كسر الكاميرا، ليتحمل قيمة إصلاحها، فقد كان شاهدا ويعرف المعتدي. وعلى الرغم من النظرات المستنكرة لرواد الحانة، فإن "تي چيه بالانتين" يذهب مع "يارا، إلا أنهما يفشلان في استرجاع حقها. يلاحظ الرجل أنها تتحدث الإنكليزية بطلاقة ولباقة، ويعجب بشخصيتها واعتزازها بنفسها، وبموهبتها في التصوير. وهي تخبره بأن التصوير هو ما أعانها على احتمال الرحلة القاسية للفرار من نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأنها حرصت على تسجيل مسار الرحلة منذ فراق وطنها حتى الوصول إلى بريطانيا. فتبدأ علاقة إنسانية بين الفتاة اللاجئة والرجل العجوز، بينهما رابطة تقربهما، كلاهما يعاني مرارة الفقد والغربة.

هو مطلق، علاقته بابنه الوحيد شبه منقطعة، صديقته الوحيدة كلبته اللطيفة "مارا"، قد تكون آخر ما يربطه بحياة جافة قاسية اُختزلت في حانته القديمة "البلوط القديم". أما يارا فتحولت فجأة إلى لاجئة، (واللاجئ يرفضه الجميع)، بعد فرارها مع أسرتها من الجحيم، وتنتظر أخباراً عن والدها المعتقل في سوريا، ولا يعرفون عنه شيئاً.

اسم الحانة/الفيلم "البلوط القديم" اختير بذكاء، فالبلوط هي الشجرة الوطنية لإنكلترا، ويحاول البطل العجوز الطيب في اللقطات الأولى أن تبدو حروفه مستقيمة على اللافتة العتيقة لشجر "البلوط"، دلالة رمزية عند أهل نصف الكرة الشمالي، كان حاضراً منذ عدة قرون في طقوسهم واحتفالاتهم، وقد ارتبط بطول العمر والقوة والتماسك.

في بحث مهم بعنوان "رمزية البلوط في ضوء علوم الچينوم"، موّلته وكالة الأبحاث الوطنية الفرنسية (ANR)، سردٌ تاريخي للروابط والعلاقات بين البشر والبلوط في أوروبا، وكيف أدى إلى تمثيلات رمزية، فالبلوط مهّد "أكثر من أي نوع آخر من الأشجار، الطريق لاستعمار الشرق الأوسط وأوروبا من قبل المجتمعات البشرية المبكرة، فقد كان البلوط مصدراً غذائياً للبشر لا يقدر بثمن، وهو ما يبدو من بقاياه في الكهوف التي احتلها الإنسان البدائي"، ووقد استخدم كمأوى ووقود، وأدوية حتى أصبح "شجرة الحياة" أو "إطار الحضارة".

وسهّلت شجرة البلوط إنشاء مجتمعات بشرية في أوروبا، ورد لها البشر الجميل، فتوسعوا في زراعتها عبر القارة، وأنتج التاريخ المشترك بين البشر والبلوط علاقات ثقافية وعاطفية ترجمت إلى رموز أو تم دمجها في أساطير ومعتقدات دينية، تطورت الصورة الرمزية، فارتبطت الشجرة بطول العمر والخصوبة والقوة والتحمل والعدالة والحكمة والصدق. وفي الآونة الأخيرة اعتمدت الشجرة "العظيمة" رمزاً وطنياً في الكثير من بلاد نصف الكرة الشمالي.

تبدأ علاقة إنسانية بين الفتاة اللاجئة والرجل العجوز، بينهما رابطة تقربهما، كلاهما يعاني مرارة الفقد والغربة.

يستعرض الفيلم الأعمال الخيرية لمالك الحانة. يشارك صديقته البريطانية توزيع أغراض مختلفة على الجيران الجدد، ولا يفوته أن يؤكد في كل مشهد على رقة حال السكان المحليين، وأنهم في الهم سواء. تكفي نظرة طفل بريطاني إلى دراجة مستعملة بين التبرعات، منحت لطفلة سورية، وهو يقول بأسى إنه، منذ سنوات، يتمنى هذه الدراجة!

الفيلم لا يدين المجتمع المحلي، ولا يخوض في ميراث طويل من العنصرية والطبقية في مجتمع قديم معقد، رغم الحوار العنصري المباشر الساذج، بل يقدم البلدة الفقيرة وكلها من العمال المتقاعدين، كمجتمع مظلوم تتجاهل الحكومة حقوقه ومطالبه المشروعة. وكعادته يفتح لوتش الطريق إلى فهم الآخر، فالمجتمع ليس شريراً بطبعه، لكن ظروفه البائسة تجعله متذمراً لا يعرف إلى من يوجه غضبه، وصعوبة الأحوال لا تسمح له بالترحيب بضيوف يراهم كغزاة جاءوا ليزيدوا الحياة بؤساً وتعقيداً. وهو شعور عنصري تغذيه الحكومة البريطانية، وشعارات فجة غير مسؤولة لرئيس وزراء سابق يلقي بخيبته وفشله الاقتصادي على المهاجرين، ويتناسى تاريخ بلاده التي امتلأت خزائنها بثروات مستعمراتها، وبنت إمبراطوريتها على أجساد أجداد هؤلاء اللاجئين.

يبدأ كاتب السيناريو بول لافيرتي في افتعال مواقف تدعم رسالة المخرج، لكن من خلال كتابة ركيكة؛ فيدخل البيوت عمداً، إثر مواقف مفتعلة تستعرض محاسن أخلاق المهاجرين وتسامحهم وكرمهم، في مقابل عنصرية الإنجليز. تزور "يارا" (المسلمة) مع صديقها العجوز كنيسة دورهام، وتتأثر عندما تسمع أن هذا المبنى الأثري عمره ألف عام، فتعلق في حزن في حوار مباشر "لن يرى أبنائي أبدا معبد تدمر الذي بناه الرومان ودمرته الدولة الإسلامية عام 2015".

وفي مواقف أكثر مباشرة ورومانسية، ترى" يارا" صوراً تسجل إضراب العمال في الثمانينيات على جدران مخزن "تي جيه"، فتأتي لها فكرة تقديم وجبات مجانية في هذا المكان لدمج اللاجئين مع السكان، ويوافق البريطاني العجوز الطيب بلا تردد، فيفتح مخزنه ويقوم بإصلاحه؛ فيتناول الجميع فيه الطعام الذي أعدته السوريات البارعات في الطهي. وهكذا يتم الدمج ويذوب الجليد، وإن أصبح "تي جيه" نفسه في موضع شك واستنكار من أصدقائه الذين رفض استضافتهم في المكان نفسه!

اسم الحانة/الفيلم "البلوط القديم" اختير بذكاء، فالبلوط هي الشجرة الوطنية لإنجلترا، ويحاول البطل العجوز الطيب في اللقطات الأولى أن تبدو حروفه مستقيمة على اللافتة العتيقة لشجر "البلوط"، دلالة رمزية عند أهل نصف الكرة الشمالي

من خلال العلاقة الإنسانية بين العجوز البريطاني والشابة السورية قال كين لوتش الكثير عن موقفه من اللاجئين السوريين. في العادة يختار ممثليه من بين ناس لم يقفوا أمام الكاميرا من قبل، والسورية إيبلا مرعي (كان العرب في المهرجان يسمونها "عبلة")، وهي من مرتفعات الجولان، تعمل مدرسة مسرح بقرية في الجولان. أما ديف تيرنر، فهو نجمه الخاص، شارك في بطولة بعض أفلام لوتش السابقة. ولولا السيناريو الموجه لكان الفيلم أكثر عمقاً وتأثيراً.

في المنصة الرقمية المهتمة بالسينما والثقافة (A RABBIT’S FOOT) أجرى الكاتب البريطاني الشهير جيسون سولومون، في شباط/فبراير 2023، حواراً قال فيه كين لوتش: "لم أكن اعرف شيئاً عن السوريين حقاً، قبل أن أبدأ هذا الفيلم، لكنني اكتشفت كل شيء أثناء إخراجه، وهي لحظات الكرم الصغيرة التي لا تُقدر، والتي لم تكن موجودة في النص، ولا يمكن أن تكون أبداً. إنهم الأشخاص الذين يفاجئونك وعليك أن تسمح بالمساحة ليحدث ذلك". كما يعترف بتعاطفه الواضح جداً في الفيلم: "القصة مكتوبة بتعاطف كبير، وبصيرة من الكاتب بول لافيرتي".

في عدة مشاهد، يؤكد لوتش كرم السوريين، ورقيّ أخلاقهم وحسن ضيافتهم، مقارنة بالسكان المحليين، وكان تأثره بكرم الضيوف العرب واضحاً جداً في الفيلم الذي لم يكن أفضل أفلامه، لكنه ختام راقٍ لمسيرة عظيمة انحاز فيها إلى العدالة والإنسانية، مدافعاً عن البسطاء، متبنيا قضاياهم في مواجهة الرأسمالية، وتوحّش الليبرالية الجديدة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image