شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
العالم السفلي للدار البيضاء في

العالم السفلي للدار البيضاء في "عصابات"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 29 مايو 202302:15 م

لم يفاجئني فوز الفيلم المغربي "Hounds" أو "عصابات"، بجائزة لجنة تحكيم مسابقة "نظرة ما"، في الدورة السادسة والسبعين لمهرجان كان السينمائي (16-27 أيار/ مايو 2023)، التي شهدت حضوراً قوياً للسينما العربية؛ فالفيلم، وهو العمل الروائي الطويل الأول لمخرجه كمال الأزرق، يبدو كملحمة مبهرة وممتعة، برغم كآبتها ووحشيتها وجنونها، والعنف الدموي بإيقاع لاهث يكتم الأنفاس.

في مدينة الدار البيضاء التي اختارها المخرجُ حلبةَ صراع لشخصيات بائسة غريبة الأطوار تعيش تحت خط الفقر، الجميع يحاربون من أجل البقاء أحياء، ومع ذلك، الموت هو النهاية الحتمية والطريق الوحيد للخلاص. تبدأ الأحداث التي تقع في أربع وعشرين ساعةً فقط، بمصارعة بين كلاب شرسة، تنهش بعضها في معركة عنيفة، ويضع نهايتها رجل أكثر عنفاً من الكلاب، حين يقتل أحدها بدم بارد، أمام صاحبه "ديب" (عبد الله البكيري)، الذي يثور ويتوعد بالانتقام، ويتفق مع "حسن" (عبد اللطيف المستوري)، لخطف قاتل الكلب. في هذا الحي الوحشي، هناك دائماً من لديه استعداد لتنفيذ أي مهمة قذرة من أجل المال؛ يخطف "حسن" الرجل المطلوب، ويفاجئ "ديب" بقتله!

في مدينة الدار البيضاء التي اختارها المخرجُ حلبةَ صراع لشخصيات بائسة غريبة الأطوار تعيش تحت خط الفقر، الجميع يحاربون من أجل البقاء أحياء، ومع ذلك، الموت هو النهاية الحتمية والطريق الوحيد للخلاص 

يستوقفني اختيار الاسم العربي للفيلم: "عصابات". أعتقد أن "كلاب الصيد" ترجمة أكثر صدقاً وتعبيراً عن محتوى الفيلم، وربما اختار المخرج افتتاحيته بمعركة الكلاب إسقاطاً على ما بعدها من أحداث، وكلها تدور في أربع وعشرين ساعةً فقط، في هذا العالم السفلي، حيث التخلص من أي كيان هو الخيار الأول، والقرار الأسرع، فلا صوت يعلو هنا على صوت الرصاص والدم!


نتتبّع "حسن" في مهمة قذرة جديدة لخطف أحدهم، يشاركه في تنفيذها ابنه "عصام" (أيوب العيد)، وينجحان فيها، لكنهما يقتلانه من دون قصد، أو بقصد، لا يهم. المهم أن عليهما الآن التخلص من القتيل قبل الصباح، وهنا تتصاعد الأحداث بشكل مروع وغريب، ويُدخلنا المخرج في جدل مقصود، عن الازدواجية والفصام اللذين يسيطران على جيل الأب "حسن"، بحيث يفاجئنا تمسكه بتطبيق قواعد الإسلام في التعامل مع الميت، إذ يصرّ "حسن" على غسل الميت "القتيل"، وتكفينه ودفنه وفق الشريعة الإسلامية، بينما يصرّ الابن "عصام"، على التخلص سريعاً من هذه الجثة وبأي شكل. يدخلان في صراع جدلي يهاجم فيه الابن الشاب والده الذي يتمسك بتعاليم المسلمين مما يجرّ عليهما المتاعب!

النقاش الصادم الذي يعرّي ازدواجية الأب وشراسة الابن، ينتهي بقرار التخلص السريع من جثة القتيل. بإيقاع يكتم الأنفاس، يتنقل "حسن" و"عصام" من خرابة إلى أخرى، ويصلان إلى شاطئ بعيد حيث يقع اختيارهم على صياد، لا يختلف عنهم أبداً، إذ تتشابه الملامح والأرواح في العالم السفلي للمدينة المغربية وهو ما لم نشاهده في المغرب من قبل. يوافق الصياد على مساعدتهم في التخلص من الجثة بإلقائها في البحر، لكن تفشل المحاولة، ونعود من جديد إلى صخب الخلاف بين الأب وابنه، اللذين يدركهما رجال عصابات آخرون، ليضع المخرج نهايةً تناسب مرارة الواقع. يقول كمال الأزرق: "الفيلم تدور أحداثه في أكثر المناطق فقراً في الدار البيضاء، وليس في مدنها وضواحيها وشواطئها المعروفة للجميع، هناك في تلك المناطق المجهولة للكثيرين حكايات جديرة بالسرد".

ما بين اليأس المسيطر على أبطال الفيلم والتمزق الداخلي الذي مرجعه ديني، والرغبة في حياة لا تتحقق إلا بموت الآخرين، يرسم المخرج الشاب صورةً مخيفةً للعاصمة المغربية، حيث البطالة والفقر، وبعدهما من الممكن تخيّل أي شيء. في صراع من أجل البقاء، يفترس القوي الضعيف، كما حدث مع الكلاب التي افتتح الأزرق بها فيلمه الرائع، برغم قسوة الفيلم والمخرج المغرم بتصوير وحشية شخصياته التي لا تنطق كثيراً ولكن تكفي تعبيراتها المذهلة، وبرغم أن معظمهم ليسوا ممثلين محترفين، وبعضهم من العاطلين الحقيقيين في العاصمة المغربية.

اختار المخرج زوايا حادةً، وحاصرنا بألوان قاتمة تنوعت بين الأسود والأزرق القاتم والبرتقالي والأحمر العميق، تعبيراً عن سيطرة الشيطان على الحياة في العالم السفلي 

لا يفضّل كمال الأزرق العمل مع المحترفين من الممثلين، ففي فيلميه السابقين القصيرين "الرجل والكلب" و"دراري"، اختار أبطاله من الهواة وبينهم كيمياء خاصة. حرص المخرج على التقاط صور مع بطليه عبد اللطيف المستوري وأيوب العيد، اللذين حضرا معه العرض الأول للفيلم في المهرجان، ولما سألته عن سبب اختياره لهما، قال إنه يحب العمل مع ممثلين جدد غير محترفين، وقد رأى فيهما روحاً وشبهاً من نجوم السينما الإيطالية (المتأثر بها المخرج)، وهما موهوبان، وأضاف: "في المغرب الكثير من المواهب التمثيلية غير مكتشفة ونحن محظوظون بذلك".



اختار المخرج زوايا حادةً، وحاصرنا بألوان قاتمة تنوعت بين الأسود والأزرق القاتم والبرتقالي والأحمر العميق، تعبيراً عن سيطرة الشيطان على الحياة في العالم السفلي، وكله من الرجال، ويبدو أن صنّاع الأفلام العربية في مهرجان كان هذا العام اتفقوا على شيطنة الرجال!

"عصابات" كمال الأزرق، كان سفيراً مشرفاً للسينما المغربية في مهرجان كان السادس والسبعين، وهو إنتاج مغربي فرنسي بلجيكي مشترك، بدعم سعودي من صندوق البحر الأحمر، ومؤسسة الدوحة للأفلام. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image