دعوني أهمس لكم ببعض الأسرار عن مدينتي حمص التي تتوسط الخريطة السورية وتُلقب بـ"العدية".
بدايةً، هل نقولها حِمص، بكسر الحاء، وهي الأصح لغوياً، أم حُمص، بضم الحاء، كما يتداولها الحمصيون؟
الأجمل أن تقولها بالضمّ وتستمتع بالشعور الحميمي الذي يخلفه ضمّ الحرف لتعرف ببساطة لماذا يضمّ الحمصيون جميع الكلمات، وما إن عرفنا طريقة اللفظ المختلفة التي تُميز سكان مدينة حمص عن غيرهم، ننتقل لنعرف ماذا يعني أن تكون حمصياً؟
أن تكون حمصياً يعني أن يطلب منك أي شخص يراك ولو للمرة الأولى أن تحكي له طرفة، ثم يغرق بموجة دموعٍ بسبب دوامة الضحك. أن تكون حمصياً يعني أن يغمز لكَ أحدهم ويقول لكَ: "اليوم ما أربعاء"، فتعلمُ دون شرحٍ أو إيضاحٍ أنكَ قد ارتكبت حماقة ما أثناء الكلام. أن تكون حمصياً يعني أن تُبرّرُ لكَ جميع تصرفاتك الجنونية، وخاصة إذا حصلت يوم الأربعاء، بقولهم: "ما عليك عتب. حمصي واليوم أربعاء".
لذا فإن يوم الأربعاء عند السوريين مسجلٌ رسمياً باسم الحماصنة، فهو ليس عطلة رسمية لكن الجميع يحتفل بيوم الأربعاء على أنه عيد الجنون في حمص، وبذلك يُكنى الحماصنة بالمجانين، ويُقال عنهم أحياناً مجاذيب، أي ينجذبون ويجذبون الآخر إليهم لما يتمتعون بهِ من خفة دمٍ وظرافة.
أما أن تكوني فتاةً حمصية يعني أن تأخذي جواز سفرٍ مباشر ودائم إلى عالم الجمال، بناءً على مقولة يتداولها السوريون: "حمص ببناتا"، أي حمص تشتهر بجمال بناتها الذي لا يختلفُ عليه اثنان.
في حمص بإمكانك أن تخلع نعليك وتمشي حافياً، ليس لأنها مدينة تحوي قبور الصحابة في مقبرة "الكتيب"، والتي يُقال إن أمواتها أول من سيرى وجه الله في العالم الآخر، بل لأن أرضها مسالمة وتخلو من العقارب
وبينما تشتعل حرب كونية على السوشال ميديا بين السوريين من سكان مدينة حمص وسكان مدينة حماة عن أصل حلاوة الجبن، هل هي اختراع حموي أو حمصي، طبعاً دونما الخروج بنتيجة تمنح الحلاوة بالجبن هوية تعريفية تنسبها إلى بلد المنشأ الأصلي، ينشغلُ فريق آخر من السوريين برواية الأحاديث والنكات التي تروي طرافة الحمصي بقولهم: "هيك قال الحمصي، وليش هيك عمل الحمصي".
أما أنا فسأحدثكم عن مدينتي التي تتوسّط الخريطة وتشغل دائماً عقول السوريين بالحديث عنها وزياتها. عندما تدخل حمص من كراجها الشمالي، تستطيعُ أن تسأل أي شخص من المارة عن العنوان الذي تريدُ الذهاب إليه، ويعطيك خريطة شفهية توصلك إلى المكان الذي تريده بالضبط، ولكن ما يشغلك أكثر من المكان هو استخدام الضمّة في بداية الكلمة ونهايتها، حتى لتشعر وكأن المتحدث يضمّك بكلامه.
في حمص إذا لم يكن لديك مكانٌ تذهب إليه، أو إذا لم يكن لديك أي معلوماتٍ عن المدينة، اسأل مباشرة عن الساعة، وسواء سألت عن الساعة القديمة أو الساعة الجديدة ستصل المكان الذي تريد، فإذا اتجهت مع عقارب الساعة القديمة ستدخل المدينة القديمة بكلّ تفاصيلها: "حجارة سوداء، وسوق قديم، ومنازل تشبهُ مسلسلاتنا القديمة"، أما إذا اتجهت مع عقارب الساعة الجديدة ستدخل المدينة الجديدة بتفاصيلها الحداثوية: "المقاهي، ومحال الألبسة، والمأكولات الغربية".
أما أنا، فحُمص، بضم الحاء وليس بكسرها، تعني لي أصوات ذاكرتي وعالم الطفولة، فالساعة الجديدة كانت تمثل لي عرساً طفولياً وخاصة إذا دقّت معلنة حلول تمام الساعة، وعلى يمين الساعة حيث مقهى الروضة وفي القسم الداخلي، أسمعُ قهقهة أخي الصغير في لقائنا الأخير قبل سفره، حيثُ لعبنا البلياردو كأننا نلعبها للمرة الأولى، لكننا لم نع وقتها أنها ستكون المرة الأخيرة، وعلى يسار الساعة أسمعُ صوت رجُلي المفضل في المقهى المطل على الساعة، عندما قال لي في اللحظة التي أشرقت الشمس فيها ضاربة بوهجها عيني: "عيونك أجمل من عمري".
أما إلى أمام الساعة قليلاً، فأسمعُ صوت أخي الكبير في المرسم المواجه للساعة حيثُ كان يتعلم الرسم وكنت أنا لا أجيد رسم خط مستقيم على الورقة.
ليست الساعات وحدها ما يميّز حمص، ولا حتى الحلاوة الحمصية التي يدّعي الحمويون نسبها إليهم، بل تتمتع حمص بميزانٍ خاصٍ يتميز عن جميع الموازين في العالم، ففي حمص فقط تجد أن الأوقية تزن مئتين وخمسين غرام، في الوقت الذي تحسب فيه الأوقية في باقي الأماكن بمئتي غرام فقط.
في حمص شارع اسمه "الخراب" يقصده الحمصيون لقضاء نزهة يوم العطلة، وقد كان لحمص من اسم هذا الشارع نصيب، حيثُ عمّ الخراب في معظم أجزاء المدينة ولا زال سكانها يقصدون الشارع ذاته
فقط في حمص بإمكانك أن تخلع نعليك وتمشي حافياً، ليس لأنها مدينة تحوي قبور الصحابة في مقبرة "الكتيب"، والتي يُقال إن أمواتها أول من سيرى وجه الله في العالم الآخر، بل لأن أرضها مسالمة وتخلو من العقارب.
في حمص شارع اسمه "الخراب" يقصده الحمصيون لقضاء نزهة يوم العطلة، وقد كان لحمص من اسم هذا الشارع نصيب، حيثُ عمّ الخراب في معظم أجزاء المدينة ولا زال سكانها يقصدون الشارع ذاته.
في حمص بإمكانك أن ترى ثنائية ضدية تصنعُ فلسفة من الغرابة، ففيها الكثير من المجانين والدراويش، بالإضافة إلى الكثير من الذكاء والتميز الذي يشهد عليه جميع سكان المناطق المجاورة، فحمص رغم كل شيء لازالت مقصداً لجميع الموجوعين وأصحاب الأمراض المستعصية، لأن حمص وبشهادة الجميع تملك أفضل الأطباء في المنطقة.
وإذا ما عدنا إلى أيام الأسبوع، نجدُ أن الخميس لهُ ميزة لا تقل عن الأربعاء، ففي حمص وحدها تجد عيداً يُصادفُ يوم الخميس الذي يلي عيد الفصح بعشرة أيام، واسمه "خميس الحلاوة" أو "خميس المشايخ"، حيثُ يقام احتفال كبيرٌ يعمّ أرجاء المدينة، وتمتلأ شوارعها بجبالٍ كبيرةٍ من أنواع الحلوى الخاصة بذلك العيد.
فإذا سُئلت يوماً عن مدينة حمص، فاخبرهم أنها تشتهر بالكثير من الجنون الذي يُترجم على شكل أعياد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...