شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نوري الجراح، جائزة ماكس جاكوب، وما لا يعرفه

نوري الجراح، جائزة ماكس جاكوب، وما لا يعرفه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 21 يونيو 202304:29 م

"ابتسامة النائم"، ليس لأنه الكتاب الذي يحمل نفس العنوان الذي حملته ترجمة مختارات شعرية لنوري الجراح إلى الفرنسية وجاءت جائزة ماكس جاكوب الشعرية له من أجله، بل لأنه الكتاب الذي، طوال أكثر من عشر سنوات، رافقني في جميع الرحلات إلى جميع المدن التي سافرت إليها، نام بالقرب من رأسي في ليال طويلة، جاور "المواقف" فوق سريري في المستشفى، دخل قصيدتي بغلافه الشاحب وأوراقه المنفصلة، وقرأت كلماته لتذهب إلى ما وراء البحار لتسمعها روح عزيزة وحزينة، وتردّ علي: الله؛ من أجل هذا أذكره اليوم وأكتب عنه، أسير نحوه، أفتحه كما لو يُفتح المصحف وديوان حافظ الشيرازي، أقرأ مقطعاً، مقطعين، ثم أعيده إلى مكانه بين الكتب التي أحتاجها لتستمرّ لي الحياة؛ ليس إلى رفّ في أعلى المكتبة، بل بين الكتب التي أريد لها أن تكون مبعثرة أبداً فوق طاولتي.

كلما قرأت هذا، رفعت رأسي، نظرت في الهواء، وقلت: ما هذا يا نوري! ولا يعرف نوري أنني أناديه كلما قرأت له واندهشت

وأنت تمرُّ، وما لي يدٌ أمدُّ،

لألمِسَ،

وأصيرَ

ولأنني فتحتُ يوماً ودخلتُ، وفتحتُ يوماً وخرجتُ

صرتُ أمشي بين الأيام ووراء الأيام.

كلما قرأت هذا، رفعت رأسي، نظرت في الهواء، وقلت: ما هذا يا نوري! ولا يعرف نوري أنني أناديه كلما قرأت له واندهشت.

لا يعرف أن في بالي تمرّ تلك اللحظة التي أمسك فيها بغصن زيتونة في أحد شوارع طهران قبل أكثر من عشر سنوات، وتحدث عن دمشق، كلما فتحت "ابتسامة النائم" وقرأت:

أنا يومي الذي لا يومَ يصِفُه

أنا أقربائي. من مددتُ يدي إليهم ورجعتُ بهواءٍ يشتعل.

ولا يعرف أيضاً أنني، دون أن أكون وضعت أي علامة في الكتاب الذي تحول اليوم إلى أوراق لفرط قراءته، لكَم فتحتُه في الأرض وفي الهواء، لأقرأ "آية سوداء":

أنا

يوسفُ

ما

رأتْ

قصيدتي.


"يوسفُ ما تركتْ قصيدتي"، يفوز بجائزة ماكس جاكوب، ولم لا؟ أظن أن نوري الجراح كان سيفوز بكثير من الجوائز الشعرية المرموقة إن كان شارك فيها، وفي كل مرة كان سيقول شيئاً مثل هذا الكلمات التي قالها عند تسلّمه الجائزة، فهي تترجم روح نوري التي عرفتها: طفولة وحزن من أجلها صدق، تواضع، سوريا، وحبّ للشّعر والكلمة لم أرَ مثله قط:

"أتوجه بالشكر إلى من اختارني لهذه الجائزة الرفيعة وإلى جمعية ماكس جاكوب. بوصفي شاعراً سورياً في المنفى استقبلتْه ذات يوم خيمةٌ فلسطينية في بيروت، أهدي الجائزة برمزيتها الاستثنائية لطفلين لاجئين تنكر لهما العالم: طفل فلسطيني أقام الاحتلال كيانَه الملفق في غرفة نومه وعلى أنقاض كيانه الوجودي، وشرّده في أربع جهات الأرض، وطفل سوري حطم الطغيانُ عالمَه وأرسله ليسكن القبور والمعتقلات وخيامَ العالم.


يمكن أن نتفق وأن نختلف في صنيع الشاعر وتعريف الشعر، لكننا أبداً لن نختلف في حقيقة أن الشعر هو الحبّ، وأن الشعراء يبتكرون الشعرَ ليصونوا العالم من الشرّ ويوسعوا الأفق. تلك هي المقاومة بالكلمات.

"قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمتْ مدنُه. وهي مدينتهم المجازية ومدينة جميع المنفيين"… نوري الجراح

في الشعر أكتب نفسي وأكتب آلام السوريين المتروكين لقدرهم الدموي وقد دفنهم الطغيان في المراكب الغريقة وحولتهم المأساةُ إلى طرواديي العصر.

قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمتْ مدنُه. وهي مدينتهم المجازية ومدينة جميع المنفيين.

عندما تنسج القصيدةُ الشالَ للمرأة والوسادةَ للطفل والكرسيَّ للشيخ عند باب البيت، عندما ترمي القصيدة فتات الخبر للطائر، وتبني المحطة للقطار الذي سيصل غداً بالعائد من الغياب. عندما يرتب الشعرُ الأشياءَ اليومية الصغيرة بكلمات لم تسمع من قبل، عندما يصنع الشعرُ الدهشةَ وعندما يخز الضمير ويوقظ الحواس ويلهب الخيال، إنما هو يصنع المعنى الذي من أجله ذهَبَ الشجعان إلى الموت دفاعاً عن الحياة، ولأجل فكرةٍ أو موقف.

في البواكير الدمشقية عندما بدأت أكتب في دفتر صغير بخطٍّ طفوليّ كلماتي الأولى المضطربة حسبت أنني أقلّد الشعراء.

واليوم، بعد عقود من العيش بعيداً عن مسقط الرأس، والمغامرة الشرسة مع الكلمات في أمكنة شتى، أقف هنا ليقال لي: أنت شاعر.

شكراً للكلمات التي صدقتني أكثر مما صدقت نفسي.

المجد لمن آمن بقوة الكلمات.

***

هذه الجائزة التي تحمل اسم الشاعر الفرنسي ماكس جاكوب (1876ــ 1944)، تُمنَح سنوياً منذ العام 1950، وقد كُرّمت بها أسماء لامعة في الكتابة الشعرية الفرنسية المُعاصرة، مثل جاك ريدا

تسلم الشاعر السوري نوري الجراح، مساء الأربعاء 31 أيار/مايو الماضي، في باريس، جائزة ماكس جاكوب 2023 عن كتاب "ابتسامة النائم" الذي يضمّ مُختاراتٍ من شعره ترجمها إلى اللغة الفرنسيّة أنطوان جوكي وصدرت عن منشورات سندباد/أكت سود. (يذكر أن "ابتسامة النائم" الجديد والمترجم إلى الفرنسية يحتوي على مختارات شعرية جديدة لنوري الجراح، ما لا يحتوي عليه المذكور في المقال والذي صدر عام 2010 عن منشورات البيت في الجزائر). 


هذه الجائزة التي تحمل اسم الشاعر الفرنسي ماكس جاكوب (1876ــ 1944)، تُمنَح سنوياً منذ العام 1950، وقد كُرّمت بها أسماء لامعة في الكتابة الشعرية الفرنسية المُعاصرة، مثل جاك ريدا، وصلاح ستيتيّه، وبول دو رو، وجان بيير سيميون، وجيمس ساكريه، كذلك نالها شعراء عرب كسليم بركات (2018).

يحتوي "ابتسامةُ النائم" المترجم إلى الفرنسية قصائدَ ومقاطع شعرية مقتطفة من نحو ثلاثين عاماً من الكتابة الشعرية لنوري الجراح منذ 1988، عام صدور مجموعته الثانية "مُجاراة الصوت"، وصولاً إلى العام 2019 الذي صدر فيه كتابُه "لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة". وبين هذين العنوانين، تشمل المختارات الفرنسية نصوصاً من مجموعات "كأس سوداء" (1993)، "صعود أبريل" (1996)، "حدائق هاملت" (2003)، "الحديقة الفارسية" (2004)، "طريق دمشق" (2004)، إلى جانب "يوم قابيل والأيّامُ السبعة للوقت" (2012)، و"يأسُ نوح" (2014)، و"قارب إلى لسبوس" (2016).









رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image