شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف يشبه بطل

كيف يشبه بطل "أحدهم طار فوق عش الوقواق"، في تمرّده وهزيمته، روح الثورات العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في عام 1935، أجرى طبيب الأعصاب البرتغالي إيغاس مونيز، أول عملية جراحية لعلاج الاضطرابات العقلية المختلفة، مثل الفصام والاكتئاب والقلق والاضطراب ثنائي القطب. تدعى عملية "الفصل الجبهي"، وذلك بفصل فصّ المخ الأمامي عن بقية الدماغ. وظهر في البداية أنها عملية ناجحة في العلاج، حيث تحوّل سلوك بعض المرضى من الحدّة والعنف إلى الهدوء، فاستخدمت على نطاق واسع حتى منتصف الستينيات، حيث أجريت على أكثر من 60000 ألف مريض في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، لكن الجانب الوحشي منها ظهر على المدى الطويل: تغيّرات في الشخصية، خنوع عاطفي، ضعف معرفي، لامبالاة، فقدان المبادرة، خفّضت بشكل ملحوظ درجات الوعي الذاتي والاستجابة العفوية، وعانى المرضى من جمود وقصور في القدرات العقلية.

المفارقة أن الطبيب البرتغالي نال عن جراحته الوحشية جائزة نوبل في الطب عام 1949. وهي العملية نفسها التي أُجريت لراندل ماكمورفي، بطل فيلم One Flew Over the Cuckoo's Nest أو "أحدهم طار فوق عش الوقواق"، والذي أخرجه ميلوس فورمان، ولعب بطولته جاك نيكلسون، ونال 5 جوائز أوسكار.

الفيلم في الأصل كان رواية صدرت عام 1962 للكاتب الأمريكي كين كيسي، الذي كان متطوعاً مدفوع الأجر في مشروع حكومي لاختبار تأثير المخدرات النفسية على الإنسان، وتعرّض لمواد مثل LSD ومسكنات الألم، كما عمل مساعداً في مستشفى نفسي في كاليفورنيا، حيث رأى ظروف المرضى وطرق العلاج. استخدم كيسي هذه التجارب كمصدر إلهام لكتابته عن مستشفى نفسي في أوريجون.

رواية الأميركي كين كيسي "أحدهم طار فوق عش الوقواق" والتي تحوّلت لفيلم، كاعتراض على وحشية العلاج النفسي في الستينيات والعلاج بالصدمات الكهربائية، ألهمت حركات سياسية واجتماعية كبيرة

كيسي الذي كتب الرواية تحت تأثير المخدرات، كان أحد رموز جيل البيت، مثل الكاتب جاك كيرواك ونيل كاسادي، وكان جسراً بين هذا الجيل وحركة الهيبيز في الستينيات، الجيلين اللذين اهتمّا بتجربة المخدرات وتحدّي القواعد الاجتماعية، لكن روايته "أحدهم طار فوق عش الوقواق" التي أدانت التعامل في مصحّات الطب النفسي، لم تصدر من الفراغ، بل ظهرت بالتزامن مع الحركات المناهضة للطب النفسي، التي نشأت في عام 1960 في أوروبا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتبدأ بانتقاد شرعية وممارسات الطب النفسي، مفاهيم الأمراض النفسية والتشخيص، واستخدام الإكراه في تناول الأدوية، والإقامة القسرية، والعلاج بالصدمات الكهربائية، والقطع الجزئي لأحد فصّي الدماغ لعلاج الفصام، لكن سرعان ما صارت حركة سياسية واجتماعية واسعة، ألهمت حركات اجتماعية أخرى، مثل حقوق المدنية والنسوية وحقوق المثليين.

*****

لم تحرمنا السلطة فقط من حق التعبير، لكنها فرضت داخلنا الرهبة من الخيال

يروي الفيلم قصة راندل ماكمورفي، وهو رجل يتظاهر بالجنون لتجنّب السجن، ويدخل إلى مستشفى نفسي، حيث يحاول تحدّي سلطة الممرضة راتشد التي تدير المستشفى بطريقة قاسية وقمعية، ويحاول تحرير نفسه وزملائه من الخوف والخضوع، من خلال تنظيم مباريات في ألعاب الورق، حثّ السجناء على التصويت لمشاهدة مباريات كأس العالم، تنظيم رحلة صيد تشرف عليها بائعات هوى، نزع لوحة التحكم الثقيلة، وهو ما يفشل فيه لكنه يرى أنه "حاول على الأقل"، مخرباً شيئاً من سلطة وروتين المستشفى، وعندما يتصاعد الصراع إلى هجوم على الممرضة راتشد، تلجأ إلى الحل الأخير بإجراء عملية فصل المخ الأمامي لراندل، فيهدأ لكنه يفقد كل ما يعرف عن شخصيته المتمرّدة، يصبح أشبه بالميت، فيقتل على يد زميله الهندي الأحمر، لأنه يرى في ذلك القتل رحمة به وحفاظاً على كرامة صديقه الذي بدون فرادته هو لا أحد.

عندما أتأمل الفيلم الآن أرى أنه مازال يخاطبنا، وأن مجازه مازال أوسع من سوء معاملة المرضى النفسيين، فما سعت إليه الممرضة راتشد هو الشيء نفسه الذي سعت إليه السلطات في المجتمعات العربية، أما عملية فصل المخ الأمامي أي سحق الفردية إلى النهاية، فكان عقابها على الثورات التي أسفرت عن هزائم فادحة.

كانت روح الثورة أشبه بروح مكمورفي، حتى في أخطائه، إذا مثّلت الممرضة كل ما قامت ضده الثورة، السلطة التي زرعت بنا فضائل القمع الذاتي والانصياع لقواعد المجتمع دون شك أو تفكر، بينما قاتَل مكمورفي من أجل عالم يفهم حتى غرباء الأطوار والمختلفين، مجتمع لا يخاف من التعبير الحر عن الذات.

ومثل السلطات في العالم العربي، ظلّ الهدف الأسمى للممرضة هو أن يتطابق الجميع في تيار واحد. كانت تفخر أنها غيّرت تروس عقول مرضاها حتى أصبحوا آليين بالكامل ومتوافقين مع مجتمعها، وفي سبيل ذلك تتلاعب بالمرضى، وتدفعهم للتجسّس على بعضهم البعض أو كشف نقاط ضعف بعضهم البعض في جلسات العلاج الجماعية.

جاءت هزيمة الثورات الفادحة، لتجعل تلك المواجهة العنيفة لسحق فردية مواطنيها، سافرة وأكثر وحشية. كانت راتشد تسيطر على مرضاها من خلال لوحة تحكم وتكافئ من خلال لوحة لتكريم المتعاونين، لذا كان من الضروري أن تسحق حيوية مكمورفي، أن تنزعج من طاقته وروحه المرحة، بل وطاقته الجنسية التي تمثّل الحياة، يضحك ويغني بصوت عالٍ في الحمام، مخترقاً صمت المستشفى القاتل. يرفض أن يكون ضحية لتوقعات راتشد بشأن السلوك الهادئ والخائف الذي ينكر ذاته ورغباتها أمام قوانينها.

المجتمع، خصوصاً مجتمعاتنا العربية، لا يقدّر الفردية ويضغط بكل ما استطاع للتخلي عنها، ويجد سبله دائما لفرض الطاعة، ولا يمنح مكافآته سوى للمطيعين

*****

وربما كانت أخطاء مكمورفي نفسها هي أخطاؤنا، ربما فقدنا الهدف، ربما لم نثر للأسباب الصحيحة، طاقة تمرّد كانت تهدف في البداية للتلاعب بنظام المستشفى، عرّضت زملاءه للخطر في كثير من الأحيان، وأدت إلى مواجهة غير محسوبة وعنيفة مع نظام المستشفى، لم يهدف إلى أن يحقق شيئاً بعينه، كأن التمرّد لمجرّد التمرّد هو المطلوب، وبالقطع لم يكن هذا كافياً، ألم يتضرّر زملاؤه حتى إن أحدهم قد انتحر؟ ألم تسفر الثورات حقاً عن وضع أسوأ، مليء بالعنف والإبادات الجماعية والاعتقالات وأحكام إعدام بالجملة؟ ألسنا في حاجة في النهاية إلى نظام ينتج عن الثورة، نظام لا يقمع أفراده، يتوافق فيه الجميع على العيش معاً لا العيش بتطابق؟

لكن أليس مكمورفي في النهاية هو من ضحّى بروحه من أجل زملائه، تضحية تشبه تضحية المسيح، ألم تنتقل فكرته في النهاية إلى الهندي الأحمر، الشخصية الأكثر اتزاناً وتعقلاً من مكمورفي، والذي يحتفظ رغم ذلك بتوقه إلى الحرية. لقد ظلت فكرة مكمورفي باقية إلى أجيال أخرى.

رغم خطايا مكمورفي نفسه، إلا أن روحه ما زالت تخاطبنا جميعاً، فالمجتمع، خصوصاً مجتمعاتنا العربية، لا يقدّر الفردية ويضغط بكل ما استطاع للتخلي عنها، ويجد سبله دائما لفرض الطاعة، ولا يمنح مكافآته سوى للمطيعين.

وفيما تواصل سحقها لفرديتنا، لم تحرمنا السلطة فقط من حق التعبير، لكنها فرضت داخلنا الرهبة من الخيال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image