على الرغم من أنه هاجر البلاد واستقر مع أسرته في محافظة بولو التركية، منذ أكثر منذ ست سنوات، إلا أن كوابيس السجن ما زالت تطارد م. ك. ع.، وكنيته أبو مرام (53 سنةً). فآثار التعذيب ما زالت باديةً على أنحاء متفرقة من جسده، مع عاهة دائمة في رجله اليمنى جعلته غير قادر على المشي باستقامة.
عمل سائق سيارة حمل في شركة مقاولات في المسيب في محافظة بابل، وحدث أن أختُطف اثنان من موظفيها الكبار منتصف سنة 2007، وتم اتهام مجموعة من الموظفين في الشركة باختطافهما، وكان أبو مرام واحداً منهم.
يقاطع ساعديه على بعضهما في إشارة إلى الاعتقال: "داهمت قوة عسكرية منزلي وروعت عائلتي. وضعوا القيود في يدي ثم سلموني لمكافحة إرهاب الأعظمية، وبقيت هناك، في حجرة صغيرة طولها متر ونصف وعرضها 75 سنتيمتراً. لم أكن أخرج منها إلا إلى غرفة التحقيق لأتعرض للتعذيب بالسياط والهراوات والركل بشكل يومي، وكان ذلك يبدأ عادةً بعد منتصف الليل".
يمسّد لحيته البيضاء بيده، ويشير إلى رجله اليمنى، ويقول بنبرة حزن: "تضرر عصب رجلي بسبب الضرب المبرح ليحصلوا مني على اعتراف بجريمة لم أرتكبها، لذا فانا أعرج في مشيتي".
يضرب كفيه ببعضهما وهو يتذكر: "كانوا يعذبونني لأسابيع من دون أن يأخذوا مني الاعترافات التي يريدونها، ثم يعرضونني على قاضي التحقيق، فيطلب إعادة التحقيق، أي إعادة فترة التعذيب، وأخيراً وقّعت لهم على ورقة مكتوب فيها مسبقاً أنني اشتركت في خطف الموظفين وقتلهما، بعد أن أخذت من عائلتيهما فديةً ماليةً".
تمت إدانته وصدر حُكم ضده بالسجن 40 سنةً أواخر سنة 2009، وبعد نحو خمس سنوات، ألقي القبض على المتهمين الحقيقيين بخطف موظفَي شركة المقاولات وقتلهما، وتمت إعادة محاكمة أبي مرام، في محكمة الجنايات المركزية في بغداد، الهيئة الثالثة، التي قررت الإفراج عنه لعدم كفاية الأدلة في 9 آذار/ مارس 2015.
لم يطلَق سراحه مباشرةً، بل تنقل من سجن إلى آخر لغاية سنة 2017: "كانوا يريدون التأكد مما إذا كنتُ متهماً بقضايا أخرى"، يقول وهو يشير بإصبعيه، ثم يتابع بشيء من السخرية: "لم يكفِهم سجني ظلماً ثماني سنوات. احتاجوا إلى سنتين إضافيتين".
بعد إطلاق سراحه، كان هنالك سجنٌ آخر ينتظر أبا مرام، في الخارج، إذ يقول إن حكم البراءة لم يكن كافياً، لأن المجتمع كان قد حكم عليه بالإرهاب، وحتى بعض أقربائه كانوا يتعاملون معه بريبة، فقرر ترك البلاد بأسرها والبحث عن مكان يعيش فيه مع أسرته "بسلام". تتجمع الدموع في عينيه وهو يستدرك: هذا كل ما أريده الآن: أن نعيش بأمن وسلام بعيداً عن الظلم".
أبرياء خلف القضبان
حكاية أبي مرام، تشبه في كثيرٍ من تفاصيلها، حكايات آلافٍ من العراقيين، اعتُقلوا منذ 2003 بناءً على شبهات غير مؤكدة أو وشاية من "المخبر السري" أو للاشتباه بالاسم، وكثيرون نالوا أحكاماً قضائيةً تراوحت من السجن حتى الإعدام، مدانين بجرائم لم يقترفوها.
رئيس شبكة العدالة للسجناء في العراق، الحقوقي شوان صابر مصطفى، حمّل الجهات القضائية والحكومية المختصة مسؤولية ما وصفها بالانتهاكات التي تمارَس ضد الموقوفين في أثناء التحقيق، "من أجل انتزاع الاعترافات عنوةً منهم"، وحمّل حكومتي بغداد وإقليم كردستان مسؤولية ضعف الأجهزة التحقيقية.
ويقول: "الدول المتطورة لا تؤذي شعوبها، والمتهم تتم محاججته بأدلة واقعية بالاعتماد على تقنيات فنية حديثة في جمع الأدلة، أما في العراق، فيتم سد النقص في ذلك بواسطة التعذيب الجسدي!".
وكان العراق قد أصدر القانون رقم (30) لسنة 2008، وانضم بموجبه إلى الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة التي اعتُمدت من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1984، ودخلت حيز التنفيذ في 26 حزيران/ يونيو 1987.
مئات الأبرياء يتم اعتقالهم وانتزاع الاعترافات منهم بالتعذيب، ويبقون لسنوات عديدة في السجون، ثم يُثبت القانون نفسه الذي اعتُقلوا بموجبه براءتهم من التهم المنسوبة إليهم، لكن من دون التعويض عليهم أو في الأقل رد الاعتبار معنوياً إليهم
وبالعودة إلى شوان، فهو يؤكد أن موقوفين وسجناء كثراً قد تحدثوا عن تعرضهم لاعتداءات جسدية وضغوط نفسية كبيرة داخل مراكز التوقيف والسجون، وأن الأجهزة التنفيذية ممثلةً في وزارتي الداخلية والعدل: "يضعون ثمانين شخصاً في غرفة حجز لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار، ويقدّمون لهم أسوء أنواع الطعام، هذا فضلاً عن إبقاء المتهم لسنوات عديدة في بعض الأحيان، من دون محاكمة أو تحقيق حتى".
واتهم شوان، جهات تابعةً للدولة لم يسمِّها، باستخدام أسلوب المخبر السرّي بغية الانتقام من أعدائها وتصفيتهم، ويرى أن أفضل حل في الوقت الراهن للتقليل من تلك الانتهاكات: "أن يتم السماح للمحامين بمرافقة المتهمين خلال رحلة التحقيق للتأكد من عدم تعرضهم للتعذيب، إلى حين تطبيق قوانين احترام حقوق الإنسان ومعاملة المتهم على أنه بريء حتى تثبت إدانته، وأن يعاقب بعدها وفقاً لنص القانون".
ووفقاً للمتحدث الرسمي باسم وزارة العدل كامل أمين، فإن أعداد المسجونين في العراق تزيد عن 60 ألفاً، موزعين في سجون الإصلاح المركزية والتسفيرات، وقال إنها تشترك جميعها في صفة واحدة هي: "الاكتظاظ".
المستشار القانوني والمحلل السياسي صفاء اللامي، يقول إن مئات ممن يصفهم بالأبرياء "يتم اعتقالهم وانتزاع الاعترافات منهم بالتعذيب، ويبقون لسنوات عديدة في السجون، ثم يثبت القانون نفسه الذي اعتُقلوا بموجبه براءتهم من التهم المنسوبة إليهم لكن من دون التعويض عليهم أو في الأقل رد الاعتبار معنوياً إليهم".
ويرى اللامي أن العراق بحاجة إلى تشريعات قانونية لرد الاعتبار لمن يُعتقَلون وتثبت براءتهم ومن ثم تعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم جراء ذلك. ثم يضيف: "أو في الأقل العمل بقرار قديم كان قد أصدره مجلس قيادة الثورة المنحل، وكان يتم بموجبه تعويض من يتم اعتقاله بالخطأ أو تعويض ذوي المحكومين بالإعدام وتثبت براءاتهم".
ويضيف صفاء اللامي بحكم مزاولته مهنة المحاماة، أن السجون مليئة بموقوفين تتشابه أسماؤهم مع متهمين بجرائم خطرة، كأن تكون إرهابيةً مثلاً. ويوضح: "يتم اعتقال هؤلاء الأبرياء في نقاط التفتيش والمنافذ الحدودية والمطارات ويمكثون في التوقيف لفترات قد تمتد لأشهر وسنوات، حتى يتم التأكد من أنهم ليسوا المقصودين".
اعترافات منتزعة بالقوة
بعثة الأمم المتحدة لدى العراق أصدرت في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2021، تقريراً أكد سوء الأوضاع في مرافق الاحتجاز العراقية، وأن "الاستجوابات التي تجريها قوات الأمن تهدف عامةً إلى انتزاع الاعترافات، وهي غالباً ما تعتمد الإكراه مثلاً، كما يتم تأخير الوصول إلى محامٍ بشكل منهجي إلى ما بعد استجواب المشتبه بهم".
في العراق، أبرياء يتم اعتقالهم وانتزاع الاعترافات منهم بالتعذيب، ويبقون لسنوات عديدة في السجون، ثم يثبت القانون نفسه الذي اعتُقلوا بموجبه براءتهم من التهم المنسوبة إليهم لكن دون التعويض عليهم أو في الأقل رد الاعتبار معنوياً إليهم
وعرض التقرير شهادات وصفها بالمروّعة عن التعذيب في السجون العراقية، كما نقل عن مديرة مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق، دانييل بيل، قولها إنّ "مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان تسعى إلى تخطّي المناقشة بشأن وجود هذه الممارسات أو نطاقها، والتركيز بدلاً من ذلك على دعم الجهود التي تبذلها الحكومة من أجل تعزيز الامتثال للأطر القانونية الدولية والوطنية".
وقالت دانييل: "الهدف النهائي هو التخفيف من احتمال وقوع تعذيب أو سوء معاملة نهائياً"، مشيرةً إلى أن الرصد المستقل لأماكن الاحتجاز أمر بالغ الأهمية. وتابعت: "بما أن التعذيب يقع في أغلب الأحيان سراً، فإن المزيد من الشفافية والانفتاح بشأن بما يحدث في مراكز الاحتجاز، بما في ذلك وصول أجهزة الرصد المستقلة إليها، يشكّل خطوةً مهمةً نحو منع حدوث التعذيب."
واستدركت: "لا تلغي هذه الخطوة فرص حدوث التعذيب فحسب، بل تحمي السلطات أيضاً من الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة".
ولا شيء جدياً تغيّر منذ صدور التقرير الأممي، إذ تقول المحامية ليلى قيس الكرخي، أن: "ضباط التحقيق يخترقون القانون بشكل كبير ويدفع الأبرياء أثماناً باهظةً لذلك، ناهيك عن محاصصة أحزاب السلطة وتدخلها في قرارات المحاكم وتعيينها قضاةً غير أكفاء ومساندتهم".
وتشير إلى أنها تلجأ إلى الإعلام من أجل شرح المشكلات التي تكتنف الإجراءات التحقيقية وما يتعرض له الموقوفون أو المحكومون: "عسى أن نلفت انتباه الجهات المعنية".
وتبيّن أن الإجراءات المنصوص عليها قانوناً، والمفروض اتباعها في التحقيق، هي: "إبقاء المتهم على ذمة التحقيق لأسبوع واحد فقط، وفي حال لم يتوصل المحققون إلى نتيجة ما، يجوز لقاضي التحقيق أن يمدد فترة التوقيف أسبوعاً آخر، وهكذا إلى حين استكمال التحقيق وتقديم نتيجته للقاضي المختص من أجل حسم الدعوى".
"لكن هذا لا يحدث عملياً"، تقول المحامي وتتابع: "قضاة التحقيق يعتمدون على مخبرين سريين يقدمون لهم التقارير، وإذا كانت التهمة إرهاباً أو تجارة مخدرات، يتم إصدار مذكرة قبض من دون تبليغ أو استقدام، ويوضع المتهم في معتقلات مخصصة، مثل 'مطار المثنى'، وتمتد فترات التحقيق لفترات طويلة.
وتؤكد عدم وجود قانون يحاسب المخبر السرّي في حال ثبت أنه يقدّم بلاغات كيديةً. وتبيّن السبب: "لأن القضاء يُخفي هويته خوفاً من العدوات الشخصية، ولأن المحققين يعتمدون على معلوماته باعتبارها تخص أمن الدولة".
غ. ف. (45 سنةً)، مهندس برمجة، يدير ورشة صيانة كمبيوترات وسط بغداد، اتُّهم بقتل والده سنة 2020، وحيثيات التهمة وفقاً لروايته، أن أفراد أسرته كانوا قد سافروا في تموز 2020 إلى خارج بغداد، وبقي هو برفقة والده في المنزل لأيام عديدة، وذات يوم قضاه كالمعتاد في عمله، ثم عاد في نهايته إلى المنزل برفقة صديقٍ له، فوجدا الباب الخارجي موارباً على غير المعتاد، وفي الداخل عثرا على والده ميتاً، ومضرجاً بدمائه.
بعد انتهاء مراسم العزاء الثلاث، فوجئ بعناصر من الشرطة يقبضون عليه وصديقه ووجهت إليهما تهمة القتل، مع أن أياً من أفراد أسرته لم يتقدم بشكوى ضده، حسب ما يذكر، ويقول: "دققوا في هواتفنا النقالة، واستمعوا الى الشهود، واخضعونا على مدى ستة أشهر لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بغية انتزاع اعتراف منا".
يضع يده اليمنى على كتفه اليسرى ويسرد تفاصيل واحدة من طرق التعذيب التي مورست ضده: "كانوا يربطوننا من أيدينا بالسقف لساعات، حتى تُقتلع أكتافنا، وينهالون علينا بالعصي الكهربائية والسياط ويرشوننا بالمياه الباردة".
لم يتحمل التعذيب وأقرّ بعد مرور ستة أشهر بأنه هو من قتل والده وأن صديقه لم يكن يعلم بذلك، وأنه اصطبحه معه إلى المنزل لكي يشهد لصالحه في حال اتهامه، فأحيل إلى القاضي المختص، وصدر ضده حكم بالسجن المؤبد، وتم الإفراج عن صديقه.
بعد أشهر من صدور القرار، ومحاولات حثيثة قام بها أفراد عائلته الذين دفعوا مبالغ كبيرةً لمحامين، توصلوا إلى كاميرا مراقبة لأحد الجيران، وثّقت خروج شخص ملثم طويل القامة مسرعاً من المنزل في يوم الحادث، وكانت ترافقه امرأة، وأيّد شاهد من سكان الحي ذلك، فنُقض القرار وأُفرج عنه.
طرائق تحقيق بدائية
تناقلت وسائل الإعلام في العراق في أيلول/ سبتمبر 2021، خبراً عن مجرم مفترض اسمه علي الجبوري (30 سنةً)، منتسب في الجيش، من محافظة بابل جنوب بغداد، اتّهم بقتل زوجته، وأظهرته قوات الشرطة في كشف الدلالة وهو يتحدث في مسرح الجريمة المزعوم كيف قام بقتلها والتمثيل بجثتها وألقى بقطعها في نهر الفرات، فصدر قرار بإعدامه وفقاً للمادة 406 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969.
وقبل تنفيذ الحكم، ظهرت الزوجة، التي كانت متواريةً عن أهلها في مكان مجهول، "بعد أن أنّبها ضميرها من أن يعدم زوجها بسببها"، وفقاً لمصدر قانوني في بابل، لخّص حيثيات الدعوى بقوله: كان هو وزوجته قد ذهبا لزيارة ضريح ديني في كربلاء في 12\4\2021، ولخصوصية مثل تلك الأمكنة، تكون بوابة دخول الرجال مستقلةً عن بوابة دخول النساء، والزوجة اختفت بعد اجتيازها البوابة واختفت تماماً على الرغم من استمرار بحثه عنها لأسابيع، وتقديمه بلاغاً عن اختفائها منذ اليوم الأول في مركز شرطة السدة".
في منتصف تموز/ يوليو 2021، تم اعتقال الزوج علي، بناءً على شكوى تقدّم بها أهل الزوجة اتهموه فيها بقتلها، وبعد أيام قليلة اعترف تحت التعذيب بأنه هو من قتلها، غير أن ظهور الزوجة لاحقاً وثبوت براءته، جعلا الرأي العام يتناول القصة كدليل على تعرّض المواطنين للتعذيب في السجون العراقية لانتزاع الاعترافات منهم، وبدأت المطالبات بتغيير نظام التحقيق برمته.
وتحت ضغط من الرأي العام، ظهر رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، في لقاء متلفز، وهو يستمع إلى رواية علي الجبوري الذي كان والده متواجداً معه، ثم ظهر كذلك وهو يستمع لمحققين قضائيين، قال أحدهم إن القاضي أكد على ضرورة حسم القضية بسبب الرأي العام.
وفي إقرار نادر لمسؤول عراقي في منصب رفيع، عن وجود أبرياء في السجون العراقية، قال الكاظمي: "الدولة فيها مشكلات كثيرة بسبب تدخلات البعض، والفساد موجود، ناهيك عن وجود الشخص غير المناسب في المكان المناسب وهذه المشكلات أدت إلى أن يكون الأبرياء ضحايا".
لكنه تدارك ليخلي ساحة وزارات حكومته من المسؤولية الكاملة: "الضباط غير الأكفاء يمثلون أنفسهم في وزارة الداخلية، لا الوزارة، وهم يتبعون شياطينهم دون إنسانيتهم في انتزاع التحقيقات من المتهمين".
المستشار القانوني صفاء اللامي، يقول إن هذه القضية تدلّ كذلك على أن "العراق يستخدم طرائق بدائيةً في التحقيق، غادرتها الدول الأخرى منذ عشرات السنين، ومنها انتزاع الاعترافات بالقوة والتعذيب"، ويضيف بأسف: "المشكلة الكبيرة تكمن في الاعتماد على المخبر السرّي ليكون بمثابة عيون للدولة تتم زراعتها بين السكان وتلقّي البلاغات منه، وبعضها يتضمن تهماً كيديةً، لذا نجد أن الكثير من الأبرياء في السجون".
الناشطة في مجال حقوق الإنسان هناء أدور، انتقدت وضع السجون في العراق وقالت إن واقعها مزرٍ، وإن الجهات التحقيقية تمارس أساليب وحشيةً ضد المتهمين، برغم أن العراق مصادق على اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز".
وتعتقد أدور بأن هذا يؤدي إلى فقدان ثقة المواطنين بالدولة، لأنهم لا يعرفون بمن يحتمون، وتقول: "الجهة التي يُفترض أنها تشكل مصدر الأمن بالنسبة إليهم أضحت واحدةً من المصادر التي تشكل الخطر عليهم".
وتلفت إلى أنها تابعت خلال الفترة المنصرمة قضايا عديدةً لنساء في طور التحقيق اتُّهمن بالبغاء، من دون إجراء الفحوصات المخبرية لتأكيد المزاعم ضدهن، وتقول بحدة: "نتائج مثل هذا الفحص تظهر بعد فترة لا تتعدى 48 ساعةً، لكن يُهمل هذا، ويتم التسويف على قضاياهن، بل يتم اغتصابهن كذلك في أثناء التحقيق".
أدور، تبرئ ساحة القضاة العراقيين من أحكام غير صحيحة قد يصدرونها، وترمي بالكرة في ساحة المحققين، وتقول عن ذلك: "ينظر القاضي يومياً في العشرات من القضايا، ربما ستين دعوى في اليوم الواحد أو أكثر، ولا يوجد في كثير من الأحيان مستشارون له، لذا لا يملك الوقت الكافي لمراجعة ودراسة جميع القضايا".
صباح (50 سنةً)، من قرية تابعة لقضاء الصقلاوية، في محافظة الأنبار غرب العراق، اضطر إلى مغادرتها مع أفراد أسرته بعد دخول عناصر تنظيم داعش إليها في 2015، تاركين ممتلكاتهم ومواشيهم صوب مخيم للنازحين في محافظة السليمانية في إقليم كردستان.
وبعد فترة من الإقامة هناك، قرر هو وأشقاؤه الثلاث السفر إلى قضاء أبو غريب في العاصمة بغداد، والمكوث في مزرعة تملكها عمّةٌ لهم هناك.
يقول صباح: "في سيطرة التاجي قبل الدخول إلى بغداد، وكان ذلك في بداية 2016، طلب منا عناصر الجيش النزول لتدقيق أسمائنا في الكومبيوتر للتأكد من أننا غير مطلوبين، وتم القبض عليّ دون أخوتي بتهمة أنني إرهابي، وعبثاً حاولت إقناعهم بأن هنالك خطأ ما، وقد يكون مجرد تشابه اسمي مع شخص مطلوب!".
بدأ مشواره مع التحقيق والتعذيب لانتزاع الاعترافات منه، ليستمر لأشهر. أخذوه أول الأمر إلى مطار المثنى في بغداد، ووجد أن أغلب المعتقلين موجودون هناك مثله، بسبب تشابه الأسماء وأن التعذيب الجماعي والفردي كان يستمر لساعات.
يقول بحرقة: "مات أحد المتهمين أمامي، فساءت صحتي، وبدأت أشك في نفسي. كان المحققون يخبرونني بأنهم متأكدون من أنني إرهابي وبراءتي مستحيلة، ولم يكن أمامي في نهاية الأمر سوى الاعتراف بشيء لم أفعله، وأخبرتهم بما طلبوه مني، وبأنني قمت بمساعدة الإرهابيين في عملية ضد الجيش، وأنني كنت أهرّب لهم السلاح".
استناداً إلى اعترافاته، أصدرت محكمة الجنايات في بغداد حكماً بسجنه في شهر آب/ أغسطس 2016، لـ15 سنةً، وأودِع في سجن أبو غريب في بغداد ليقضي محكوميته، وبعد مرور خمس سنوات تواصل أحد المحامين مع ذويه، وأخبرهم بأن المتهم الحقيقي الذي يحمل اسم صباح الثلاثي نفسه، قد تم اعتقاله واعترف بجرائمه، فتم الإفراج عن صباح أواخر 2021، بعد رحلة في السجون امتدت لنحو ست سنوات، خرج منها بريئاً، لكن من دون أي تعويض يُذكر.
تقول زوجته: "لا نريد أي تعويض، المهم أنه عاد إلينا، سمعنا عن أبرياء كثيرين مثله، أُعدموا أو اختفوا أو سُجنوا لسنوات طويلة". وتضيف بأسى: "كان وزنه أكثر من 100 كغم قبل اعتقاله، لكن بعد خروجه أصبح وزنه فقط 60 كغم، وظهره محني، وعليه ندوب السياط". ترفع يديها بوضعية الدعاء: "الحمد لله، كتب له حياةً جديدةً وعاد إلينا".
غير أن الحياة الجديدة هذه غير مكتملة، فهو يرفض مغادرة قريته، لكيلا يضطر إلى المرور بنقطة تفتيش، وتعود إليه ذكريات وقائع ما حدث له. يقول هامساً لكيلا تسمع زوجته: "الشخص الذي عاد إليها بوزن 60 كيلو لم يكن أنا أبداً".
أُنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.