عاشت العاصمة الموريتانية نواكشوط، ومدن في شمال وجنوب البلاد، احتجاجات شعبية وأعمال شغب، على خلفية مقتل شاب يدعى عمار جوب (38 سنة)، ليلة الإثنين 29 مايو، وتتهم أسرته الشرطة بقتله أثناء توقيفه في مفوضية الشرطة رقم1، في مقاطعة السبخة، في ولاية نواكشوط الغربية.
أدى مقتل عمار جوب إلى موجة احتجاجات وأعمال شغب. يتهم المحتجون الشرطة بأنها قتلته وهو ما تنفيه السلطات الأمنية
مع تطور الاحتجاجات، حدث في يوم الثلاثاء، 30 أيار/مايو، أن تعرض شاب آخر، يدعى محمد الأمين، في مدينة بوغي جنوب موريتانيا، لإطلاق نار تسبب في إصابته إصابة بالغة، قبل أن ينقل إلى المستشفى، ليفارق الحياة، وبحسب شهادات لبعض المحتجين، فإن الشاب تعرض لإطلاق نار بالرصاص الحيّ من طرف الشرطة، وحسب وزير الداخلية الموريتاني، فإن الشاب المقتول كان ضمن جماعة تحاول اقتحام مفوضية للشرطة، وهو ما نفته أسرة الشاب لوسائل إعلام محلية.
مشهد وأساليب متكررة
قصة مقتل الشاب جوب في ظروف مريبة، أعادت إلى الأذهان مشهدا حدث قبل أشهر، أرّق الشارع الموريتاني، وهو حادث مقتل الناشط الصوفي ولد الشين في مفوضية الشرطة. وكما حاولت إدارة الأمن في بداية قصة الصوفي ولد الشين تقديم مقتله على أنه مجرّد وعكة صحية ولا علاقة له بالتعذيب، قبل أن تتغير تلك الرواية بعد هبَّة شعبية، تكرر المشهد، إذ أصدرت الشرطة الموريتانية بيانا، حول قضية عمار جوب، قالت فيه إنه توفي بسبب عراك عنيف مع مجموعة من الشبان وصفتهم برفاقه، مضيفة "كان شرطيان يقومان بدورية في مقاطعة السبخة ليلة البارحة، وبعد الاقتراب من مكان الواقعة، اتضح لهما أن الأمر يتعلق بثلاثة أشخاص يقومون بالاعتداء على رفيقهم الرابع وهو "عمار چوپ"، الذي كان وقتها في وضعية شبه فقدان كامل للوعي نتيجة استخدام المؤثرات العقلية"، وأكد البيان أنه وبعد إحضار الشرطة لعمر جوب إلى المفوضية، "في حدود الساعة الثانية فجرا اشتكى المعني من ضيق في التنفس ليتم نقله فورا إلى المستشفى الوطني، حيث عاينه الطبيب المداوم وكتب له وصفة طبية، لكن بعد ذلك بدأت حالته الصحية تتدهور وهو ما يزال في المستشفى، ورغم محاولات الإسعاف، التي قام بها الطاقم الطبي المداوم، إلا أن القضاء والقدر قد سبقا، وتوفي المعني أثناء محاولات إسعافه".
رواية الجهاز الأمني لم تجد القبول من طرف أهل جوب ولا المحتجين، وبعدها قال وكيل الجمهورية في نواكشوط الغربية، أحمد ولد المصطفى، إنه بعد تشريح جثمان الشاب عمر جوب، "قرر الطبيب الشرعي إرسال عينات من دمه وبوله ومعدته إلى مختبر أجنبي لاستكمال الاختبارات"، مضيفا في ندوة صحفية أنه "تم التحقيق مع عناصر الشرطة الذين تواجدوا في مفوضية السبخة ليلة وقوع حادثة الوفاة، ويجري تعقب أشخاص كانوا مع المتوفي في الشارع العام أثناء حضور الشرطة".
وأكد ولد المصطفى أنه "سيتم إعلان نتائج التحقيق فور اكتماله، ولأنه هو الفيصل ستقرر النيابة في ما يترتب عليه قانونا".
وقالت أسرة الشاب عمار جوب إنها تعلق "القيام بإجراءات دفن المرحوم إلى حين تسلمنا لتقرير التشريح النهائي المعد من طرف الطبيب الشرعي المغربي".
إفلات من العقاب
في حديث لرصيف22، قال الصحفي والناشط الموريتاني أحمد ولد كركوب: "إن ظاهرة تكرار هذا النوع من جرائم قتل المواطنين، داخل مفوضيات الشرطة عائد إلى مسألتين رئيسيتين، أولهما هو الإفلات من العقاب، الذي تشهده موريتانيا، فنظامها القضائي، نظام تأسس على أن صاحب النفوذ القوي يفعل ما يريد ويعرف أن القضاء لن يعاقبه العقاب الكافي، والشرطة هي جزء من هذه المنظومة التي يتجذر فيها الفساد الأخلاقي والمادي، وهذا ما ينعكس على واقع الجريمة في البلد، لأن الشرطة هي أقرب القطاعات الأمنية للمواطنين، وهذا القرب يكون سلبا أحيانا، حيث يتحول إلى حقد وتصفية للحسابات في أحايين كثيرة، وكذلك الاستفزاز وحب الحصول على المال من قبل الشرطي صاحب الراتب الزهيد الذي يجعل منه طالبا للرشوة، أما النقطة الثانية، فهي قلة التكوين من قبل الشرطيين على احترم حقوق الإنسان".
تكرار مقتل مواطنين موريتانيين في مخافر الشرطة يسلط الضوء على الإفلات من العقاب والظلم الذي تتعرض له الفئات المهمشة
وأضاف المتحدث قائلا "الواقع الحقوقي الموريتاني، هو واقع مزري، فالمنظمات الحقوقية رغم كثرتها لا يتحدث منها عن واقع انتهاكات حقوق الإنسان سوى القليل، من هذه المنظمات، وما يعرف باللجنة الوطنية لحقوق الإنسان فهي لجنة ضعيفة وتابعة للنظام ولا تستطيع فعل أي شيء، حتى أنها الآن ربما دورها قد يقتصر على تلميع النظام".
بعد تصاعد وتيرة الاحتجاجات، قررت السلطات الموريتانية، قطع الإنترنت الجوال في يوم31 أيار/مايو، فيما حافظت على الإنترنت الثابت (الوايفاي)، وهو مشهد أصبحت السلطات الموريتانية، تدأب عليه في السنوات الأخيرة مع كل احتجاج، أو تحدّ أمني.
قد تضيع للأسف حقوق المغدور عمر خاصة، وأن البوليس والمخابرات، نشرت شائعات أن هناك أصدقاء له كانوا وراء اغتياله، وهو ما يرفضه المتابعون
وقال ولد كركوب، إن: "قطع الإنترنت عن البلد هو انتكاسة حقيقية، في مجال الحريات الفردية والجماعية، وهو مصادرة لحق من الحقوق المكفولة بالقانون، وهو حق التواصل وكذلك حق الحصول على الخدمة العمومية، والتي تسهل حياة المواطنين في مجالات الصحة والتعليم وحتى العيش، مثلا اعتماد الأسر على التطبيقات البنكية في حياتها اليومية، في المجالات الآنفة الذكر، أثر عليه قطع النظام لخدمة الإنترنت التي هي مطلوبة لتشغيل هذه التطبيقات التي سهلت حياة الناس، وخاصة المواطنين في مدن الداخل التي ينتشر فيها الفقر والحاجة"، مضيفا أن "قطع الإنترنت يؤثر على الاستثمار، ولم يكن أبدا مرتبطا بتوفير الأمن ولا علاقه بينهما، حتى أنه في الدول التي تشهد حروب داخلية وصراعات تبقى الإنترنت متوفرة، فما بالك بحراك احتجاجي يجب أن تكون السيطرة عليه ميدانية لا افتراضية".
اختلافات في قضية جوب وولد الشين
تعامل السلطات مع قضيتي الشاب عمر جوب والصوفي ولد الشين، والاحتجاجات المرافقة لهما، فتح النقاش، حول عدم تعامل السلطات بشكل أكثر حكمة مع القضية الأخيرة، وتفضيلها قمع المحتجين وتشويه الضحية وقطع الإنترنت عن المواطنين، بينما تراجعت عن محاولة تحويل مقتل الصوفي ولد الشين إلى مجرد وعكة صحية، وتم تبني قضيته من طرف أطراف محسوبة على السلطة الحاكمة، وأقيم له تشييع ضخم في العاصمة، وسط توافق كبير، وحسب أحمد ولد كركوب: "عمر جوب ليس حقوقيا مثل الصوفي ولد الشين، ولأن الصوفي حقوقي كان له الزخم الأكبر"، وأضاف ولد كركوب أنه تم التعامل مع قضية الصوفي ولد الشين بنوع من التريث "لحين طمسها وهو ما حدث بالفعل، حيث يعتبر ملف الصوفي في مراحله الأخيرة نحو الإغلاق النهائي، إلا إذا حدثت انتفاضة من محاميه وذويه وهو أمر مستبعد في الوقت الحالي على الأقل".
وأكد المتحدث، أن "قضية عمر جوب، تعتبر قضية شاب عادي من سكان الأحياء الهامشية، وهو ليس ناشطا حقوقيا، ومن السهل التخلص من قضيته وإلصاق التهم به وهو ما حصل بالفعل، لكن ذلك لم يمنع المتظاهرين من الخروج والغضب، ورغم أن العنف الذي حدث ليس مبررا، إلا أنه يحدث في بلدان العالم والأنظمة الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان، تتعامل معه بحكمة وعقلانية عكس ما فعله النظام الموريتاني".
وخلص ولد كركوب إلى أنه: "قد تضيع للأسف حقوق المغدور عمر خاصة، وأن البوليس والمخابرات، نشرت شائعات أن هناك أصدقاء له كانوا وراء اغتياله، وهو ما يرفضه المتابعون، وخاصة الرأي العام الذي سبق له وأن كان شاهدا على اغتيال الصوفي ولد الشين داخل مفوضي، وحمله إلى المستشفى وإصدار إدارة الأمن بيانا ما زال موجودا على صفحتها، مفاده أن وفاة الصوفي جاءت نتيجة وعكة صحية وهو ما عارضته الوقائع والتحقيقات والتشريح وحتى شهادة النيابة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...