شهدت المنطقة العربية طوال القرن العشرين، ثورات وانقلابات عدة على الحكومات، بسبب الأزمات الاقتصادية أو انهيار الأوضاع السياسية، وكان منها ما حدث في السودان، منذ استقلاله عام 1956؛ إذ وقعت انقلابات عسكرية عدة فيه، نجح بعضها، وباءت أخرى بالفشل، وكان من النوع الأول ما قاده المشير جعفر محمد النميري، في 25 أيار/ مايو 1969.
اختلف كُثر في تعريف النميري؛ هل هو قائد الثورة أو الانقلاب؟ يعرّف به الدكتور بسيوني الخولي في كتابه المعنون بـ"الجيوش الوطنية والثورة العربية"، بقوله: "هو المشير جعفر محمد النميري، الذي وُلد في 26 نيسان/ أبريل عام 1930، في واد نبوي بأم درمان، وتخرّج في الكلية العسكرية السودانية سنة 1952، وهو العام ذاته الذي حصل فيه انقلاب الضباط الأحرار في مصر".
تأثر النميري بأفكار جمال عبد الناصر (1918-1970)، الرئيس المصري الأسبق، حول الاشتراكية العربية والوحدة العربية، وقاد أكثر من حملة ضد التمرد في جنوب السودان، وشارك في أكثر من محاولة للإطاحة بالحكومات السودانية، بحسب الخولي.
وفي سنة 1966، تخرج جعفر النميري من كلية قيادة الجيوش في ولاية كانساس في الولايات المتحدة، وبعد ذلك بـ3 سنوات قاد انقلاباً عسكرياً أطاح بالحكومة المدنية برئاسة إسماعيل الأزهري (1900-1969)، وكان برتبة عقيد، ثم رقّى نفسه إلى رتبة مشير، وضمّ مناصب عدة، منها منصب رئيس "الوزراء، ومجلس قيادة الثورة"، بالإضافة إلى رئاسة دولة السودان.
تخرج جعفر النميري عام 1966 من كلية قيادة الجيوش في الولايات المتحدة، وبعد ذلك بـ3 سنوات قاد الانقلاب
أسباب انقلاب أيار/ مايو 1969
بعد الانتخابات البرلمانية عام 1965، وانتظام الجمعية التأسيسية، ازداد حنق الأحزاب، وعلى رأسها "الأمة" و"الوطني الاتحادي"، وجبهة الميثاق الإسلامي (أي الإخوان المسلمين وحلفاءهم)، وشهدت هذه الفترة مناوشات بين الإخوان والحزب الشيوعي، انتهت بطرد نواب الأخير من البرلمان.
لم يقف الحزب الشيوعي عاجزاً، وإنما رفع قضيةً دستوريةً إلى المحكمة العليا، التي حكمت ببطلان التعديلات التي اتخذتها الجمعية التأسيسية لأنها تتعارض مع الدستور، وازدادت الأمور شدةً وجرى تقويض الديمقراطية بدلاً من استقرارها واستدامتها.
وبحسب عزمي بشارة وأحمد أبو شوك، في كتابهما المعنون بـ"الثورة السودانية (2018-2019): مقاربة توثيقية – تحليلية لدوافعها ومراحلها وتحدياتها"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن الحكومة البرلمانية المنتخبة آنذاك، عجزت عن وضع دستور دائم يفي بتطلعات أهل السودان، وكذلك الوصول إلى اتفاق مقنع لحل مشكلة جنوب البلاد، لكنها أجهدت نفسها في تعديل الدستور وحل الحزب الشيوعي السوداني، مضيفةً بذلك إخفاقاً آخر إلى قائمة إخفاقاتها.
أدّت الصراعات المختلفة إلى أزمة في البلاد، وتدهورت الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقابلتها الأحزاب الحاكمة ببيان لافت أصدرته في 23 أيار/ مايو 1969، أعلنت فيه أنه جرى الاتفاق على أن يكون الدستور إسلامياً، والجمهورية رئاسيةً، على أن تُجرى الانتخابات الرئاسية في مطلع عام 1970.
ترتب على ذلك ازدياد حرب الجنوب ضراوةً، بسبب إعلان الجمهورية الرئاسية والدستور الإسلامي، وفي ظل هذه الظروف والأزمات السياسية والمؤامرات والتحالفات، أتى الانقلاب الذي قاده جعفر النميري، في 25 أيار/ مايو عام 1969.
يشير المؤلف نبيل نجم، في كتابه المعنون بـ"قصة الأمس"، إلى أن انقلاب "النميري جرى بالتعاون بينه وبين ضباط وطنيين في الجيش السوداني، بينهم شيوعيون، كانوا من ضمن مجلس قيادة الثورة، لكنه سرعان ما اختلف معهم، وأبعدهم عن مراكزهم، وأحال بعضهم إلى التقاعد، ولاحق الحزب الشيوعي السوداني، واعتقل سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب".
ويؤكد الدكتور عبد الجبار دوسة، في مؤلفه المعنون بـ"دارفور وأزمة الدولة في السودان"، أن الشعب السوداني كان توّاقاً إلى التغيير في ذلك الوقت، لكن اتضح أن الأمر لم يكن كما يظنون؛ إذ تشير بعض المراجع إلى أن جعفر النميري كان موالياً لبريطانيا، عندما نفّذ هذا الانقلاب، وأدخل القتل والعنف والدمار في حل مشكلات السودان.
وعلى ما يبدو فإن الغرب حاول استغلال الأوضاع غير المستقرة في السودان، فبدأ بفرض سيطرته، ويشير إلى ذلك ما ذكره مصطفى الشمري في كتابه "السياسة الأمريكية تجاه كينيا وآفاقها المستقبلية"، إذ يؤكد أنه "بعد نجاح اللواء جعفر النميري في انقلابه، قدّم الاتحاد السوفياتي المستشارين والطيارين المختصين لمقاومة حركات التمرد، لا سيما في الجنوب، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية فيه تقدّم العون للمتمردين في الجنوب".
تدخّل مصر وليبيا
لم يستقر الأمر لجعفر النميري، وإنما بعد مرور أشهر قليلة، وتحديداً في آذار/ مارس سنة 1970، قاد الصادق المهدي (1935-2020)، رئيس الحكومة قبل هذا التاريخ، ثورةً فاشلةً ضده، وفي 19 تموز/ يوليو 1971، قاد الضابط هشام العطا، ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي، في الجيش السوداني، انقلاباً استولوا فيه على السلطة جزئياً لمدة يومين، خاصةً أنهم لم ينسوا ما حدث معهم قبل ذلك من قبل النميري، وفقاً لمؤلف كتاب "قصة الأمس".
خلال انقلاب النميري جرى بالتعاون بينه وبين ضباط وطنيين في الجيش السوداني، بينهم شيوعيون، كانوا من ضمن مجلس قيادة الثورة، لكنه سرعان ما انقلب عليهم أيضاً، لماذا؟
في هذه الأثناء، جرى القبض على النميري، وأودِع في السجن لمدة 3 أيام، لكن ليبيا تحت حكم الرئيس السابق معمر القذافي (1942-2011)، تدخلت وقبضت على الثوار الموجودين في الخارج، وهم عائدون إلى السودان، بمعاونة مصرية، وانتهت محاولة الانقلاب الثوري بالفشل.
بناءً عليه، عاد جعفر النميري إلى الحكم، وأعدم الثوار الذين سلّمهم إليه الرئيس الليبي معمر القذافي، وفي أيلول/ سبتمبر 1971، أجرى الأول استفتاءً فاز فيه برئاسة السودان بنسبة 98.6%، وبذلك يكون قد شرعن حكمه للسودان، وفقاً للخولي في كتابه "الجيوش الوطنية والثورة العربية".
بعد الاستفتاء، حل النميري المجلس الثوري، وأسس بدلاً منه في سنة 1972، الاتحاد الاشتراكي السوداني، الذي ترأسه كذلك، وبدأ بإجراء مفاوضات مع المتمردين الجنوبيين، وتوصل إلى حل للنزاع والحرب الأهلية التي استمرت منذ سنة 1955، بمنح الجنوبيين الحكم الذاتي في اتفاقية أديس أبابا.
وتجدر الإشارة إلى أنه طوال حكم جعفر النميري، شهدت البلاد 4 محاولات انقلابية، لكنها فشلت، بحسب عصام شعبان ود. محمد عبد الكريم أحمد، في مؤلفهما المعنون بـ"آخر أيام البشير الثورة... المرحلة الانتقالية"، حتى جاءت انتفاضة نيسان/ أبريل عام 1985، والتي يأتي الحديث عنها لاحقاً.
سحق الشيوعيين والإسلاميين
بعد استلامه السلطة، أعلن النميري عن تشكيل مجلس ثورة مؤلف من تسعة ضباط ورئيس وزراء، وعيّنه المجلس رئيساً له، وقائداً للقوات المسلحة، وتمت ترقيته إلى رتبة لواء، وجاء في خطاب بابكر عوض الله، رئيس الوزراء آنذاك، أن نظام الحكم ينوي وضع السلطة جميعها في أيدي العمال والمزارعين والجنود والمثقفين، فتمّت إحالة عدد كبير من كبار المسؤولين في عدد من الوزارات إلى التقاعد، وأعطى المرسوم الجمهوري الأول البلاد لقباً جديداً هو جمهورية السودان الديمقراطية، وفقاً لما ذكره الدكتور حسن يوسف في كتابه "أيديولوجيات الحياة السياسية في الدول النامية".
لكن من ناحية أخرى، كانت سياسة النميري الاقتصادية، بعد توليه حكم البلاد، وفي أولها اشتراكيةً، وحاول تأميم الشركات والبنوك السودانية، وأجرى بعض الإصلاحات الزراعية، ثم تحول إلى الرأسمالية، وحسّن علاقاته مع الغرب بعدما ساندوه ضد الانقلاب الشيوعي.
وبعد التحول إلى الرأسمالية، أعاد النميري البنوك والشركات المؤممة إلى أصحابها، وشجع الاستثمارات الأجنبية، وافتتح في آذار/ مارس 1981، أكبر مصنع لتنقية السكر في العالم، وهو "الكنانة"، ويؤكد الدكتور بسيوني الخولي، أن النميري تحول من اليسار إلى واحد من أقوى حلفاء أمريكا في المنطقة، وسحق المعارضة الشيوعية والإسلامية، وانتُخب رئيساً لمنظمة الوحدة الإفريقية في تموز/ يوليو 1978، وحتى تموز/ يوليو 1979.
كانت سياسة النميري الاقتصادية، بعد توليه حكم البلاد، في أولها اشتراكيةً، ثم تحول إلى الرأسمالية
وكان جعفر النميري، على علاقة قوية بالرئيس المصري الأسبق أنور السادات (1918-1981)، ويُعدّ أول رئيس مسلم يؤيد الأخير في أثناء مفاوضات السلام مع إسرائيل، وظل رئيساً للسودان حتى عام 1985.
انقلاب بسبب الشريعة!
لم يكن الأمر وليد اللحظة، وإنما تشكل على مدار سنوات عدة، ولعل لجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية دوراً كبيراً في إسقاط "النميري"، إذ يقول الدكتور جمال سند السويدي، في مؤلفه "جماعة الإخوان المسلمين في دولة الإمارات العربية المتحدة – الحسابات الخاطئة"، إنه بعد محاولة الانقلاب عام 1976، التي نفّذتها تنظيمات وأحزاب سودانية كانت تتلقى التدريب العسكري في الخارج، ضد النميري، توجس الأخير خوفاً من الأحزاب التي أصبحت تشكل خطراً على حكمه، فأقدم في السنة التالية على خطوة استباقية، وعقد ما عُرف بالمصالحة الوطنية عام 1977، فدخلت الأحزاب معه فيها، ومن ثم حلّ حسن الترابي (1932-2016)، أحد زعماء الإخوان المسلمين، الذي كان صديقاً للرئيس منذ أيام الدراسة، الجماعة؛ لأن الأخير لم يكن يعترف بالأحزاب.
بناءً على ذلك، تقرّب حسن الترابي، من جعفر النميري، وبحسب مجلة البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل، في دراسة لها بعنوان "الحركة الإسلامية في السودان (1969-2019)"، فإنه أقنعه بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، وأدى ذلك في ما بعد إلى تغيير في الخريطة السياسية السودانية، بشكل يفوق التصور.
وكأن جعفر النميري لم يعِ الدرس جيداً، خاصةً أن من بين الأسباب التي قادته إلى انقلابه عام 1969، زيادة الحنق بسبب الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم يفكر في أن الأمر ذاته سيكون بداية الطريق للإيقاع به.
وأصبح الأمر مع الوقت واقعاً يعيشه النميري. فهو وعلى الرغم من التصالح الذي جرى بينه والجماعات الإسلامية، فشل في التحالف معهم ودخل في صدام مع النقابات والأحزاب، التي قادت الشعب في مظاهرات عارمة، وشهدت البلاد انتفاضةً كبيرةً، في نيسان/ أبريل 1985، بسبب تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، إلى أن أعلن وزير الدفاع آنذاك الفريق عبد الرحمن سوار الذهب (1934-2018)، الذي أصبح رئيساً للجمهورية في ما بعد، انحياز القوات المسلحة إلى الشعب السوداني، وتشكيل مجلس عسكري أعلى لإدارة المرحلة الانتقالية تحت رئاسته، على أن تُجرى الانتخابات بعد سنة واحدة، ووضع في أولوياته حل مشكلة جنوب البلاد، وكفل الحريات العامة و"كنس" آثار حكومة أيار/ مايو 1969.
ويشار هنا إلى أنه في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1983، أجرى محللون من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تقييماً للوضع في السودان، بعدما أصدر النميري آنذاك، عدداً من القرارات المثيرة للجدل.
لم يعِ النميري الدرس جيداً، خاصةً أن من بين الأسباب التي قادته إلى انقلابه عام 1969، زيادة الحنق بسبب الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فكيف وقع في الخطأ نفسه؟
حينها، اعتقد المحللون أن الدوافع الشخصية والسياسية للرئيس السوداني، هي التي قادته إلى اتخاذ قرارات مثيرة من دون مراعاة للعواقب المحتملة لسياسته، مشيرين إلى أن قدرته على المحافظة على كرسيه أصبحت مهددةً بدرجة كبيرة، في حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه.
وعدّت الاستخبارات أن ذلك مؤشر خطر على قرب زوال حليف مهم لواشنطن، في جزء مهم من العالم، وتنبأت بقرب سقوط حكمه، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين، وتحديداً في نيسان/ أبريل عام 1985، لتؤكد أن ما أوقع به كان اتخاذه قرارين، هما تطبيق الشريعة وتقسيم جنوب السودان.
لجأ جعفر النميري بعد أحداث نيسان/ أبريل عام 1985، إلى مصر، واستقبله الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وبعدها حصل على لجوء سياسي في البلاد، وعاد إلى السودان عام 1999، بعد 14 عاماً في المنفى في القاهرة، ودعا إلى الوحدة الوطنية، لكنه لم يلعب دوراً سياسياً بارزاً، عقب عودته، إلى أن توفي في 30 أيار/ مايو عام 2009، في الخرطوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...