شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
على محك حنة آرنت أو التوتاليتارية التونسية

على محك حنة آرنت أو التوتاليتارية التونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 28 مايو 202312:32 م

لم تعرف تونس ما بعد الاستقلال، وحتى ثورة 2011، إلا الأنظمة الديكتاتورية، إن مع نظام بورقيبة في فتراته كلها أو مع نظام بن علي. إلا أن تلك الأنظمة الاستبدادية كانت تتقنع بالديمقراطية مرةً، وبالاشتراكية مرةً أخرى، فتفتح فجوات للحياة وممارسة الحريات كحرية التعبير وحرية التجمع وحريات التنظيم، وظلت تناور المؤسسات من دون أن تمحوها وتلاحق المعارضين وتضيق عليهم بشتى الطرق تحت غطاء القانون. لكن تونس لم تعرف هذا النظام التوتاليتاري والفاشي، إلا مع الرئيس قيس سعيّد، الذي تدعمه الجماهير الهائجة المتعطشة إلى الانتقام، والنخبة المتواطئة.

جماهير الفاشية

تؤكد حنة آرنت في كتابها "أسس التوتاليتارية" أن هذه الأنظمة الفاشية تعتمد أساساً في بسط نفوذها على الجماهير، وأن تلك الجماهير كانت مستعدةً دائماً لهذا الدور، وأنها كانت طوال الوقت تنتظر مناداته. فـ"افتتان الدهماء بالشرّ والجريمة افتتان أكيد وليس بالأمر الجديد. إذ لطالما ثبت أن الرعاع يرحبون بأعمال العنف قائلين بإعجاب: "لئن كان ذلك غير جميل، فإنه بالغ القوة، بالتأكيد"، وهي ردات فعل غريزية تجاه الأحزاب والتنظيمات السياسية الكلاسيكية. إنها طاقة اليأس الخلاّق ذاتها التي تستغلها الجماعات المتطرفة لتجنيد أنصارها، فلم تعتمد داعش مثلاً، لتشييد ما أسمته "بالدولة الإسلامية"، إلا على هذا الاحتياطي الكبير من اليأس الذي ينشأ عند الجماهير، تلك الجماهير الزائدة عن حاجة الأحزاب والجماهير المنسية من مشاهد المركزية الإعلامية والسياسية.

كان موسوليني، الذي أنشأ فلسفته الفاشية النشاطوية، وكان أودولف هتلر يرددان جملاً شبيهةً تماماً بما يقولها قيس سعيّد منذ أيام ترشحه، حول الالتحام بالجماهير وتبادل المشروعية والوجود 

ولا تحتاج هذه الجماعات أو الأنظمة الشمولية إلا إلى النفخ في الأبواق لكي تتهاطل تلك القطعان من المخابئ والأقاصي. وهذا تماماً ما حدث مع قيس سعيّد، عندما خرج إلى الجماهير منادياً، وفي الوقت نفسه رافعاً شعاراً خبيثاً بدا للناس والمحللين أنه شعار ساذج: "الشعب يريد، أنا ليس لي برنامج". بهذه الجمل شديدة الذكاء في أدبيات الأنظمة الشمولية، وضع قيس سعيّد فخاً كبيراً لاصطياد الملايين من اليائسين الذين فقدوا تماماً الثقة بالخطب السياسية للمترشحين، وبوعودهم، فتراكُم الخذلان راكم عند هذه الجماهير أمرين؛ انعدام الثقة بالنخبة السياسية وتراكم مشاعر الحقد تجاهها وتجاه بعضها.

لكن ما لم يتم الانتباه إليه، أن غياب البرنامج وإنكار امتلاك أي برنامج هو جزء من برنامج الأنظمة الشمولية. تقول حنه أرندت: "أول من اعتبر البرامج والخطط السياسية بمثابة قصاصات أوراق لا فائدة منها ووعود مزعجة تتنافى بطبيعتها مع أسلوب حركة وانطلاقتها، كان موسوليني، الذي أنشأ فلسفته الفاشية النشاطوية، وكان أودولف هتلر يرددان جملاً شبيهةً تماماً بما يقولها قيس سعيّد، منذ أيام ترشحه، حول الالتحام بالجماهير وتبادل المشروعية والوجود. يقول الفوهرر: "كل ما أنتم عليه، تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه، أكونه من خلالكم فحسب".

إهذا النظام الذي يقترحه قيس سعيّد، أي اللا دولة، هو الشبق الكامن في لا وعي الجماهير، واستعادة لحالة الطبيعة وحرب الكل ضد الكل التي تحدّث عنها هوبز، وهو ذاته الشبق والشوق الذي دغدغه قادة داعش يوماً، فهبت القطعان من كل الحدود عارضةً صدورها للموت.

هذا التشبيه يستمد مشروعيته من تاريخ التوتاليتارية مع النازية والفاشية والنزعة التوسعية والقومية الوحشية التي دفعتها لمحاولة احتلال العالم. يتبنى نظام قيس سعيّد العقيدتين الفاشية والداعشية معاً في فكرة إنقاذ العالم وتنقيته من الأشرار والخونة والمتآمرين. ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم خطابات قيس سعيّد التي يتوجه بها إلى العالم والقومية العربية وأنه يسعى إلى إنقاذ البشرية. يفعل ذلك تحت ضغط جنون العظمة من ناحية، واستثماراً في الجهل المركّز لجماهيره التي تحركها هذه الغرائز وتعطيها ثقةً بأنها بعد أن كانت في قاع المجتمع وفي هامشه، صارت تقود البلاد وتقود تغيير العالم.

تذكرنا اليوم تحركاتهم وهجوماتهم الميدانية والافتراضية بأنصار ترامب، عندما هاجموا مقر الكونغرس، والذين يسمّون أنفسهم؛ "الأولاد الفخورون"، إثر إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو 2021.

تونس لم تعرف هذا النظام التوتاليتاري والفاشي إلا مع الرئيس قيس سعيّد، الذي تدعمه الجماهير الهائجة المتعطشة إلى الانتقام، والنخبة المتواطئة. 

ألا يذكّرنا اسم هؤلاء الأنصار المتطرفين: "الأولاد الفخورون"، بأنصار قيس سعيّد الذي يصرّ على أنهم الشباب والذين يرفعون الشعار المرعب "على العهد باقون"؟ عن أي عهد يتحدثون؟ هل هم جماعة سرّية قامت بطقوس سرّية في أثناء الترشح للانتخابات وعمّدت قيس سعيّد كصاحب ديانة جديدة؟ بعضهم يستشهد بالآيات القرآنية: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".

هذا الشعار ضد فكرة الديمقراطية، لأنه ينطلق من ثقافة المبايعة التي تجعل من المواطن الذي يغيّر موقفه من الحاكم إذا جار أو انحرف خائناً للعهد.

هذا الطابع الديني الذي يظهر ويختفي في خطابات قيس سعيّد، هو الذي جرّ وراءه السلفيين وأنصار حزب التحرير، وهو يجاهر بصداقته لزعيمهم من قبل الانتخابات ويجالسه في المقهى ويتفاخر بذلك عندما واجهه الإعلام بصورتهما معاً.

لكن الملاحظ أن قيس سعيّد كان يراوح بين هذا الوجه الإسلاموي لحشد الأنصار المحافظين والوجه الشيوعي الستاليني لحشد الأنصار اليساريين من "الوطد" و"حركة الشعب" والمتسربين من "حركة النهضة" وبقايا التجمع المنحل والعدميين واللا منتمين واللا نظاميين من سقط المتاع من المجرمين والسوقة واللصوص والقراصنة الذين يحتاجهم لتشويه معارضيه وملاحقتهم بكل الخطابات السوقية وهتك أعراضهم بالشتم والسباب والشائعات. فالحاكم المستبد في الأنظمة الشمولية كما تكتب حنة آرنت، "يمكن أن يغرس في الذهن ضمن مهلة من الزمن قصيرة نسبياً. ذلك أن جمهور المغفلين المتضامن منظوراً إليه من آلات الاستبداد والإبادة العديمة الشفقة، هو خير مادة وأطوعها لاقتراف الجرائم التي تتعدى بأحجامها الجرائم المهنية".

لذلك كان يسمح في كل مرة بظهور رفيقه رضا لينين ليخرج في التلفزيونات، ويذكر أن انقلابه أو ما يسميه بالمسار التصحيحي، مسار يساري. ولذلك توقف، أيضاً، قيس سعيّد منذ انقلابه، عن مواصلة استعراضه لذهابه إلى المساجد أو التقاط الصور له وهو يصلّي في الجوامع والفيافي.

وهذا المزيج من مغازلة السلفية والرجعية الحادة من اليمين واليسار هي التي تتغذى عليها الأنظمة التوتاليتارية والحركات الشعبوية في العالم منذ نشأتها إلى اليوم، ودعّمها واقع ثقافي واجتماعي وتعليمي بائس يفرّخ كل يوم آلاف الكائنات الأمّية العنيفة المتعطّشة إلى ممارسة العنف.

نخبة التواطؤ

لم تغيّر النخبة التونسية موقفها من الأنظمة الديكتاتورية، فقد ظلّت طوال التاريخ التونسي الحديث منذ الاستقلال لا تبرر أفعال السلطة فقط بل تشارك في إنتاجها وتكريس حكمها واستبدادها. ومثلما رُسمت الخطط لزين العابدين بن علي ليرسي انقلابه، وخانت الحبيب بورقيبة الذي كانت تنظم فيه المدائح والأذكار وتحبّر فيه الكتب، خانت بدورها سيّدها بن علي والتحقت بعد الثورة بالثوار بحثاً عن تموقع جديد لها مهما كانت الجهة التي التحقت بها. وخانت الثورة بدورها يوم 25 تموز/ يوليو واصطفت مع الدبابة ووراء الرئيس الذي انقلب على الديمقراطية التي جاءت به وقدّمت له فروض الطاعة، بعضها طمعاً في مناصب وتقرباً من السلطة، وبعضها بسبب عمى أيديولوجي جعل هدفهم المتمثل في تصفية خصومهم السياسيين يسمح لهم بالتحالف مع الشيطان نفسه، وجعلهم مستعدين لتحطيم البلاد برمتها على أن ينافسوا خصومهم في الانتخابات وفي ظل الديمقراطية. وهكذا تحالف كما تقول حنة أرندت، "الرعاع والنخبة"، غير أنها تراه تحالفاً مؤقتاً.

الحاكم المستبد في الأنظمة الشمولية كما تكتب حنة أرندت، "يمكن أن يغرس في الذهن ضمن مهلة من الزمن قصيرة نسبياً. ذلك أن جمهور المغفلين المتضامن منظوراً إليه من آلات الاستبداد والإبادة العديمة الشفقة، هو خير مادة وأطوعها لاقتراف الجرائم التي تتعدى بأحجامها الجرائم المهنية"

ويبقى السؤال الوجودي لعقلاء تونس يتردد في كل مرة: لماذا يفرّط الشعب التونسي كل مرة مع كل انتفاضة في حريته؟

عندما أصدر الباي مرسوم عتق العبيد في 1846، كان التونسيون يدفعون بعبيدهم الذين صاروا أحراراً بالقانون إلى خارج بيوتهم ومعتقلاتهم، لكنهم كانوا يعودون إليهم متمسكين بأثوابهم وهدفهم أن اتركونا عبيداً عندكم ولا تتخلوا عنّا. كانت تلك القصص التراجيدية التي روتها المتون القديمة واستعانت بها السرديات الحديثة، تعطي مثالاً على أن الحرية ليست سهلةً والتمسك بها ليس سهلاً، وقديماً قال شاعر تونس أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة/فلا بد أن يستجيب القدر". وهذه الجملة الشرطية لم يفهمها أغلب التونسيين الذين يتغنون بها في كل الأوقات مع نشيدهم الرسمي، لأن موضوعها الأساسي ليس التنبؤ باستجابة القدر بل موضوعها الأساسي هو اشتراط إرادة الحياة، أي أن القدر لن يستجيب أبداً لمن لم يتمسك بحقه في الحرية لتأتي بعد ذلك كل قصائد الشابي ونثره مؤكدةً على صعوبة تحقق ذلك الشرط بسبب خمول الشعب ورضوخه المستمر للطاغية.

وأمام هذا الانفلات السلطوي ورضوخ الشعب وانحسار قوة القانون، نسمع صدى الكاتب البولندي فيتولد غومبروفيتش، في يومياته مردداً: "الحرية. من أجل أن تكون حرّاً، فإنه ينبغي ليس فقط أن تريد أن تكون حرّاً، بل ينبغي أيضاً أن تريد أن تكون حرّاً ليس أكثر من اللازم. أي رغبة أو فكر متجاوز للحدود لن يكونا قادرَين على مقاومة التطرف".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard