في العاصمة مقديشو، لا تنقطع الكهرباء إلا قليلاً، ولأسباب فنية في المقام الأول. لا يشتكي سكان العاصمة من تلك المشكلة التي تعاني منها عواصم بلدان عربية أكثر ثراءً واستقراراً. تلك الحال ليست وليدة اليوم، بل هي واقع ممتد منذ أعوام. يوفر هذا النجاح مدخلاً إلى فهم السؤال التالي: كيف يعيش الشعب الصومالي في ظل موازنة عامة لم تتجاوز المليار دولار سنوياً منذ عقود؟
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد السكان في الصومال منذ انهيار الدولة المركزية عام 1991، ويقدّر باحثون عدد سكان البلاد بما بين 15 و20 مليون نسمة. في الوقت ذاته، بلغت الموازنة العامة للدولة لعام 2023، مبلغ 977 مليون دولار، تحصل الحكومة على 70% منها من المنح والتمويلات الدولية، وتوفر بنفسها الـ30 في المئة المتبقية. فكيف يدبّر الصوماليون حياتهم في ظل هكذا موازنة؟ وكيف يحصلون على الخدمات العامة؟ وكم عدد موظفي الحكومة الفيدرالية؟
الحياة في ظل غياب الدولة
سبب قدرة الشعب الصومالي على توفير خدمات منوطة بالدولة، برغم غيابها الطويل ثم حضورها الضعيف، هو أنّه منذ العام 1991، حين انهارت الدولة المركزية بسقوط نظام الرئيس الراحل سياد بري، نجح الشعب الصومالي في التأقلم مع غياب مؤسسات الدولة، فنشط رجال الأعمال للحلول محلها في تقديم الخدمات المالية والمرافق العامة والاقتصادية والتعليمية كافة، وغيرها من الخدمات والمرافق. ولهذا تعاطى مجتمع الأعمال في الصومال مع قوى الأمر الواقع كلها التي سيطرت على البلاد، بما فيها حركة الشباب المجاهدين، المصنّفة حركةً إرهابيةً، ومن دون ذلك لما كانت لهم حياة.
بدأت محاولات تأسيس حكم فيدرالي في البلاد منذ العام 2004. تأسست الحكومة الاتحادية الانتقالية (2004-2012)، وتمكنت من العمل من داخل مقديشو بعد العام 2006، بعد هزيمة نظام المحاكم الإسلامية، والتحالف مع فرع منه لاحقاً. منذ العام 2012، الذي شهد توقيع الدستور الاتحادي الانتقالي، تأسست الحكومة الاتحادية التي تحكم البلاد حتى اليوم. يرأس الدولة والسلطة التنفيذية حسن شيخ محمود، بينما يرأس حمزة عبدي بري، الوزراء.
لم تتمكن الحكومة الفيدرالية من بسط سيطرة حقيقية على العاصمة مقديشو حتى الأشهر القليلة الماضية، بعد سلسلة واسعة من العمليات الأمنية والعسكرية الشاملة ضد حركة الشباب المجاهدين، التي انسحبت إلى خارج العاصمة والمدن في وسط البلاد وجنوبها، بعد سلسلة من الهزائم
مع ذلك لم تتمكن الحكومة الفيدرالية من بسط سيطرة حقيقية على العاصمة مقديشو حتى الأشهر القليلة الماضية، بعد سلسلة واسعة من العمليات الأمنية والعسكرية الشاملة ضد حركة الشباب المجاهدين، التي انسحبت إلى خارج العاصمة والمدن في وسط البلاد وجنوبها بعد سلسلة من الهزائم.
بالإضافة إلى ما سبق، كان أحد أوجه التكيّف مع غياب الدولة هو تأسيس الولايات الإقليمية على أساس عشائري، لتوفير الأمن والخدمات في ظل الفوضى؛ تأسست ولاية بونتلاند عام 1998، وولاية جنوب الغرب في 2002، وقبل ذلك تأسست صوماليلاند عام 1991، التي أعلنت الاستقلال من طرف واحد، ولاحقاً تأسست الولايات الثلاث؛ جلمدوغ عام 2006، جوبالاند 2011، وهيرشبيلي في 2016.
بالإضافة إلى الولايات الخمس -باستثناء صوماليلاند- يوجد إقليم بنادر الذي تتبعه العاصمة مقديشو. تشكل تلك الجغرافيا دولة الصومال الفيدرالية. وارتباطاً بذلك تُعدّ الولايات بمثابة دولة داخل الدولة من حيث تقديم الخدمات كافة؛ لا توجد سلطات اتحادية بالمفهوم الفيدرالي المنضبط، وتتولى الولايات ممارسة السلطة داخل حدودها، وتقديم الخدمات العامة. اقتصادياً، لا يوجد نظام فيدرالي في ما يتعلق بالضرائب، وتعمل العاصمة كأنها إحدى الولايات، وهو الأمر الذي يُعبَّر عنه سياسياً في تشكيل أعلى هيئة اتحادية في البلاد، وهي المجلس الاستشاري الوطني، الذي يضم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورؤساء الولايات الخمس ومحافظ إقليم بنادر وعمدة مقديشو.
977 مليون دولار
تسير الموازنة العامة للصومال في منحى تصاعدياً؛ بلغت 246 مليون دولار، منها 120 مليون دولار عبارة عن مساعدات دولية في عام 2016، وبلغت الرقم نفسه في الـ2017. في عام 2019، بلغت 400 مليون دولار، وارتفعت إلى 671.8 في العام 2021، وفي العام التالي وصلت إلى 918.7 ملايين دولار. وأقرّ البرلمان (مجلس الشعب ومجلس الشيوخ)، موازنة العام 2023، بنحو 967.7 ملايين دولار.
من أين تحصل الحكومة الفيدرالية على الإيرادات؟ يجيب الأستاذ المساعد في الاقتصاد في الجامعة الصومالية في مقديشو، عبد العزيز أحمد إبراهيم، بأنّ الحكومة توفر 30% من إيرادات الموازنة العامة من الضرائب والإيرادات، وتحصل على بقية الموازنة من المنح والمساعدات الدولية. وأضاف لرصيف22، حول أبواب الإنفاق الحكومي، أنّها تشمل رواتب موظفي الحكومة الفيدرالية المقدَّر عددهم بنحو 5،000 موظف في القطاعات المدنية، وتتلقى دعماً مادياً ولوجستياً لتأمين رواتب وحاجات قوات الأمن والجيش.
وذكر أنّ الحكومة لا تدفع رواتب موظفي الولايات، ولا تخصص موارد لتقديم الخدمات العامة إلا قليلاً، حيث يوفر القطاع الخاص معظم الخدمات مثل التعليم والرعاية الصحية والمياه والكهرباء والاتصالات. وذكر أنّ عدد المستشفيات الحكومية لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، وكذلك يوجد عدد محدود من المدارس الحكومية، وتمتلك الحكومة الفيدرالية جامعةً واحدةً، هي الجامعة الوطنية الصومالية، في حين يصل عدد الجامعات الخاصة إلى أكثر من 100 جامعة.
وبحسب بيانات محدودة منشورة في صحف صومالية، حول موازنات الأعوام السابقة، تخصص الحكومة ملايين عدة من الدولارات لحكومات الولايات، ومبالغ مماثلةً للخدمات العامة، وتذهب معظم المخصصات لدفع مستحقات الموظفين المدنيين والأمنيين والعسكريين ورواتبهم. كما تحصل الحكومة على منح ومساعدات دولية ضمن برامج متعددة للشراكة في الأمن والبنية التحتية والخدمات العامة، تُضاف إلى ما تحصل عليه لدعم الموازنة العامة. وتبعاً لذلك، لدى هؤلاء المانحين نفوذ كبير على السلطات الاتحادية والولائية.
أما عن الموارد الذاتية للحكومة، بحسب مصدر صومالي فضّل عدم الكشف عن اسمه، فتسيطر الحكومة الفيدرالية على ميناء مقديشو ومطارها فقط، بالإضافة إلى المجال الجوي في جميع أنحاء الصومال، وهناك ولايات لديها موانئ خاصة، مثل بونتلاند وجوبالاند. وأفاد لرصيف22، بأنّه بعد إتمام برنامج إعفاء الديون ستتوقف المنح والهبات لدعم الموازنة العامة، وسيكون البديل الاقتراض لتغطية عجز الموازنة. وأشار إلى أنّ هذا التحول سيعزز من قوة الحكومة الاتحادية في مواجهة رؤساء الولايات؛ بحيث تكون مقديشو هي الجهة الوحيدة المخولة تلقّي تلك القروض، بخلاف المنح والهبات والمساعدات التي كان للولايات نصيبٌ فيها.
مقابل ذلك، كانت حركة الشباب المجاهدين المصنفة إرهابيةً، تجمع نحو 125 مليون دولار سنوياً في مناطق سيطرتها ونفوذها التي شملت العاصمة مقديشو. لدى الحركة نظام جبائي عمل بكفاءة كبيرة مقارنةً بالنظام الجبائي الحكومي، بسبب المرونة الإدارية والتشريعية لدى الحركة، فضلاً عن كون عدد من قياديها ومؤسسيها من دارسي الاقتصاد في جامعات باكستان. لكن ذلك الوضع تغيّر مع اتّباع الحكومة الفيدرالية نهجاً شاملاً لمكافحة الحركة، كان الجانب الاقتصادي الهادف إلى تجفيف منابع التمويل على رأسه.
ولزيادة عائدات مقديشو من الضرائب، توصل المجلس الاستشاري الوطني "NCC"، إلى اتفاق ينصّ على خضوع جميع الموانئ والمطارات لسلطة الحكومة الاتحادية، لكن بونتلاند لم توقّع على ذلك.
وتهدف الحكومة إلى الوصول إلى نقطة الإنجاز الخاصة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC)، بحلول أواخر عام 2023، لتحصل على إعفاء شامل من الديون. كان البرنامج التابع لصندوق النقد الدولي قد أجرى المراجعة الخامسة للبرنامج الإصلاحي في أيار/ مايو 2023، ومن المتوقع تخفيض ديون الصومال إلى نحو 550 مليون دولار، من أصل 5.2 مليار دولار، بنهاية العام الحالي. وبذلك تنخفض ديون الصومال إلى نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، من نحو 90% الآن. وبحسب تقديرات البنك الدولي بلغ إجمالي الناتج القومي في البلاد 7.9 مليارات دولار عام 2022، إلا أنّ باحثين يرون أنّ الرقم الحقيقي أضعاف ذلك.
يوضح الاقتصادي عبد العزيز أحمد إبراهيم، أنّ الاقتصاد غير الرسمي أكبر بكثير من الاقتصاد الرسمي، معللاً ذلك بأنّه مع انهيار الحكومة المركزية قاد القطاع الخاص الاقتصاد، في ظل غياب مؤسسات رسمية لتسجيل هذا النشاط، كما في حالة القطاع الزراعي وتربية المواشي وقطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
في الصومال، يعاني 1.8 ملايين طفل من سوء التغذية الحاد. وتبلغ نسبة الفقر بين السكان نحو 70% في بلد يشكّل الشباب 75% من سكانه، ويشهد سنوياً معدل زيادة سكانية مرتفعاً بنحو 3.1%. الصومال إلى أين؟
تحديات التنمية
لكن ما حققه القطاع الخاص غير كافٍ لتلبية الاحتياجات الخدمية والتنموية لسكان قدّر البنك الدولي عددهم بنحو 17 مليون نسمة في عام 2021. وبحسب تقرير لصندوق النقد الدولي، في عام 2022 واجه 30% من السكان، أي نحو 4.3 ملايين نسمة، مخاطر حادةً في الأمن الغذائي، ويعاني 1.8 ملايين طفل من سوء التغذية الحاد. وتبلغ نسبة الفقر بين السكان نحو 70%، فضلاً عن انتشار عدم المساواة في الدخل. يقدّم برنامج الأغذية العالمي مساعدات لنحو 2.3 ملايين مواطن، ثمة خطط لزيادتها بحيث تشمل 4.1 مليون مواطن، ويدعم البنك الدولي برنامج تمويل حكومي يصل إلى 200 ألف معيل/ ة، يستفيد منه 1.2 مليون مواطن.
لمواجهة تلك التحديات الجسيمة، التي تزداد كل عام في بلد يشكل الشباب 75% من سكانه، ويشهد سنوياً معدل زيادة سكانية مرتفعاً بنحو 3.1%، ونصيب الفرد فيه من الناتج الإجمالي لا يتعدى 447 دولاراً، وفق تقديرات العام 2021، تعمل الحكومة الفيدرالية على صياغة رؤية تنموية باسم "رؤية 2060".
عقد المجلس الوطني الاقتصادي -المؤسس حديثاً- اجتماعَين خلال شهر أيار/ مايو 2023، لصياغة رؤية تنموية طموحة، تنبثق منها الخطط الاقتصادية. إلا أنّ هناك مآخذ عدة على تلك الرؤية، أولها أنّها طويلة الأمد، ومن الصعب وضع خطط واقعية في بلد يعاني من تحديات كبرى، وشبه انعدام للبيانات الدقيقة، علماً بأنّ الحكومة الاتحادية لم تُجرِ أي إحصاء رسمي للتعداد السكاني.
بدايةً، ولتحقيق ذلك، أعلن الرئيس حسن شيخ، عن خطط لزيادة الجبايات الضريبية، وعن خطة لتوظيف 10 آلاف شاب/ ة، قبل نهاية العام الجاري، وهو أمر يراه مراقبون غير واقعي.
يعلّق أستاذ المحاسبة المساعد في جامعة إفريقيا العالمية، سعيد حسن إسماعيل جامع، بأنّ الحكومة الصومالية تفتقد منظومةً متجانسةً لاستغلال الكفاءات التي تحتاجها البلاد لوضع خطط تنموية، تبدأ من دراسة الواقع الاقتصادي، ثم وضع رؤية تنموية تنقسم إلى مدد زمنية مختلفة؛ قصيرة، متوسطة، وطويلة الأمد. وأضاف الاقتصادي الصومالي، في ما يتعلق بالموازنة العامة للدولة، أنها ليست موازنةً مبنيةً على الأسس العلمية المتبعة في ذلك، وهي أقرب إلى أنّ تكون موازنةً تسييريةً، غير منضبطة في ما يتعلق بالإيرادات والنفقات.
وحول التحديات، قال إنّ البلاد تواجه تحديات كبيرةً في وضع السياسات الاقتصادية، بدايةً بالافتقار إلى الكفاءات في الجهاز الحكومي المسؤول عن التخطيط، وتفشي الفساد في مستويات الحكم كافة، وهو ما ينعكس على قدرة الجهاز الجبائي على القيام بواجباته، فضلاً عن الافتقار إلى التشريعات والقوانين التي تنظم عملية فرض الضرائب وجبايتها.
بالإضافة إلى ما سبق، تعيق الصراعات السياسية بين مقديشو وولاية بونتلاند عملية استكمال دستور دائم للبلاد، يكون الأساس الذي تنطلق منه السياسيات الاقتصادية. ومن دون التوصل إلى اتفاق شامل لكتابة دستور دائم، ستشكل خطط التنمية وجهاً آخر للصراع، الذي لن يقتصر على بونتلاند وحدها.
من زاوية أخرى، تعبّر الطبيبة والناشطة الصومالية، هبة شوكري، عن موقف شعبي رافض لتوجهات الحكومة نحو زيادة الضرائب. وعللت ذلك لرصيف22، بأنّه لا يُعقل الحديث عن زيادة الضرائب، والشعب لا يرى نفسه مشاركاً في العملية السياسية وتوزيع الثروة، فضلاً عن رفض معظم الساسة الانتقال إلى نظام الاقتراع السرّي المباشر في الانتخابات، إلى جانب عدم وجود ضمانات لحماية المال العام من الاختلاس والفساد، وغياب خطط حكومية لمكافحة البطالة والفقر.
تتخوف شوكري، في حديثها إلى رصيف22، من أن يخلق الساسة وطبقة رجال الأعمال نموذجاً اقتصادياً يخفف الضرائب عن الأثرياء ويزيدها على الأغلبية الفقيرة. وفي هذا الصدد يشعر الكثير من مواطني البلاد بالخوف من توجهات صندوق النقد الدولي الذي يُعدّ الشريك الأساسي في الإصلاحات الاقتصادية في الصومال.
اجتماع المجلس الوطني الاقتصادي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين