أثار مسلسل "تحت الوصاية"، بعد عرضه في رمضان، الرأي العام، وراح الجمهور يطالب بتعديل قوانين الوصاية التي تجعل الأم في أوضاع ضاغطة وغير عادلة، لكن يظلّ السؤال: ما الشيء الذي يخصّ المرأة في مصر لا يحتاج إلى تعديل، ولا يجعلها في أوضاع ضاغطة وغير عادلة؟
بقرار الجمهور
في أكتوبر الماضي، بدأت أشعر بشكل مفاجئ بألم ضاغط بشكل غير عادي أسفل بطني، وصاحب الألم حرقة شديدة في البول، تدلّ على وجود التهاب نسائي. تجاهلت الأمر يومين، ثم أصبحت غير قادرة تماماً على الاحتمال، خطر لي أن أستخدم مرهماً وصفته الطبيبة النسائية لأمي من فترة قصيرة، وكان لعلاج الالتهابات الخارجية. لم أعثر عليه، فسألتها عنه بشكل مباشر. انتابها الضيق، وأصبح توترها واضحاً. سألتني بهدوء قلق: ما الأمر؟ انتابني الضيق بشكل مباشر بعد سؤالها لأنني شعرت بقلقها، فأجابتها بعصبية أنني أشعر بوجود التهابات حادة، وأبحث عن مرهمها من أجل سؤال صديقتي الصيدلية أن كان مناسباً للأعراض التي أشعر بها.
دلّتني على مطرحه، وراحت تسير خلفي وأنا أبحث عنه، وتلاحقني بأسئلة من نوع: أي منطقة بالضبط المصابة، وكيف حدّدتُ أنه التهاب نسائي، وما أسباب الإصابة. أمسكت بالمرهم ووضعته في يدها، وقلت لها بهدوء إن الحق معها، فما الذي يمكنه أن يجعلني أعاني من التهاب نسائي وأنا آنسة، والأكيد أن الألم وحرقة البول ناتجان عن ارتفاع نسبة الأملاح في جسدي كالعادة، وانتهى النقاش وكلٌّ منّا مستاءة منا الأخرى.
راح الجمهور يطالب بتعديل قوانين الوصاية التي تجعل الأم في أوضاع ضاغطة وغير عادلة، لكن يظلّ السؤال: ما الشيء الذي يخصّ المرأة في مصر لا يحتاج إلى تعديل، ولا يجعلها في أوضاع ضاغطة وغير عادلة؟
الزيارة الأولى
استطعتُ أن أبقى صامدة أمام الألم يومين آخرين، ثم قرّرت الذهاب إلى طبيبة من دون اصطحاب أحد معي. في الحقيقة لو عرضت الأمر بحدّته على والدتي كانت ستصحبني بشكل فوري للطبيبة، لكن شيئاً داخلياً رفض طرح الموضوع أصلاً، وللإنصاف، الرفض نابع من عقد طفولية شخصية، كانت بدايتها فترة تعرّفي على جسدي في وقت البلوغ، غير أن أي توتر أو أسئلة عن حالتي من والدتي لي أو للطبيبة سوف تثير غضبي بشكل مجنون، حتى لو كان سؤالاً عادياً أو سؤالاً طبيعياً، فالخوف الزائد والمبالغة بالاهتمام بأعراض أي مرض نسائي، من أجل الخوف على العذرية أو الخوف على صحة الرحم، أشياء تملؤني بالغضب بمجرّد شعوري باحتمال حضورها، وهذا يجعلني شخصاً غير واع ومدركاً لردود أفعاله.
توجهت بمفردي لطبيبة وجدتها بالصدفة في الشارع الأمامي لشارعنا. سألت بواب العمارة إن كانت العيادة تعمل اليوم، أجابني وهو يتأمّلني بوجه عابس بأنها تعمل، ثم سألني إن كنت منتظرة أحداً، أجبته بـ لا"، فقال: "هتكشفي وحدك يا آنسة؟". تجاهلته وصعدت للعيادة، وهنا شعرت أنني بداية وجبة اليوم للمجتمع الذي يتغذّى نفسياً ومعنوياً على أجساد النساء.
كانت العيادة فارغة تماماً، لا يوجد بها أحد سوى السكرتيرة، أخبرتني أن الطبيبة على وصول، وأن أول فحص سيكون من نصيبي. مرت ربع ساعة، ثم دخلت إلى العيادة امرأة طويلة ترتدي عباءة ونقاباً وقفازات سوداء، وتوجهت نحو غرفة الفحص. سألت السكرتيرة إن كانت هذه هي الطبيبة، فأخبرتني أنها هي. دقّ جرس غرفة السكرتيرة، فتحرّكت نحو غرفة الطبيبة، ثم عادت لي وسألتني إن كنت آنسة، فأجبتها بـ "نعم"، فسألتني لما أنا هنا بمفردي، فأجبتها: "لأنني مغتربة". عبست ملامحها، ثم طلبت مني الدخول إلى الطبيبة.
جلستُ أمام الطبيبة، وأعادت عليّ أسئلة السكرتيرة دون أن ترفع النقاب عن وجهها، وأجبتها بنفس الإجابتين: آنسة ومغتربة، فسألتني عن الأعراض وأجبتها باستفاضة، فسألتني من أين حصلت على عنوانها، وهل هناك أحد نصحني بها، أجبتها أنها مجرد صدفة، فهي العيادة الأقرب لبيتي. هزّت رأسها بصمت، ثم قالت لي بشكل واضح وبصوت حازم: "مش هقدر اكشف عليكي وأنتي آنسة، ومن غير ولي أمر، ده نظامي، ومتزعليش مني أنا معرفش مين ممكن يكون باعتك ليا". ارتفعت نبرت صوتي وأنا أرد على إهانتها: "يعني ايه مين باعتك ليا؟ بقولك عندي التهابات مش جاية أجهض مثلاً، عيب، عيب فعلاً اللي انتي بتوجهيه ليا ده".
صمتت، ثم أعادت الإجابة بنفس صوتها الحازم: "أنا آسفة، بس برضو ده نظامي، أو تروحي تجيبي والدتك وتجيني". بعدها أخرجت ورقة عادية من درج مكتبها، ورقة لا تحمل اسمها كطبيبة، وكتبت عليها عدة أدوية قد تصلح لحالتي التي فهمتها دون كشف، ومدّت يدها لي بالورقة، ثم دقّت الجرس للسكرتيرة، وطلبت منها إعادة رسوم الكشف لي، وودعتني.
قالت لي الطبيبة النسائية المنتقبة بشكل واضح وبصوت حازم: "مش هقدر أكشف عليكي وأنت آنسة، ومن غير ولي أمر، ده نظامي، ومتزعليش مني أنا معرفش مين ممكن يكون باعتك ليا"
خرجت من العيادة وأنا أبكي، وأسبّ الحياة ومن عليها. تحدثت مع صديقتي عن كل ما حدث، استوقفتها فكرة أن الأدوية التي وصفتها لي كتبتها على ورقة خارجية، وكأنها تنفي صلتها بزيارتي لها. مازحتني قائلة: "شكل عليها قضية سياسية وجت في وجهك"، ثم طلبت مني اصطحاب والدتي لطبيبة غيرها، فيبدو أنني بالفعل أمانة في يد المجتمع، بداية من بواب العيادة حتى الصيدلي الذي سيكتب لي على علب الدواء كم مرّة في اليوم أتناولهم.
الزيارة الثانية
زرت في اليوم الخامس طبيبة أخرى شابة، تواصلت مع عيادتها من خلال تطبيق خاص بحجز العيادات في مدينتي البائسة. كانت العيادة شبه فارغة، وهذا له معنيان في مدينتي: الأول أنها ليست طبيبة معروفة إطلاقاً، والثاني أنني جئت مبكراً. وبعد فحصها لي تأكدت أن العيادة فارغة بسبب أنها غير معروفة وغير متمكنة. بلطف وبطريقة لينة أخبرتني أنه لا داعي لخضوعي لكشف النساء، وأنها ستكتفي بكشف السونار، وسماع أعراض المرض مني، أخبرتها أنني لست بحاجة إلى سونار، وأنني هنا من أجل كشف نسائي، وأنني أبحث عن طبيبة وليس طبيباً لأنني أريد كشفاً نسائياً، وأنني هنا دون اصطحاب أحد من العائلة أو الأصدقاء لأنني بحاجة إلى كشف نسائي.
صمتت طويلاً وكأنها تفكّر في ما وجهته لها، ثم قالت بصوت هادئ: "أنت آنسة وأنا مقدرش أكشف عليك، وأنت هنا وحدك، وبعدين موضوعك بسيط، وأنا دكتورة وعارفة علاجك ايه، أرجوك بلاش تحرجيني". هذه الطبيبة ليست محجبة، وعيادتها مرحة، وحديثها لين، لكنها تقوم بدورها تجاه النساء الذي يمليه عليها المجتمع: الحفاظ على حيائهم، وعذريتهم، وسمعتها التي ستدمّر لو علم أحد بأنها تقوم في عيادتها بالكشف عما بين سيقان العذراوات.
الزيارة الثالثة
استخدمت علاج الطبيبة المنتقبة لمدة أربعة أيام ولم أتحسّن، ثم استخدمت علاج الطبيبة غير المحجبة، الواثقة بنوع مرضي دون الكشف عليّ، ولم أتحسّن بأي شكل من الأشكال. وصفت لي صديقتي الصيدلية دواء ولم أتحسّن، ووصفت لي صديقة لها متخصّصة في طب النساء الدواء، بعدما قصصت عليها قصتي، ولم أتحسّن، ظللت شهرين أعاني من نفس الأعراض، بعدها خضعت لصورة مقطعية لتحديد حجم حصوة في الكلية اليمنى، فظهر في الصورة أن هناك كيساً على المبيض الأيمن كبير الحجم، وطلب الطبيب أن أزور طبيباً متخصصاً في أمراض النساء من أجل علاج الكيس الموجود على المبيض الأيمن الذي ظهر في مقطعيته.
لا أستطيع أن أجزم بأننا سلبيات، ولا أستطيع أن أجزم بأننا أصبحنا عدوّات لبعضنا بفعل المجتمع، لكنني أستطيع أن أجزم بأننا جميعاً، كنساء، خائفات.
أخبرت أمي بما ظهر في المقطعية، وراح القلق يتفاقم على وجهها، فابتلعتُ الباقي من حديثي، وواصلتُ بأن أمر الكيس تافه، وعلاجه ستتكفل به المناعة مع الوقت ولا يحتاج إلى زيارة طبيب نساء، وفي هذه اللحظة كنت قد قرّرت الذهاب للعلاج بمفردي مرة أخرى، ولكن لطبيب رجل.
ذهبت إلى طبيب رجل بعدما انتظرت دوري عدة أيام، فحصني من خلال السونار، واطلع على صورة الأشعّة المقطعية، ووصف لي الدواء، وشرح لي حالتي، وأن أمر التكيّس بسيط وعلاجه فوري. ابتسمت له، ثم خبرته بأعراض الالتهابات، وبتفاصيل رحلة علاجها الفاشلة، وبأنني ما زلت أعاني منها حتى اليوم، فسألني مباشرة إن كنت ما زلت أريد كشفاً نسائياً، وأن هذا متاح هنا، وسيكون في حضور ممرضته حتى يجعلني مطمئنة، فأجبته فوراً بـ "لا"، وطلبت منه أن يصف لي الدواء بناء على الأعراض التي سأشرحها له.
استفزّتني ثقته في موقفه، استفزتني فكرة أنه رجل لذلك يستطيع أن يملي على المجتمع ما يريده أو ما يراه صحيحاً في أي ظرف وأي وقت، استفزّتني منه برغم أنه لم يخطأ، واستفزتني من الطبيبات الأخريات الخائفات دون أن أخطأ، واستفزّتني من نفسي التي تبحث عن علاج لعرض عادي لأكثر من شهرين في الخفاء وكأنها تخطأ. أنا لا أستطيع أن أجزم بأننا سلبيات، ولا أستطيع أن أجزم بأننا أصبحنا عدوّات لبعضنا بفعل المجتمع، لكنني أستطيع أن أجزم بأننا جميعاً، كنساء، خائفات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...