"أعيش حياتي وفق رزنامة الدورة الشهرية وما يسبقها من آلام وما يتخللها من آلام وما يزنّرها من سلوكيات مزاجية. أشعر أن لدي أسبوعاً واحداً كل شهر من الراحة الفعلية مع جسدي"، تقول سنا، وهي تدرك أنها ليست وحدها بل تشاركها نساء كثيرات في هذه المعاناة.
لسنوات طويلة، كان الأمر "طبيعياً" بالنسبة إلى سنا، مهما بلغت حدة الوجع الذي تعيشه كل شهر. فمنذ بدأت دورتها الشهرية في سن الثانية عشر لم يخبرها أحد أين هو الحد الفاصل بين الوجع "المقبول" والوجع "الزائد عن حده".
ثم باتت دورتها الشهرية أشبه بكابوس. الوجع يزيد كل مرة. حتى في فترة الإباضة (ovulation)، أصبح الوجع أكثر حدة والدماء أكثر حضوراً، ثم تطوّر الأمر إلى آلام تصاحب العملية الجنسيّة وإرهاق شديد وتقلصات حادة في منطقة الحوض ووجع في الرأس.
في المرات التي زارت فيها طبيباً نسائياً بغرض التعرّف على ما يجري معها، أخبرها الأطباء أنه عوارض طبيعية. أحدهم أجابها على إصرارها بوجود مشكلة بالقول: "كل هذا موجود في رأسك فقط".
المشكلة أن "الموجود في رأسها" موجود في رأس واحدة من بين كل عشر نساء في العالم. عرفت سنا لاحقاً أنه مرض فعلي استغرق العلم والأطباء سنوات طويلة قبل اكتشاف وجوده ومن ثم الاعتراف به باسم "انتباذ بطانة الرحم" أو Endometriosis، وبات له يوم عالمي هو الرابع عشر من شهر آذار/ مارس، والذي أصبح يُعتبر بعد جهود نسائية حثيثة شهر توعية حول المرض الذي يرهق كثيرات جسدياً ونفسياً.
بدأت سنا البحث عن جذور "الآندوميتريوزيس" وأسباب التأخر في اكتشافه، وعن صعوبة تشخيصه حتى الآن ورفض أطباء كثر الاعتراف به أو التعامل معه. أكثر ما لفتها كان في حديثها مع نساء أخريات كثيرات معروفات باطلاعهن وخوضهن في شؤون النساء. هن أيضاً لم يسمعن به قبلاً ولا يعرفن أي شيء عن وجوده.
في استطلاع رأي عبر تويتر، طرح رصيف22 ثلاثة أسئلة، الأول حول ما إذا كانت المرأة تشعر بآلام حادة أثناء فترة الطمث من عدمها، ومن بين 425 سيدة أجابت نسبة 69.6% بنعم مقابل 30.4% أجبن بلا. أما السؤال الثاني فكان "هل سبق أن سمعتِ بمرض "انتباذ بطانة الرحم"/ Endometriosis؟"، ومن بين 330 سيدة، أجابت 74.5% منهن بلا مقابل 25.5% بنعم. أما السؤال الثالث فكان حول تشخيص المرض لديهن، ومن بين 130 سيدة كان هناك 93.8% ممن أجبن بالنفي مقابل 6.2% بالإيجاب.
"المرض اللي عندي"
بعد تشخيصها بالمرض، باتت معركة سنا على جبهات عدة: الاعتراف لنفسها بفكرة وجود المرض وإمكانية تطوره مع الوقت حد إيذائه أعضاء أخرى من الجسم وحرمانها من الإنجاب، التعامل مع آثاره النفسية وارتباكها أمام السيناريوهات المحيطة به، ثم شرحه للآخرين وأولهم الشريك والمحيط الضيق الذي تلعب ردة فعله دوراً حاسماً في التعامل مع ثقل المرض وهواجسه، وصولاً إلى الصراع مع الخيارات المتاحة عبر الطب الذي لا تزال ذكوريته التاريخية حاضرة بأشكال مختلفة.
أول ما فكرت به سنا كان أن اسم المرض بحاجة إلى تعديل كي يصبح أسهل على البلع والهضم والمشاركة. بدأت تسميه "آندو" اختصاراً ثم اعتادت أن تقول "المرض اللي عندي".
قد يبدو الوصف الطبي لهذا المرض معقداً، فهو داء لا يقل تشخيصه صعوبةً عن علاجه.
في إطار تبسيطي يمكن اختصاره بالآتي: "الآندوميتريوم" هو الرديف الإنكليزي لبطانة الرحم والأخيرة هي النسيج الذي يغطي الجدار الداخلي للرحم، ويتكون ثم ينفصل شهرياً في فترة الحيض. في حالات الإصابة بالمرض، لا يخرج الغشاء بأكمله في فترة الحيض، فتعوم خلايا من النسيج في أماكن مختلفة من الجسم خارج الرحم، قد يصل بعضها إلى الأمعاء أو الرئة أو الفرج أو الفخذ أو غيرها من المواضع ما عدا الطحال.
في المرات التي زارت فيها طبيباً نسائياً لتعرف سبب الآلام الحادة خلال الدورة الشهرية، كان الجواب بأن العوارض طبيعية. أحدهم ردّ على إصرارها بوجود مشكلة قائلاً: "كل هذا موجود في رأسك فقط"... قصة واحدة من كل 10 نساء مع المرض الشائع وتشخيصه الخاطئ
عرفت سنا بذلك بعدما التقت بسيدة أخرى في المرحلة الرابعة من المرض، أخبرتها أن هناك أنسجة وصلت إلى أمعائها وتسببت بفشل جزء منها وقد تضطر إلى إجراء عملية جراحية لاستئصالها. سيدة أخرى أخبرتها أنها تعاني من شق شرجي يتسبب لها بألم شديد، بسبب "بطانة الرحم".
هذه القصص وغيرها سمعتها حين كانت تبحث عن "مجموعة دعم" تساعدها في التعامل مع المرض نفسياً والاستفادة من تجارب نساء أخريات يعانين منه، فعلى ما قالته لها واحدة منهن: "عليك أن تسألي مَن لديها رحم وتعاني من المرض، فقد تكون أفضل من أفضل طبيب لن يفهم ما تمرين به".
سيناريوهات مربكة
حتى بعد التشخيص، ليس من السهل التحكم في ظروف المرض. وتتراوح عادة نصيحة الأطباء للمريضة بالإنجاب أو بإيقاف العادة الشهرية.
وإنْ كان من الصعب التحكم بالخيار الأول لعدم توفر ظروفه أو لصعوبة الحمل كون المرض يؤثر على ذلك عدا عن أن فترة التحسن تقتصر على مرحلة الحمل والإنجاب قبل عودة العوارض، يبدو الثاني أكثر سهولة.
لكن ما يبدو سهلاً بالنسبة إلى طبيب أو شخص يمتلك ترف التنظير حول الأمر، لم يكن كذلك بالنسبة إلى سنا. هي في منتصف الثلاثينيات اليوم وإنْ كانت غير متأكدة من نيتها الإنجاب إلا أن رغبة جامحة تملكتها بـ"صنع الأطفال" بعدما عرفت باحتمال تقلص فرصها لفعل ذلك في المستقبل.
كانت تدرك أنها بحال قررت اللجوء إلى خيار اللولب الهورموني الذي يوضع داخل الرحم ويخفف من الطمث ومن سماكة بطانة الرحم ومن تطور المرض، والذي ينبغي التخلص منه عندما تحين لحظة الحمل، سيؤثر كما المرض على تراجع حظوظها في عدم الإنجاب.
سيدة أخرى واجهت هذا الخيار عندما تم تشخيصها بالمرض، قالت لسنا: إما أن تقرري وقف تطوره من خلال الهورمونات وتؤجلي فكرة الحصول على أطفال ومعها تخففي من حدة الوجع والإرباك الشهري، وإما تتخذي قراراً بالإنجاب والابتعاد عن الهورمونات ومعه تزداد فرص تطور المرض وإيذاء أماكن أخرى في الجسم.
خوف سنا من الهورمونات ينبع من مكان آخر إلى جانب فكرة الإنجاب. سمعت أن الهورمونات نفسها ترفع احتمال الإصابة بالسرطان لدى النساء وبمرض هشاشة العظام، وكانت قد عرفت أن المرض نفسه يزيد من احتمال الإصابة بسرطان الرحم.
في الحالات المتقدمة، قد ينصح أطباء بإزالة الرحم من أساسه كعلاج محتمل للمرض. وفوق صعوبة هذا الخيار، هو لا يقدّم حلاً نهائياً.
"ألم وتحامل"
قد يبدو مما ورد أعلاه، نقلاً عن سنا وغيرها، أشبه بالقيل والقال، مع رد فعل يفترض أن النصيحة مصدرها الرئيسي هو الطبيب، لكن في حالة هذا المرض الشائع لا يزال سوء الفهم حوله شائعاً أيضاً، فهو مبهم ولا علاج له حتى الآن وقد يستغرق تشخيصه أكثر من عقد من الزمن.
أعراض هذا المرض سُجلت منذ فترات طويلة، ولكن جرى غض النظر عنها باعتبارها "هستيريا" نسائية. والهستيريا كما ذكرها كثر اهتموا بدراسات "بطريركية الطب" مشتقة من كلمة "رحم" باللاتينية.
في حديث مع حالات مختلفة لنساء جرى تشخيصهنّ بهذا المرض، كان ثمة إجماع على أن أعراضه تم تشخيصها بشكل خاطئ لمرات متعددة لم يسمعن خلالها بأي شيء متعلق بانتباذ بطانة الرحم، وشعرن خلالها باستخفاف بحدة الأعراض التي يعشنها.
قبل حوالي العام، كشفت دراسة حكومية في بريطانيا أن 40 في المئة من أصل 2600 امرأة توجهن للطبيب أكثر من عشر مرات قبل أن تتم إحالتهن إلى أخصائي، بينما فقدت بعضهن الوعي مرات عديدة من شدة الوجع قبل أن تؤخذ شكاويهن على محمل الجد.
قرون من استبعاد النساء عن المجالات الطبية كانت تعني بقاء أمراض النساء في دائرة العجز عن التشخيص، أو التشخيص الخاطئ أو الغموض… "انتباذ بطانة الرحم" من هذه الأمراض, يصيب واحدة من كل 10 نساء ولا يزال مجهولاً لدى أطباء كثر وحتى لدى نساء يعانين منه
تقول الباحثة في جامعة أكسفورد كيتي فينسنت إن السبب في تأخر تشخيص المرض يعود إلى أن مَن يشتكي من الألم هن النساء وليس الرجال، معلقة: "لو ذهب صبي في الرابعة عشرة إلى طبيب معالج وقال له إنه يغيب يومين كل شهر عن المدرسة لما تُرك الأمر هكذا ولما ظل يتغيب يومين في الشهر".
قرون من استبعاد النساء عن المجالات الطبية كانت تعني أن أمراض النساء بقيت في دائرة العجز عن التشخيص، أو التشخيص الخاطئ أو الغموض المربك.
في كتابها "ألم وتحامل" (Pain and Prejudice) المستوحى من عنوان فيلم "كبرياء وتحامل" (Pride and Prejudice)، انطلقت الكاتبة الأسترالية غابرييل جاكسون من قصتها مع تشخيص المرض لديها حين كانت في عمر الثالثة والعشرين، وروت كيف انطلقت من هناك للتساؤل كيف وبعد مرور قرن على وجود المرض في الأدلة الطبية (يعود الفضل في اكتشافه مجهرياً إلى العالم التشيكي البوهيمي كارن فون روكيتانسكي عام 1860)، لا زال العلم يجهل أسبابه أو حجم تأثيره، والأهم لا يزال بعيداً كل البعد عن اكتشاف علاج فعال للتعامل معه.
تقول جاكسون: "صحيح أن هناك أطباء يجتهدون لإحداث فارق في حياة نساء تم تشخيصهن بالمرض، لكن يبقى الكثير من الأطباء غير معنيين بوجود هذا المرض، أو يستندون في التعامل معه على نظريات قديمة أقرب إلى الخرافات".
كان على جاكسون السفر عبر القرون للبحث عن إجابات. منذ البداية، اعتبر الطب المرأة كائناً أدنى مرتبة من الرجل. كيف لا والقائمون عليه كانوا كلهم من الرجال؟
"مرض النظريات"
في البدء، كان الرحم - وهو نقطة اختلاف واضحة بين الرجل والمرأة - هو "أصل البلاء" و"سبب كل علة تصيب المرأة". فأبقراط صاحب نظرية "الرحم المتنقل" شبّه الأخير بالحيوان النهم المتجوّل في جسد المرأة ناهشاً من قوتها. واستمرت هذه النظرية في الطب الأكاديمي الأوروبي لقرون.
لاحقاً، حوّل الطب تركيزه على الجهاز العصبي، عازياً ضعف المرأة إلى ضعف أعصابها. وفي مطلع القرن العشرين، حين تمّ اكتشاف نظام الغدد الصماء باتت الهورمونات عنصراً يمكن لومه في حالة ضعف النساء.
تكتب جاكسون: "كثيراً ما تضمنت العلاجات المفترضة عقاباً، يقصد به تحويل المرأة ‘الصعبة’ إلى ‘جيدة’. تم قطع البظر، وإزالة الأرحام والمبيضين، وتم وصف التغذية القسرية و’الراحة’، وتم استخدام الضغط النفسي وكله باسم استعادة ‘الصحة’ و’الكرامة’".
تلك العلاجات وغيرها التي لا تقل قسوة طُبّقت انطلاقاً من جانب نظري ودون إثبات علمي، لأن النساء بقين خارج دائرة التجارب السريرية حتى التسعينيات، وفي حين أن النساء يشكلن حوالي 70 في المئة من مرضى الألم المزمن، إلا أن 80 في المئة من مسكنات الألم جُرّبت على الرجال حصراً.
حتى التجارب ما قبل السريرية ركزت على ذكور الحيوانات والخلايا الذكرية، وللمفارقة، تم تبرير ذلك في بعض المناسبات بأن الهورمونات والدورات الشهرية لدى النساء قد تؤثر على النتائج. وهنا السؤال: ماذا نفعل بالألم الناتج عن تلك الهورمونات والدورات الشهرية وما يحيط بها؟
لكن بدلاً من الاعتراف بقصور المعرفة الطبية بأجسام النساء، "يتوقع الطب من النساء أن يتحكمن بعقولهن بالأمراض التي تصيب أجسادهن، وذلك بتقبل تلك الأمراض وإجراء تغييرات على نمط حياتهن تتماشى مع الدور الاجتماعي لهن كزوجات وأمهات"، على ما تقول الباحثة كيت يونغ في ورقة نشرتها في مجلة "النسوية وعلم النفس".
في عودة إلى الحالات السابقة التي رُبطت فيها النساء بالهستيريا حين أصابتهن نوبات ألم شديدة أو سقطن أرضاً من شدة الإعياء، كتبت مجموعة من الباحثين أن ذلك قد يكون مرتبطاً بمرض "انتباذ بطانة الرحم"، واصفة ما جرى سابقاً بأنه "واحد من أكثر الأخطاء التشخيصية الجماعية في التاريخ".
حسب الباحثة جوليا شاندلر، وُصف هذا المرض أيضاً بـ"مرض النظريات"، ففي التعامل معه، تحتل الصورة التقليدية للمرأة ككائن ميلودرامي جزءاً أساسياً. كذلك، سُمي في مرحلة من المراحل بـ"مرض المرأة الوظيفي"، على افتراض أن انخراطها في سوق العمل أبعدها عن فكرة الإنجاب التي لا يزال أطباء ينصحون بها كحل أساسي لوقف تطور المرض.
في مرحلة متطورة، ربط علماء وأخصائيو علم نفس هذا المرض بالتلوث وبالنظام الغذائي وبالضغط الحياتي وطُلب من المرأة أن تكون مسؤولة عن التحكم في السيطرة على مرضها.
في أحيان كثيرة، سقطت النظريات حول بطانة الرحم ومشكلتها في حلقة من النمطية المؤذية، أوحت بمسؤولية المرأة عنها ربطاً بجسدها وأدوارها والتزاماتها، بدلاً من البحث عن حلول وأدوات للفهم بشكل غير منحاز جندرياً.
تقول سنا تعليقاً على هذا الشق: "ربما لو بذلوا جهداً لإيجاد حل يجعل صورة الثدي، الماموغرافي، أقل إيلاماً وأكثر منطقية من عصر الثدي بهذا الشكل لتصويره، أو جعلوا أي فحص متعلق بجهاز المرأة التناسلي لا يبدو وكأنه أداة تعذيب. حينها قد يتعاملون مع المرض الذي أعاني منه بشكل أكثر منطقية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.