لكل لون فنّي عرَّابه، والفنان محمود غينيا هو عرّاب فنِّ "كناوة" المغربي، وعَلَم تكناويت في المغرب وإفريقيا. سافر به إلى الخارج، وكان رسول موسيقى كناوة في محافل فنية وغيرها. هو فنان خجول و"معلَّم" رحل عن دنيا الناس تاركاً فناً وآثاراً وخلفاً وإرثاً لا يُعدّ.
وُلد "معلّم المعلمين" في مدينة الصويرة الشهيرة في موكادور، المطلّة على المحيط الأطلسي سنة 1951، وهو سليل أسرة من دولة مالي. عاش جدّه القهر والحرمان قبل دخوله المغرب ليحطّ الرحال في مدينة الصويرة. تعلّم محمود فن تاكناويت منذ الطفولة. حمل "الكمبري"، وهو آلة موسيقية وترية، مصنوعة من الخشب وجلد الإبل أو الماعز. يعود أصل أهله إلى الطوارق وهم مجموعة من القبائل الأمازيغية التي استوطنت الصحراء الكبرى وأزواد شمال مالي، وشمال النيجر وجنوب غرب ليبيا وشمال بوركينا فاسو.
في سنّ صغيرة، سُحر بموسيقى كناوة التي كانت تُعزف في الحضرة الصوفية داخل الأولياء الصالحين لمدينة الصويرة وفي حواريها، وتعلّم الأداء والغناء الكناوي واللعب بـ"القراقب" (صنوج)، لتنطلق مسيرته الروحية والفنية مع تاكناويت.
نال حمود لقب "المعلّم" في سن العشرين بعد اجتياز امتحان "تامعلميت" في ضريح سيدي بلال، الذي يقع غرب مدينة الصويرة المغربية حيث توجد الزاوية الأم ومقام الأب الروحي لكناوة، ويقام موسم الطائفة الكناوية سنوياً في العشرين من شهر شعبان.
عاش المعلم محمود غينيا حياة الدراويش. لم يكن فناناً كناوياً فحسب، بل كان زاهداً، أحب كناوة كما أحبها والده المعلّم بوبكر غينيا، ومعه إخوته الذين ساروا على درب والدهم بوبكر، وتعلموا الفن الكناوي منذ صباهم، وهم زايدة ومحمود والمختار وعبد الله.
رسول كناوة إلى العالم
رئيس "جمعية كناوة للتراث الثقافي" والفنان في مجموعة كناوة وادي تودغى تنغير، مبارك الحوزي، يرى في حديثه إلى رصيف22، أن المعلّم محمود غينيا كان فناناً متميزاً ورائداً من رواد تكناويت بكل ما تحمل الكلمة من معنى. "أسلوبه فريد ولمسته لآلة الكمبري تجعلك تسافر عبر الزمن إلى الأصول الإفريقية لهذه الأسرة التي استطاعت المحافظة على تراث كناوة عبر الزمن منذ وصولهم إلى مدينة الصويرة"، يقول.
ويؤكد أن المعلم محمود غينيا من الأوائل الذين قدّموا فن كناوة في المغرب، واستطاع إيصاله إلى العالمية، وقد عمل مع مجموعة من الفنانين العالميين كما سجّل مجموعةً من الألبومات الغنائية إلى جانب إخوانه الذين ورثوا هذا الفن وقدّموه في أرقى صوره وطنياً ودولياً.
وفق المتحدث، فإن المعلّم محمود غينيا، رمز الفن الكناوي في الصويرة. يقول الحوزي عن لقائه بمحمود: "كان لي شرف لقائه سنة 2014، على هامش اللقاء التشاوري لتقديم ملف كناوة لمنظمة اليونيسكو في الصويرة. تعرفت على مساره الفني ودوره في تأسيس مهرجان كناوة. كما كانت فرصة للتحدث حول أوجه التشابه والاختلاف بين فن كناوة في الصويرة وفن كناوة في الجنوب الشرقي. كان ذاكرةً وموسوعةً في مجال الفن الكناوي في المغرب".
المعلم محمود غينيا من الأوائل الذين قدّموا فن كناوة في المغرب، واستطاع إيصاله إلى العالمية، وقد عمل مع مجموعة من الفنانين العالميين كما سجّل مجموعةً من الألبومات الغنائية
المعلّم عبد السلام عليكان، وهو من المقربين إلى المعلم محمود غينيا، لازمه في أوقات عدة وجالسه في معظم نسخ مهرجان كناوة، يقول في شهادته لرصيف22، متحسراً على رحيل المعلم محمود: فقدت الساحة أهمّ أعلامها. كان محمود أسطورةً وابن معلم يتميز بـ"الحال"، ومنفرداً في فنه، كان سبباً في حبنا لتكناويت.
يورد المعلم عليكان، وهو المدير الفني لمهرجان كناوة في الصويرة الذي يحجّ إليه عشرات الآلاف سنوياً، أن غياب محمود ترك في المهرجان أثراً وشرخاً، كما يسترسل خاتماً: "رحمه الله قضينا معه أيام الخير والعزّ داخل الوطن وخارجه".
درويش كناوة
في حديثه إلى رصيف22، يقول الصحافي والمهتم بالتراث الكناوي عبد الحق صبري، إن محمود غينيا، ليس مجرد معلم كناوي، بل هو امتداد لثقافة ضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، من حوض نهر السنغال إلى عمق الصحراء الكبرى في مالي. تعلّم العزف على "الهجهوج" في سن مبكرة، كون عائلته من العائلات المتمسكة بجذورها الإفريقية وهي عائلة حافظت على هذا الموروث الموسيقي وساهمت في تطوره في المغرب. يصفه المقربون منه، بأنه معلم روحاني إلى درجة كبيرة، يمتاز بشخصية هادئة ومتحفظة، لا يكشف عن أسراره وعما يجول في خاطره إلّا عبر عزفه الاستثنائي وهو منتشٍ بطقوس "الجذبة" التي تنقله من زمن إلى آخر.
يضيف صبري، أن المعلم غينيا ساهم في الإشعاع العالمي الذي تحظى به هذه الموسيقى في وقتنا الحالي، ودوّن اسمه بالذهب على صفحات تاريخ مهرجانها في الصويرة، الذي كان في الموعد سنوياً منذ إطلاق أول دورة له وإلى غاية 2015، السنة التي ترجل فيها معلم غينيا عن صهوة الحياة، تاركاً وراءه إرثاً موسيقياً ينعم بالخلود.
"كان محمود شخصاً طيباً، مبدعاً في الفن الكناوي. كان كْنَاوِيّاً خالصاً، خلق أسلوبه الخاص الذي بفضله جال مختلف دول العالم. حافظ على أصالة الفن الكناوي كفنٍ إفريقي محض، ولم يضِف إليه أيّ مؤثرات قد تُتْلف أصله. محمود غينيا كان تلميذاً نجيباً لوالده بوبكر الذي لقّنه فن كناوة، وهو ما خوّله نوعاً من الامتداد الفني"، هكذا قال الفنان أنس الخصاصي في شهادته عن حق محمود غينيا.
في حديثه إلى رصيف22، يؤكد أنس الخصاصي، وهو فنان كناوي وأحد المقربين من محمود غينيا، ما يمنحه الشرعية ليعرّف مساره وأحواله حتى آخر مرحلة من حياته، أن "محمود غينيا هو البساطة والأخلاق العالية. كان يحرص في كل الجلسات على إكرام كل من حلَّ عنده، ويعدّ له الطعام والشاي وكل ما يريد".
بعد أن أنهى أغنيته سلّم الهجهوج لابنه "حسام"، وسلمه معه "تامعلميت". لم يقضِ بعدها سوى أيام قليلة ليغادر الحياة في ليلة ظلماء في الثاني من شهر تموز/ يوليو 2015
المعلم محمود غينيا هو سفير لفن تَاكْنَاوِيت ورائده الذي حلَّق به، وجال القارات الخمس حاملاً لواء كناوة معه. حاز على وسام ملكي وحظي باهتمام القصر الملكي حينها وهي نفسها المكانة التي يحظى بها في الوسط الفني. كان دائم الحضور في مهرجانات كناوة وغيرها ودائماً ما يُطرب عشاقه في سهرات كناوة لساعات طويلة من دون ملل.
وعن المرحلة الأخيرة من عمر محمود غينيا، يقول أنس بحزنٍ متذكراً آخر أيامه في المشفى: "لازمته إلى جانب عدد من أقاربه قبل وفاته بأشهر. أبى إلا أن يحضر مهرجان كناوة برغم أنه كان طريح الفراش في المستشفى ليرحل بعدها تاركاً أثراً وشرخاً كبيراً".
لم يكن فراق محمود غينيا سهلاً، بل كان غيابه مرّاً؛ بكى "الهجهوج" (آلة وترية) ليلة وفاته كما لبس فن كناوة ثوب الحداد. كان آخر لقاء للمعلم محمود في حفل اختتام الدورة 18 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم في شهر أيار/ مايو 2015. يتذكر الكثيرون آخر وقوف له أمام محبّيه ومريديه؛ بصوته المنهك وجسده الذي أكله التعب غنّى آخر أغنية له. حينها كان يعلمهم بأنه سيغيب عنهم. بعد أن أنهى أغنيته سلّم الهجهوج لابنه "حسام"، وسلمه معه "تامعلميت". لم يقضِ بعدها سوى أيام قليلة ليغادر الحياة في ليلة ظلماء في الثاني من شهر تموز/ يوليو 2015.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين