في طريقي للجامعة كانت تستغرق السيارة ساعة حتى الوصول، يجاورني رجل أربعيني في يده مصحف وكتيب أدعية وعلى جبهته "الزبيبة " أو علامة الصلاة التي من الواضح أنها استحوذت على اهتمامه لفترة حتى تظهر بهذا الشكل .
تنطلق السيارة، فيبدأ بصوت مرتفع يصل حتى السائق في الأمام بالدعاء الشهير: "اللهم عليك باليهود والنصارى والكفرة، اللهم شرّدهم ودمّرهم وأذلهم وانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم. اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا".
ألتفت بشكل مفاجئ له، اجتاحني الرعب، ربما يكون مجنوناً أو إرهابياً، وسيستغرق الأمر مجرّد دقائق حتى ينحر عنقي انتقاماً. ألتقط أنفاسي وأتذكر الوصايا العشر لأبي: "متعمليش مشاكل ولا تردي ع حد، هتتفهمي غلط وممكن يقتلوكي فيها". صمتُ وأقمتُ حاجزاً بحقيبتي بيني وبينه، ثم وضعت سماعة أذني على أمل ألا يصلني صوته.
لم تمر سوى دقائق قليلة حتى انتهى من دعائه وأغلق الكتيب ليبدأ في خطبة لن تنتهي إلا بوصولي لمقر الجامعة. كان الإعلام وقتها يتحدث عن المدرس الفرنسي المغدور به، وتحدث الراكب نفسه عن الحادث على طريقته: "يا جماعة أستحلفكم بالله نعود للصلاة والصوم والجهر بالعبادات، تركنا للأمور دي هو إللي خلى الكفرة والأنجاس يتجرأوا ويتطاولوا علينا وعلى أشرف الخلق سيدنا محمد، لازم نقف لهم ونرد كيدهم".
تنطلق السيارة، فيبدأ بصوت مرتفع يصل حتى السائق في الأمام بالدعاء الشهير: "اللهم عليك باليهود والنصارى والكفرة. ألتفت بشكل مفاجئ له، اجتاحني الرعب، ربما يكون مجنوناً أو إرهابياً
لا أحد من الركاب يتفاعل، لا أحد يردّ، لا أحد يهاجم. شعور بالغضب اجتاحني. لا أصدق أني الآن في وسيلة مواصلات عامة، مجبرة على السماع لهذا الذي كان يدعو عليّ من دقائق. لم أتمكن من ضبط نفسي وصرخت في وجهه: "يا أستاذ، صوتك صدّعني. أنت ف مواصلات عامة مش ف عربيتك الخاصة".
لم يستطع إدراك أن هناك فتاة غير محجّبة تصرخ في وجهه أن يكف عما يقوله، شعور بالاستحقاقية تملكه ورقصت أمام عيني كل عقد الاضطهاد والطائفية متحفّزة لردّه الذي جاء: "إحنا بنقول كلام ربنا يا أبلة".
- "أنت متطرّف. ده مش كلام ربنا".
تدخّل السائق: "خلاص يا أستاذ، معلش يا أنسة، جمعوا الأجرة يا جماعة وصلّوا ع النبي". لم أصلّ على النبي، ولم أهدأ، وبكيت حين وصلت.
كانت أختي بجانبي في السيارة نستعد للخروج لشراء مستلزمات العيد، الراديو يصدح بصوت عال على آية من سورة المائدة: "لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
تنظر لي أختي وأنظر لها كمن يتعرّف على نفسه وسط جمع يتهامسون عليه. تضحك معلقة بخفوت: "خلاص عرفنا اننا كفرة، هيقتلونا ولا إيه؟".
أبادلها ابتسامة مريرة وأنشغل بهاتفي.
هؤلاء البشر لن يفهموا أبداً أنني من دراويش الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. لن يدركوا انزعاجي يوم إجازتي الوحيدة من أحلام غير مكتملة. لن يتفهّم أحد ما يدور بداخل فتاة قبطية تحارب أشباح الغضب من مواقف يومية متكرّرة...
أستيقظ يوم الجمعة على صوت إمام المسجد المجاور لمنزلي، صوته العالي يخترق أحلامي ويجبرني على القيام من سريري بحركات عنيفة تتناسب وقدر الانزعاج الذي أشعر به يوم إجازتي الوحيد. أقف في منتصف غرفتي، لا أجد ما أفعله سوى أن أنتظر حتى تنتهي خطبته بعد الواحدة ظهراً لأعود لنومي مرة أخرى، لا يعرف النوم طريقاً لجفوني ثانية، وأبقى طوال اليوم أعالج صداع رأسي.
المشاهد تتشابك مع بعضها بخلفية لحن تراجيدي تعلوه أصوات المارة وأبواق السيارات وسباب السائقين بعضهم لبعض. إجباري على سماع الدعاء عليّ من أي متطرّف أصادفه، هو نفسه ما أشعر به أثناء سماعي لسورة المائدة في وسائل المواصلات العامة، وكلاهما يتقاطعان مع عقدة طفولتي في المدرسة، حين كنت مضطرّة لحفظ الآيات القرآنية في مادة اللغة العربية، وكان سؤالها إجبارياً في الامتحان.
شعور الاضطرار إلى الصمت هو واحد من أسوأ المشاعر التي يمرّ بها المرء، تحديداً في المواقف التي تُفرض عليه بسبب هويته. يختار الفرد أن ينجو من سياق لن يستطع فيه أبداً شرح وجهة نظره وحاجته للإحساس بالمساواة وقليل من الاحترام.
أستطيع أن أطلب من سائق الحافلة العامة أن يخفض صوت المذياع إن كانت الأغاني عالية ومزعجة، لكن الأمر يصبح أسخن إن كان قرآناً أو خطبة أو دعاء، لأنه حتما سيفهم أني واحدة ممن يسمونهم "أعداء الدين". سيستخدم الردّ المعتاد: "لو مش عاجبك أنزلي". هذا السائق وهؤلاء البشر لن يفهموا أبداً أنني من دراويش الشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ حسن صالح في التلاوة، ولن يعرفوا أني أرهف السمع صباحاً لسورة مريم، ويدق قلبي لآيات بعينها. لن يفهموا أبداً أني أشعر بالانزعاج للصوت المرتفع بشكل مرعب أو لبعض الخطب والأدعية التي تصيبني في مقتل. لن يدركوا انزعاجي يوم إجازتي الوحيدة من أحلام غير مكتملة. لن يتفهّم أحد ما يدور بداخل فتاة قبطية تحارب أشباح الغضب من مواقف يومية متكرّرة... لذا أفضّل الصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين