"تذكّروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبوّاباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي فباسمة، محلّقة بحرّية، بحب متناهٍ، وتضحية فريدة، وبذل مستميت".
في عتمة جُدران المعتقل، كُتبت هذه العبارات تحت سياط الجلادين، هناك حيث انتصبت روح "الشهيدة" سعيدة المنبهي، مُعلنةً ميلادها قضيةً وسط الجماهير الشعبية المغربية.
وصفها الشاعر عبد الله زريقة بـ"امرأة أحبّت الضوء"، ضوء الحرية والغد الأفضل لعموم المسحوقين في زنزانة لا ضوء فيها إلا الظلمة.
بعد عقود من الزمن، لا يزال اسم سعيدة المنبهي، في علياء قائمة المناضلين اليساريين الذين قضوا نحبهم داخل المعتقلات المغربية، ويزيّن الجدران والشِّعارات النضالية. كيف لا وهي أول مناضلة قضت نحبها في إضراب عن الطعام دفاعاً عن الحرية والكرامة، شاهدةً بذلك على مرحلة كفاح ونضال ضد كل أوجه الاستبداد والشّمولية، ونابعةً من الموت رمزاً للحياة؟
فجر الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1977، ارتقت روح سعيدة المنبهي، لافظةً بذلك أنفاسها الأخيرة، غير مهادنة، لتكتب بدمائها: "سأموت مناضلةً". 25 سنةً من حياتها لا يُمكن وصفها إلا بالملحمة.
ملامح الثورية
صرخت سعيدة، أولى صرخاتها في الحي الشعبي "رياض الزيتون" في مدينة مراكش سنة 1952. عاشت طفولةً عاديةً، لكن منذ طفولتها ظهرت عليها ملامح التعاطف مع المقهورين. تقول عنها والدتها في إحدى شهاداتها: "لم أجد صعوبةً في تربيتها. كانت متواضعةً، ومجتهدةً، تطالع باستمرار، وتحبّ الأطفال، وكانت دائماً وهي في طريقها إلى البيت، تصحب معها الأطفال الرعاة قصد إطعامهم، وبدورهم كانوا يعترضون طريقها ليقدّموا لها الزهور". تلك التضحيات خلدت في حياة سعيدة حتى آخر رمق.
درست في المدينة "الحمراء"، إلى أن حصلت على شهادة البكالوريا في ثانوية أبي العباس السبتي سنة 1971، التي شهدت أولى محطاتها النضالية في إطار "النقابة الوطنية للتلاميذ"، وفي ظل وضع سياسي ظهرت فيه بوادر حركة يسارية ماركسية لينينية، وجدت لها موطئ قدم في أوساط الطلاب والتلاميذ، لتغادر بعدها مراكش نحو الرباط بغية إكمال دراستها الجامعية في كلية الآداب في جامعة محمد الخامس في شعبة الدراسات الإنكليزية.
هناك حيث الجامعة صورة مصغّرة للواقع الخارجي، انخرطت منذ ولوجها إلى الجامعة داخل "الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين". آنذاك ناضلت أيضاً في صفوف "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب"، في فترة الحظر العملي للمنظمة من طرف السلطات، وانتُخبت مؤتمِرةً في المؤتمر الخامس عشر لـ"أوطم" (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب).
تذكّروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبوّاباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي فباسمة، محلّقة بحرّية
لم تكُن سعيدة إلا غُصناً وُلد من شجرة سامقة نضالياً؛ فهي شقيقة عبد العزيز المنبهي، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بعد المؤتمر الـ15، والذي أكد لأول مرة أن القضية الفلسطينية قضية وطنية. كما أنه خبر دروب الاعتقال والسجن والاختطاف سنة 1973. وهي أيضاً قريبة عزيز الوديّي، زوج خديجة المنبهي شقيقة سعيدة، الذي اعتُقل أيضاً في أيلول/ سبتمبر 1972، وحُكم بعشر سنوات سجناً نافذاً.
نحو الاعتقال
من الجامعة إلى المركز الجهوي للتربية والتكوين في الرباط، سطّرت سعيدة بداياتها المهنية أستاذةً للّغة الفرنسية في إعدادية الخوارزمي في الرباط.
لم يغيّر الوضع الطبقي والاقتصادي شيئاً منها، إنما زادها إيماناً بقضية الجماهير المسحوقة.
ككل المغاربة آمنت سعيدة، بأن طرد بقايا الاستعمار، كفيل بإنارة درب المغرب الجديد، مغرب المغاربة والديمقراطية، لكنها، فتحت عينيها على واقع الظلم والاستبداد والتنكيل. وفي ظل وسطٍ سِمَته الثورية والنضال الشعبي، برزت النزعة النضالية لديها، وتوسعت مطامحها ومطالبها. لم يثنِها الطرد الذي تعرضت له من وظيفة التعليم نتيجة المطاردات والتوقيفات البوليسية من مواصلة درب الكفاح.
حاولت سعيدة المنبهي بالكلمة أن تؤرخ عبر أشعارها ومقالاتها ورسائلها تاريخاً ممزوجاً بالدم، ذاكرتها داخل السجن، وآلام السجناء من حولها، لحقبة من التاريخ تُلجَم فيها الكلمة، لتكون آخر كلماتها على جدار الزنزانة: "سأموت مناضلةً"
سرعان ما التحقت بالنضال النقابي من خلال نقابة "الاتحاد المغربي للشغل"، ثم إلى النضال الثوري عبر منظمة "إلى الأمام" الماركسية اللينينة، المنظمة التي تعدّ الفلاحين والعُمّال مجال نضالها، وترى أن هناك واقعاً فلاحياً لا حظّ فيه للفلاحين من الإنتاج، وواقعاً صناعياً هشاً، لا حقوق فيه للطبقة العاملة.
حملت منظمة إلى الأمـام مواقف جذريةً، من الأيديولوجيا إلى العمل، وبذلك عُدّت في عيون النظام المغربي من أخطر المنظمات السيّاسية المهددّة له، وضمن هذا السياق كانت نشاطاتها تتسم بالسرّية التامة. برغم القمع والتضييقات التي كانت تتعرض لها المنظمة، واصلت سعيدة مراميها، عبر نشاطاتها أو مقالاتها، وبذلك أضحت من أنشط الأعضاء حركيةً داخل المنظمة.
في السادس عشر من حزيران/ يونيو 1976، تعرضت سعيدة المنبهي، للاختطاف إلى جانب ثلاث مناضلات من المنظمة. وأسوةً بكل المناضلين تم اقتيادها إلى "كوميسارية درب مولاي الشريف" (مخفر التعذيب السيئ السمعة)، وهُناك مكثت ثلاثة أشهر تعرضت فيها لكل أصناف التعذيب النفسي والجسدي، قبل أن يتم نقلها ورفيقاتها إلى السجن المدني في الدار البيضاء.
حُكم على سعيدة بخمس سنوات سجناً نافذاً بتهمة "المس بأمن الدولة"، بالإضافة إلى سنتَين بتهمة الإساءة إلى القضاء. في أثناء المحاكمة لم تتوانَ في الدفاع عن قضاياها، فصدحت عالياً عن حق تقرير المصير، والوضع المزري للمرأة المغربية.
"تذكّروني بفرح، سأموت مناضلةً"
بعد سلسلة من الإضرابات عن الطعام، دخلت سعيدة إلى جانب مجموعة من رفيقاتها في إضراب مفتوح عن الطعام في 8 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، من أجل الاعتراف بهنّ كمعتقلات سياسيّات، وتحسين ظروف الاعتقال.
في اليوم الـ34 من الإضراب، أُنهك جسد الشهيدة، فنُقلت إلى مستشفى ابن رشد في الدار البيضاء، وهُناك وبسبب الإهمال لفظت آخر أنفاسها في 11 من كانون الأول/ ديسمبر 1977، وهي في عمر الزهور (25 سنةً)، وسطّرت السطر الأخير من تاريخ نضالي بروحها.
لـم تنسَ سعيدة داخل الزنزانة هموم السجينات من حولها، إيماناً منها بأن حتمية التغيير لا ترتبط بالأماكن ولا بالظرفيّات
بحسب رواية شقيقتها خديجة المنبهي، تم "اغتيال" سعيدة نتيجةً للإهمال الذي تعرضت له داخل المستشفى، حيث ظلّت في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام من دون أي عناية، محاطةً -وفق المتحدثة- بجحافل من العسكر والبوليس. بل تضيف أنه كان بالإمكان إنقاذ حياتها، غير أن الجميع أصرّوا على إهمالها لتواجه مصيرها. في غرفتها هناك، لم يكن يزورها سوى طبيب واحد، طبيب لم يُكمل تكوينه بعد. هناك تركت معزولةً تكافح ضد الموت وحدها لئلا تستكمل دروب النضال.
شاعرة آخر قصائدها كُتبت بالدم
"إن الحياة كلمة وموقف"، كتبت سعيدة.
لقد كانت الكلمة عنواناً آخر لثورية سعيدة. اتخذت من الشعر منبراً للتعبير عن مواقفها وقضايا شعبها. يقول عبد اللطيف اللعبي، الذي ترجم قصائدها من الفرنسية إلى العربية: "بدأت سعيدة تكتب الشعر بأظافرها على حائط الزنزانة. كان ذلك سنة 1976، في السجن المدني في البيضاء. كانت تكتب ولا تنقّح لأنها لم تكن تفكر في أضواء الشهرة، ولا في المخبرين وحواسّ اللغة. كانت تؤرخ المحنة العادية وتفتح قلبها على مصراعيه للطيور المطاردة، للأطفال الموشومين بالفاجعة، للنساء الثكالى اللواتي جرّدهنّ الاستغلال والقهر من أثداء العطاء".
وكتبت سعيدة هناك:
"سبق أن شرحت لك يا صغيرتي
ليس كما شرحت لك المعلمة
أنهم لا يضعون في السجن اللصوص فقط
إنهم يسجنون أيضاً الذين يرفضون
الرشوة، السرقة، والعهارة
أولئك الذين يصرخون كيف تصبح الأرض لمن يحرثونها
أولئك الذين يصهرون الفولاذ ليصنعوا منه سكةً
والمحراث الذي يشق الأرض حيث يزرع الحب لإطعام كل الأطفال
لقد التقيت هنا أيضاً
بإنسانة طاعنة في السنّ
أنهكها البؤس
هذه المرأة الأمية
ذات اليدين الشاحبتين الموشومتين
كانت تغزل الصوف، وتبصق حقدها الدفين
في وجه من أرغموها
على هجر بكارتها
التي اشترتها بدمها"...
لـم تنسَ سعيدة داخل الزنزانة هموم السجينات من حولها، إيماناً منها بأن حتمية التغيير لا ترتبط بالأماكن ولا بالظرفيّات. دخلت في علاقة مع مجموعة من السجينات، فكتبت عن أكثر جوانب اضطهاد المرأة، ونشرت مقالات عديدةً أشهرها: "حول العاهرات في المغرب"، محاولةً فيه الربط بين امتهان الدعارة والبنية الاجتماعية الذكورية، ومن جانب آخر بين الامتهان وظروف العيش القاهرة التي يفرضها نظام رأسمالي جشع.
هكذا، حاولت سعيدة بالكلمة أن تؤرخ عبر أشعارها ومقالاتها ورسائلها تاريخاً ممزوجاً بالدم، ذاكرتها داخل السجن، وآلام السجناء من حولها، لحقبة من التاريخ تُلجَم فيها الكلمة، لتكون آخر كلماتها على جدار الزنزانة: "سأموت مناضلةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...