مع تغيّر الظروف الإقليمية والانفتاح العربي على نظام الأسد، ومحاولة كسر عزلته التي رافقته منذ انتفاضة عام 2011، بات السوريون، خاصةً الذين في دول الجوار منهم، يتخوفون من مصيرهم المجهول، بعد كثرة الحديث عن إعادتهم إلى حضن النظام التي يراها ملايين منهم مستحيلةً، ما دام نظام الأسد قائماً، مع انهيار الدولة واقتصادها وفقدان المدنيين لأرزاقهم وممتلكاتهم، ما يعني أن نقطة الصفر أو السجون والتعذيب هي ما ينتظرهم.
نستعرض في هذه المادة منطقتين في سوريا، الأولى منطقة القصير الحدودية في ريف حمص التي تعرضت لدمار واسع في العام 2013، ودخول عناصر حزب الله اللبناني إليها وتحويلها إلى مستوطنة لعناصره، وهو ما ساهم في إفراغها من سكانها الأصليين وفرار عدد كبير منهم إلى مخيمات لبنان الحدودية، كما سنستعرض منطقة عفرين في ريف حلب على الحدود التركية، والتي باتت اليوم ملجأً لعشرات آلاف الأسر المهجّرة من مناطق مختلفة في سوريا، جراء حملات التهجير الممنهج التي مارسها النظام خلال السنوات الماضية.
لا ممتلكات يعود إليها مهجّرو القصير
تقع مدينة القصير جنوب غرب مدينة حمص، على حدود السفوح الشرقية لجبال لبنان الغربية، حيث تعيش غالبية شيعية من آل زعيتر وآل جعفر وناصر الدين وغيرهم من الشيعة الموالين بغالبيتهم لحزب الله، وتبعد 35 كم غرباً عن مدينة حمص، و15 كم عن الحدود اللبنانية، وتكمن أهميتها الإستراتيجية في كونها تربط العاصمة دمشق، بالساحل السوري في طرطوس واللاذقية عبر حوض العاصي.
بلغ عدد سكان مدينة القصير، وفق إحصائية وحيدة للحكومة السورية قبل الحرب، 29،818 نسمةً، وقرابة 107،500 نسمة في ضواحيها، وتتميز بمساحتها الكبيرة واحتوائها على مختلف أنواع النشاطات الصناعية والتجارية والزراعية كون نهر العاصي يشطرها، وتتبع لها أكثر من 80 قريةً وبلدةً موزعةً بين أكثرية سنّية وأقلية مسيحية وعلوية وشيعية.
وسيطرت قوات النظام برفقة ميليشيات حزب الله عليها في حزيران/ يونيو عام 2013، بعد معركة مع قوات المعارضة المتمركزة فيها منذ صيف 2012، إذ اتّبعت فيها سياسة الأرض المحروقة، ما أدى إلى تدمير كبير في أبنية المدينة والقرى التابعة لها، لتكون القصير أولى المناطق التي تشهد تدخلاً خارجياً من قوات أجنبية، عدا عن كونها "أول انكسار" تعرضت له الفصائل العسكرية المعارضة لنظام الأسد عندما كانت تُسمّى سابقاً "فصائل الجيش السوري الحر".
شهدت المدينة بعد المعركة التي استمرت 28 يوماً، أول عملية تهجير قسري للمقاتلين المعارضين فيها والآلاف من أهاليها إلى الشمال السوري، فضلاً عن لجوء نحو 35 ألف نسمة منهم إلى لبنان، توزعوا على بلدة عرسال اللبنانية القريبة وبعض قرى البقاع المحاذية للحدود، وأقاموا في مخيمات غير شرعية هناك، وقُدّر عددهم عام 2021، بـ15 ألف لاجئ، يعيشون أوضاعاً إنسانيةً هي الأصعب.
يسمح "حزب الله"، بعودة الموالين للنظام فقط، ويمنع سكان المنطقة الأصليين المعارضين من العودة إلى منازلهم، مع توزيع الأراضي الزراعية على عائلات مقاتليه، فإلى أين يعود أهلها؟ ومن يستطيع إعادتهم؟
ومنذ ذلك الوقت أصبحت المدينة التي يشرف عليها حزب الله، أكبر شرايين اقتصاد الظل الذي يموّل قواته، وقاعدةً أساسيةً له، ولعملياته العسكرية التي ينطلق منها إلى بقية المناطق السورية، لا سيما الواقعة منها على الشريط الحدودي مع لبنان.
في موازاة ذلك، فإن ميليشيا "حزب الله" اللبناني، تسمح بعودة الموالين للنظام فقط، ومعظمهم من الأقليات العلوية والشيعية والمسيحية، وتمنع سكان المنطقة الأصليين المعارضين من العودة إلى منازلهم، مع تحويل المساجد إلى حسينيات، وتوزيع الأراضي الزراعية على عائلات مقاتليها للاستفادة من محاصيلها، وتخصيص مزارع وهكتارات واسعة أخرى لزراعة الخشخاش والحشيش والقنّب الهندي، مستفيدةً من مياه العاصي، كما يروي أهالي المدينة المهجرون منها.
في شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2019، وجّه الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، دعوة إلى سكان القصير للعودة إلى منازلهم، قائلاً: "ليست لدينا أي مشكلة في عودة النازحين من أهالي القصير إلى بلداتهم وقراهم"، إلا أن الواقع يشي بأن حزب الله يمنع عودة العائلات، خاصةً المهجرة في الشمال السوري معقل المعارضة أو في لبنان، إذ أُكّد فقط السماح بعودة 1،200 عائلة شتاء 2019، معظمهم من الموظفين الحكوميين أو من العائلات التي يخدم أحد أبنائها في صفوف قوات النظام، في حين وصل عدد قاطنيها إلى ما بين ألفين و5 آلاف نسمة، مع الأخذ في عين الاعتبار تقديم آلاف العائلات المهجرة إلى مدن سورية خاضعة للنظام وإلى لبنان، طلبات عودة إلى القصير لم تتم الموافقة عليها، لا سيما بعد اتفاق كفريا والفوعة، المدينتين الشيعيتين اللتين تم الاتفاق على إخلائهما من ريف إدلب منذ 2018، واستقرار جزء من أهاليهما في القصير.
ويربط كثير من المهجرين السوريين عودتهم الآمنة إلى سوريا باستعادتهم لممتلكاتهم وتقديم ضمانات دولية لعدم التعرض لهم من أي جهة كانت، وحمايتهم من أي عمليات انتقامية وهو ما لم يتعهد به أي طرف، والشيء الواضح أن الكثير من الغموض يحيط بالحق في السكن والأرض والملكية فيها، نظراً إلى قلة عدد النازحين الذين سُمح لهم بالعودة من جهة، وأيضاً بسبب حدوث عمليات هدم واسعة النطاق وتغيير معالم الكثير من المناطق في معرض تحويلها إلى مواقع عسكرية ومعسكرات تدريب للحزب.
وكانت السلطات اللبنانية قد أطلقت حملة اعتقالات واسعة، إذ اعتقلت أكثر من 1،100 شخص، رحّلت منهم نحو 600 قسراً، اعتقل نظام الأسد منهم أربعة أشخاص على الأقل كما وثّقت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها.
"عفرين" صفوة المعارضة التي يرفضها النظام
شن الجيش التركي وفصائل معارضة تواليه، عملية "غصن الزيتون" التي استهدفت مدينة عفرين وضواحيها في كانون الثاني/ يناير 2018، وانتهت بطرد "قوات قسد"، وانحسارها إلى مناطق شرق الفرات في العام نفسه، ولطالما كانت منطقة عفرين في ريف حلب شمال غرب سوريا، منطقةً إستراتيجيةً، فهي إلى جانب كونها رمزاً للقوات الكردية وفيها أكبر تجمع بشري كردي، تُعدّ حلقة وصل بين مناطق غرب الفرات والبحر المتوسط.
وتتبع منطقة عفرين سبع نواحٍ إدارية: المدينة عفرين، الشيخ حديد، بلبل، جنديرس، راجو، معبطلي، وشران، بالإضافة إلى مئات القرى المتناثرة في جغرافيا تقدَّر بـ3850 كيلومتراً مربعاً، أي ما يعادل 2% من مساحة سوريا تقريباً، ويعتمد قاطنوها على الزراعة بشكل كبير وتشكل مصدر دخلهم الأول لما تحويه من أعداد كبيرة من الأشجار، خاصةً أشجار الزيتون.
على سبيل المثال، وصل عدد سكان مدينة عفرين وريفها، إلى 546 ألفاً و678 شخصاً، بينهم 76 في المئة من المهجرين، من مختلف المناطق السورية، وخصوصاً من ريفي دمشق وحمص، فهل من يبحث في هذه الأرقام؟
في حين أن الإحصائية الحديثة، تشير إلى وصول أعداد سكان مدينة عفرين وريفها، إلى 546 ألفاً و678 شخصاً، بينهم 76 في المئة من المهجرين، من مختلف المناطق السورية، وخصوصاً من ريفي دمشق وحمص، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار نزوح قسم كبير من الموالين لقوات قسد في اتجاه محافظة الرقة، إبان سيطرة الجيش الوطني المعارض على المنطقة.
وما تزال المنطقة تعتمد على الزراعة -السبيل الأفضل نسبياً للعيش- بشكل واسع إذ تُقدّر المساحة المزروعة بـ92.981 هكتاراً تمثل أشجار الزيتون نسبة 90% منها، بعدد يقارب 14 مليون شجرة، مع تسجيل تراجع لافت في عدد أشجارها، التي تستفيد من بيعها الفصائل المعارضة.
ويعاني المهجرون عموماً في شمال غرب سوريا، بما فيه عفرين، أوضاعاً معيشيةً متدهورةً منذ تهجيرهم عن مدنهم، وسط تجاهل أممي ودولي لمطالبهم بإيقاف سياسة التهجير التي ينتهجها النظام منذ سنوات، وإعادتهم إلى مدنهم وأراضيهم وممتلكاتهم.
وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر إلى 88.02%، وارتفاع نسبة العائلات التي وصلت إلى حد الجوع 38.30%، بسبب العجز الأساسي في عمليات الاستجابة الإنسانية التي تغطيها المنظمات الإنسانية، والذي وصل إلى 62.16%، وعمّقت كارثة زلزال شباط/ فبراير الفائت الأوضاع المأساوية، إذ عُدّت مناطق شمال غرب سوريا، خاصة جنديرس (إحدى ضواحي عفرين)، المتضرر الأكبر بين المناطق السورية المتأثرة، قياساً بمستوى الخسائر البشرية ودمار المباني.
وأسفر الزلزال عن وفاة 2،172 شخصاً، وتهدّم 551 مبنى بالكامل، وأكثر من 1،578 مبنى، بشكل جزئي، تاركاً مئات الأسر في العراء والمخيمات، فيما تبقى كارثة الزلزال بالنسبة لكثير منهم أهون من الكارثة التي يراقبونها، وهي التغييرات الجديدة في الساحة الإقليمية، ومنها التحول العربي نحو نظام الأسد والتقارب التركي الذي يعيد نظام الأسد إلى الواجهة الدولية، وسط الحديث عن مسألة العودة الآمنة للّاجئين، والتي يراها المعارضون عودةً إلى أفرعه الأمنية، وأن النظام يحاول خلق صورة مضللة عن عودة الحياة إلى طبيعتها في مناطق نفوذه، في محاولة لترويج فكرة العودة، وتالياً الضغط على المجتمع الدولي لتمويل عملية إعادة الإعمار، واستعادة الخدمات الأساسية في مناطقه.
الاعتقالات والمخاطر المتعددة
يشير تقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في منتصف آذار/ مارس الفائت، إلى اعتقال ما لا يقل عن 2،504 أشخاص، بينهم 257 طفلاً و199 سيدةً (أنثى بالغة)، من اللاجئين الذين عادوا من دول اللجوء أو الإقامة إلى مناطق إقامتهم في سوريا، بين عامي 2014 حتى آذار/ مارس 2023، بالإضافة إلى اعتقال ما لا يقل عن 984 مهجّراً داخلياً عادوا إلى مناطق سيطرة النظام، بينهم 22 طفلاً و18 سيدةً.
وبحسب مؤشر السلام العالمي GPI، فإن سوريا لا تزال تُعدُّ ثاني أقل البلدان سلماً حول العالم، ولا تزال تُصنَّف بلداً غير آمن لعودة اللاجئين، وفق تصنيف المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
في المقابل، فإن نظام الأسد يتوجس كثيراً من أي عائد من مناطق شمال غرب سوريا التي تُعدّ معقل المعارضة السورية، والتي كلّفت النظام وميليشياته الكثير من الخسائر، بعد أن كانت منتشرةً على امتداد الجغرافيا السورية قبل انحسارها في تلك البقعة، إذ يُعدّ كل عائد منها إلى مناطق النظام إرهابياً وعبءاً اقتصادياً يضاف إلى ما تعانيه تلك المناطق من تدهور اقتصادي، ويشير التقرير الأخير لبرنامج الأمم المتحدة HNAP، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إلى أن نسبة العائدين إلى سوريا تشكّل أقل من 1% من نسبة السكان الحاليين في سوريا، ويعود ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها:
- غالبية المهجّرين العظمى هم من المعارضين لنظام الأسد، وتالياً إن عادوا سيشكّلون خطراً جديداً عليه، ومع بقاء الأسد وبقاء الوضع على ما هو عليه، ستؤدي عودتهم إلى انفجار الأوضاع مجدَّداً.
عودة عدد كبير من اللاجئين يتطلب توفير مزيد من الخدمات والمواد الغذائية والطبية من قبل مؤسسات الدولة في سوريا، فهل يقدر عليه النظام أم سيستخدم هذا الواقع، لطلب المال؟
- عودة عدد كبير من اللاجئين يتطلب توفير مزيد من الخدمات والمواد الغذائية والطبية من قبل مؤسسات الدولة في سوريا، وهذا شيء ليس في مقدور النظام السوري القيام به.
- النظام السوري سيُبقي على أجهزته الأمنية وسطوتها على المدنيين هناك، وتالياً لن يقدِّم أي تنازل أو تعهد بعدم التعرض للعائدين حتى لو قاموا بالمصالحات والتسويات الأمنية على طريقته.
- إصدار النظام القانون رقم 10 الخاص بالتملُّك، والذي يقضي بجواز إحداث مناطق تنظيمية جديدة ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، ما يعني تجريد عدد كبير من اللاجئين والمهجّرين من أملاكهم، إن لم يثبتوا ملكيتها خلال فترة زمنية قصيرة حددها القانون.
ويبدو أن المهجرين داخل سوريا وخارجها، لن تكون عودتهم أمراً هيّناً ما لم يحصلوا على ضمانات دولية تحافظ على حيواتهم وتعيد لهم حقوقهم، وهو ما عجزت عنه الأمم المتحدة، خلال عقد من إشرافها على العديد من القضايا التي تتطلب ضغطاً على النظام في سياق الحرب السورية، لتبقى قصص القتل والتعذيب والاغتصاب التي اعتُمدت منهجيةً لعناصر النظام عالقةً في أذهانهم، ومرتبطةً ببقاء النظام.
ورد في إحدى الشهادات التي سردها تقرير منظمة العفو الدولية، في أيلول/ سبتمبر 2021، والمعنون بـ"أنت ذاهب إلى الموت"، أن ضابط المخابرات الذي اغتصب إحدى العائدات من لبنان، قال لها: "هذا للترحيب بك في بلدك، إذا خرجت من سوريا مرةً أخرى وعدتِ، فسوف نرحب بك بشكل أكبر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.