شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل للغريب الذي لا يمتلك أرضاً أن يمتلك قبراً؟

هل للغريب الذي لا يمتلك أرضاً أن يمتلك قبراً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الخميس 18 مايو 202302:19 م

لا يفكر المرء بحياته وحسب، بل يفكر كثيراً بموته وإن كان، ولحسن الحظ، ليس بالقدر الذي يمنعه من الحياة. الموت هو الحقيقة الأشد إيلاماً والأكثر غموضاً الذي يواجهه المرء، إذ حوله وبسببه تدور وتنشأ معظم عذابات الإنسان وفلسفته وسعيه وقهره ومعتقداته. وفي مواجهة الموت تتقلص الرغبات كثيراً إلى الحد الذي تنتهي فيه بمجرد الرغبة في امتلاك مكان لا يتجاوز المترين ولكن في رقعة جغرافية بعينها من هذا العالم، رقعة حبيبة. وهنا قد تُضاف لمأساة الإنسان وجرحه الوجودي مأساة وجرحٌ جديدين عندما لا يتمكن من امتلاك هذا المكان الأخير له في الدّنيا كما تمنّى وأوصى.

هل يحق للمرء الذي لم يمتلك حياته أن يخطط لموته؟ وإلى أي مدى يمكن للغريب الذي لا يمتلك أرضاً أن يمتلك قبراً؟ لماذا تكتسب القبور هذه المكانة لدى الأحياء؟

لماذا نود أن نؤول أخيراً إلى تلك البلاد التي هربنا منها في حياتنا ليطوينا ثراها إلى أبد الآبدين؟

لماذا يهتم المرء إلى هذا الحد بالمكان والطريقة التي سيدفن بها؟ ولماذا نود أن نؤول أخيراً إلى تلك البلاد التي هربنا منها في حياتنا ليطوينا ثراها إلى أبد الآبدين؟

يُصوّر الفيلم السويسري "باتجاه القبلة" بطولة الممثل جهاد عبده وإخراج جان إيرك ماك الصعوبات التي واجهها اللاجئ السوري "فريد" في محاولته لدفن زوجته حسب الشريعة الإسلامية بعد وفاتها بمرض السرطان في إحدى القرى السويسرية. لم يكن ليخطر ببال فريد لحظة إعلان الوفاة أنه لن يتمكن من دفن زوجته نحو القبلة لأن هذا سيخالف قوانين البلديات السويسرية في تنظيم المقابر التي تصطف فيها القبور جميعها بشكل منتظم وباتجاه واحد، ووجود قبر يخالف المعايير المتبعة، يعد أمراً لا يمكن القبول به على الإطلاق.

لم يخطر ببال فريد أنه لن يتمكن من دفن زوجته نحو القِبلة لأن هذا سيخالف قوانين البلديات السويسرية في تنظيم المقابر التي تصطف فيها القبور جميعها باتجاه واحد.

يطرح الفيلم حق اللاجئين القادمين من ثقافة دينية مختلفة في ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية في البلاد الأوروبية واحترام رغبات الأفراد في حياتهم وبعد موتهم. إذ يبدو في لحظة ما أن منظومة القيم الخاصة بشخص ما ومعتقداته وثقافته كلها لا تساوي شيئاً أمام قانون المقابر السويسري وجمالية تنظيمها، إذ تغدو طقوسه ومعتقداته خارج الحيز المادي/ العملي مما يمكن التعامل معه.

حق آخر للإنسان (المهاجر أو المنفي) قد تتم مصادرته لكن هذه المرة من البلد الأم عندما تُمْنَع التوابيت، في حالات كثيرة ولأسباب مختلفة، من العودة إلى بلادها عقاباً لأصحابها.

إن يقين الإنسان أنه في لحظة ما لن يعود موجوداً وسيفقد القدرة على التحكم بما كان يسمّيه "حياته" بكل ما صنعه وامتلكه فيها من شأنه أن يحطم روحه. ولا غرابة في سعي الإنسان المستمر للتعويض عن عجزه المحتوم هذا سواء أكان ذلك في محاولاته لترك أثر من ناحية، أو في وصاياه بتنظيم بقايا حياته من بعده وتحديد مآل جسده من ناحية أخرى. وإن نزع ذلك الحق الأخير منه تحت أي مسمى ما هو سوى تعزيز لمأساته يضفي عليها درامية لا حدود لها. هذا وإن كانت مشاهد عودة توابيت المنفيين/ المهاجرين إلى أوطانهم تحمل درامية أكبر بكثير في أغلب الأحيان؛ ورغم كل شيء ليس من حق أي أحد أو أي جهة على الإطلاق أن تنزع الشرعية عن وصية المرء الأخيرة وتقف عائقاً أمام تنفيذ رغبته.

فهل كثير على المرء أن يمتلك الحق في تقرير الكيفية التي يريد لجسده البارد أن يؤول إليها بعد أن تغادره الروح؟ كأن تمنع قوانين بلد الهجرة الرفات من أن يدفن في أراضيها أو أن تمنع الأوطان التوابيت من العودة بعد أن نفت أصحابها مرغمين! كأن تمنع القوانين والمعتقدات البشر من التبرع بأعضائهم أو من أن يوصوا بحرق جثثهم ونثر رمادها في مكان ما، في مدينة أثيرة أو عند سفح جبل، على سطح بحر أو امتداد سهل!

تعتبر الطبيبة النفسية "اليزابيث كوبلر روز" أن الإنكار هو المرحلة الأولى من مراحل الحزن الخمس التي يمر بها الإنسان بعد فقدان شخص عزيز. إذ كيف يُصدّق المرء أن الموت قد خطف أحد أحبته، كيف يُصدّق أن عزيزاً له لم يعد موجوداً بحزنه وفرحه وقلقه ومحبته وضحكاته؟ كيف يُصدّق أنه رحل كله؟

بعد وفاة أختي العام الفائت مررت بحالة النكران تلك وقتاً طويلاً، وربما لا أزال عالقة فيها بطريقة ما. كانت لدي كل علامات الغياب ولكني لم أمتلك التصديق. أذكر أني قلت لصديقتي مرة: "لعل السبب في عجزي عن التصديق يكمن في أن هذه المرة الأولى التي أفقد فيها أحداً بهذا القرب وكأنه بتكرار الحدث الأليم يخلق المرء داخله نوعاً من الذاكرة، من نمط ما يساعده على القبول". فأجابتني بتعليق بدا لي شديد الغرابة ساعتذاك: "ربما يجب أن تري قبرها حتى تصدقي".

بعد وفاة أختي العام الفائت مررت بحالة نكران طويلة، قالت لي صديقتي عندها بتعليق بدا لي شديد الغرابة: "ربما يجب أن تري قبرها حتى تصدقي"

صديقة أخرى روت لي أن خطيبها طلب منها إرسال صورة لقبر والدها بعد وفاته لأن ذلك سيساعده على التعاطف معها والاحساس بها بشكل أفضل.

إذاً لا تبدو القبور شأناً للأموات أكثر مما هي شأن للأحياء. ولا تقتصر أهميتها ووظيفتها في الوعي الإنساني على كونها شاهداً على وجود المرء وسبباً لتذكره بل تلعب دوراً أهم ألا وهو التصديق. وكأن الإنسان ما صنع القبور إلا ليُصدِّق الموت.

في رواية "الموت عمل شاق" للروائي خالد خليفة تحولت وصية الأب الميت في دفن رفاته في مسقط رأسه في ريف حلب إلى عبء ثقيل بالنسبة للأبناء، بعد أن استمرت رحلة نقل الجثمان لأيام مليئة بالخوف والتوتر والعنف أثناء المرور على نقاط تفتيش تابعة لأطراف النزاع المسلح في سوريا. في بداية رحلة تنفيذ الوصية تلك يتم القبض على الجثة، في مرحلة أخرى تهاجمهم الكلاب البرية. رحلة يتمنى فيها الأبناء مرات عديدة لو أنهم ينقلون في سيارتهم أكياس كمون بدلاً من جثة والدهم، أو لو أنهم يتركونها في مكان ما لتأكلها الذئاب.

يُقال إن الإنسان يفقد لحظة الموت 21 غراماً من وزنه، 21 غراماً هي وزن روحه، هي وزن حياته كلها.

يُقال إن الإنسان يفقد لحظة الموت 21 غراماً من وزنه، 21 غراماً هي وزن روحه، هي وزن حياته كلها. وزن ما كسب وما خسر، ما تذكر وما نسي، ما تألم وما فرح، ما بكى وما ضحك، ما أحب وما كره، ما تَغرّب وما انتمى، ما انتصر وما انهزم. يا للخفة! خفيفة حياة المرء، وخفيفة روحه، وخفيف موته. فما الذي صيّر موت السوريين سواء أكان في الغربة أو في البلاد ثقيلاً إلى هذا الحد؟ وكيف صار أثقل من أرواحنا؟ ومن المسؤول عن تَحوّل حيواتنا إلى محنة، وتَحوّل وصايانا إلى مهمة شبه مستحيلة، وتَحوّل موتنا إلى عمل شاق؟ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image