وضعت جماعة من المتكلمين المسلمين تصورات للذات الإلهية كادت تصل إلى نوع من رسم صورة تقريبية لها، وأتت محكومة بانطباعات شخصية وخيالية، في تمايز عن الفرق الكلامية الأبرز في الإسلام كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية، وعرفت آراء هذه الجماعة بالتجسيم، لكونها حصرت الذات الإلهية في صورة مادية ملموسة ومحدودة.
في كتابه "رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس"، وفيه يدافع عن مواقف المعتزلة أمام بقية الفرق، يتحدث الحاكم أبو سعيد الجشمي (ت. 494هـ) عن رجال يصفهم بالمشبهة ويعرض مجموعة من أقوالهم التي تضع الذات الإلهية في صورة إنسان، منها أنه "يضحك حتى تبدو نواجذه"، و"في رجليه نعلان من ذهب"، وهو "في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة"، و"يضع رِجلاً على رِجل ويستلقي"...
هذا الخوض في العقيدة الدينية بهدف إثبات فكرة أو إنكارها أو تأييدها بالحجج ودفع الشبهات عُرف بـ"علم الكلام". وظهر الآباء المؤسسون لهذا العلم في عهد الدولة الأموية، فتكلموا في الجبر والاختيار والحرية، وفي ذات الله، صفاته وأفعاله.
واختلف تعاطي السلطة السياسية مع المتكلمين وأفكارهم، فما راق لها سكتت عنه، ومَن اختلف معها وشذ اتهمته بالكفر وتشتيت كلمة المسلمين وكان مصيره القتل في أبشع صوره.
التجسيم في خيال غلاة عليّ
في مرحلة مبكرة من عمر الإسلام، اشتعل خيال بعض غلاة علي بن أبي طالب، فصوّروه على أنه إله. وورد في كتاب "بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار" لمحمد باقر المجلسي (ت. 1110هـ) أن سبعين رجلاً جاءوا عليّاً في البصرة، "يدعونه إلهاً بلسانهم وسجدوا له فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا عليه فقال: لئن لم ترجعوا عما قلتم فيَّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم. قال: فأبوا، فخَدَّ (حفر) عليه السلام لهم أخاديد وأوقد ناراً". وينقل فهد هارون عن مصادر قديمة، في كتابه "مقالة التجسيم"، أنه "لما رماهم علي رضي الله عنه في النار ما زادهم ذلك إلا كفراً وتشبيهاً فقالوا: صح عندنا أنك الله، لأنه لا يعذب بالنار إلا الله"، ويستنتج من ذلك أن "هذا دليل على أن نفسية القوم ونظرتهم للإله نظرة بشرية تجسيمية بحتة".
وفي الكوفة، اقترب هشام بن الحكم (ت. 190 هـ) من تحديد بعض التفاصيل الدقيقة للإله. وبحسب ما أورده أبو الحسن الأشعري (ت. 330 هـ)، في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"، فإنه قال إن "الله جسم محدود عريض عميق طويل"، وجسمه يمكن تقديره، فهو أصغر من جبل أبي قبيس، وطوله "أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه"، ومكانه "هو العرش وإنه مماس للعرش"، وهو "نور ساطع" و"كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها".
أما المغيرة بن سعيد (ت. 119هـ)، وفقاً لكتاب الأشعري المذكور، فإن أصحابه قالوا "إن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق ما للرجل، وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة". ووضع المغيرة تصوراً يُعَدّ الأكثر غرابة عندما قال إن حروف الأبجدية على عدد أعضائه، فـ"الألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذكر الهاء فقال: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمراً عظيماً. يُعرِّض لهم بالعورة وبأنه قد رآه".
مقترباً من التصور المسيحي، أعلن أبو منصور العجلي أنه "ابن الله". وبحسب الأشعري، في كتابه المشار إليه، أشاع أنه "عُرِجَ به إلى السماء، فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له: أي بني، اذهب فبلغ عني". وذكر فهد هارون في "مقالة التجسيم"، أنه "شَبَّه علياً رضي الله عنه بالإله".
التجسيم في الخيال السنّي
مُعتمدين على التفاسير الحرفية للنصوص، ركّز عدد من الحنابلة وأصحاب الحديث على إثبات أعضاء الجسم للذات الإلهية، وأشار إليهم أبو الحسن الأشعري في آخر سرده لأقوال القائلين بأن الإله في مكان بقوله: "وقال أهل السنّة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء"، لكنهم يقولون إن له وجهاً ويدين وعينين. وذكر ابن رشد الأندلسي (ت. 595هـ)، في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، أن الحنابلة اعتقدوا أن الخالق "جسم لا يشبه سائر الأجسام".
بالعودة إلى كتاب "رسالة إبليس" للجشمي، لمّا سُئل القاضي وأحد أئمة الحديث معاذ العنبري (ت. 196هـ)، عن التشبيه وبين يديه لحم يأكله قال: "هو والله مثل الذي بين يديّ، لحم ودم". ولكنهم كانوا يقولون إن صفاته مغايرة لصفات البشر.
نُقلت عن رجال سُمّوا "المشبهة" مجموعة أقوال تضع الذات الإلهية في صورة إنسان، منها أنه "يضحك حتى تبدو نواجذه"، و"في رجليه نعلان من ذهب"، وهو "في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة"، و"يضع رِجلاً على رِجل ويستلقي"...
ومن طرائف ما قاله العنبري، بحسب الجشمي أنه سُئل: "أله وجه؟ قال: نعم، لا كالأوجه. قلت: فعين؟ قال: نعم. حتى عددت جميع الأعضاء من أنف وأذن وصدر وبطن وهو يقول: نعم. فاستحييت أن أذكر الفرج فأوميت بيدي إلى فرجي، فقال: نعم. فقلت: ذكر أو أنثى؟ قال ذكر. ففرح القوم، غير هؤلاء المعتزلة فإنهم لعنوه وكفَّروه".
وروى الأشعري، في كتابه المذكور، أن مقاتل بن سليمان (ت. 150هـ)، المحدث وصاحب التفسير المشهور بـ"تفسير مقاتل"، قال: "إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعين، وهو مع هذا لا يشبه غيره".
وروى الحاكم الجشمي أن معتزلياً قال عن مفتي البصرة حماد بن سلمة (ت. 167هـ): "أما حماد فلم ألعنه ولكن ألعن مَن روى أنه تعالى ينزل يوم عرفة على جمل أحمر في قفص (وفي روايات: قميص) من ذهب، فإنْ كان حماد يروي هذا فهو ملعون".
المعتزلة والأشاعرة... خصوم المُجسمة
لم يتسامح الأشاعرة والمعتزلة مع القائلين بالتجسيم. وبحسب رشيد الخيون، في كتابه "المعتزلة من الكلام إلى الفلسفة"، فإنه مثلما "اعتمد المجسمون آيات قرآنية وفسروها تفسيراً حرفياً"، على الجانب الآخر و"بالطريقة نفسها أوَّلَ المعتزلة هذه الآيات لنفي الجسمية عن الله".
وعن موقف الأشاعرة، ذكر أحمد محمود صبحي في كتابه "في علم الكلام" أنهم ذهبوا إلى أن "الله ليس بجسم لأن الجسم هو الطويل العريض العميق، فإن قيل جسم لا كالأجسام كان رده أننا لا نطلق على الباري اسماً لم يسمِّ به نفسه ولا سماه به رسوله ولا أجمع المسلمون عليه".
ساخراً من مقولة التجسيم، وصف الفخر الرازي (ت. 604هـ) هذه الآراء بأنها صَنعت صورة قبيحة للإله، فبحسب كتابه "أساس التقديس"، "ورد في القرآن الكريم ذكر الوجه وذكر العين وذكر الجنب الواحد وذكر الأيدي وذكر الساق الواحدة فلو أخذنا بالظاهر يلزمنا إثبات شخص له وجه واحد وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد وعليه أيدي كثيرة وله ساق واحدة ولا نرى في الدنيا شخصاً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة".
الله نور السموات والأرض
قادماً من أرضية فلسفية، منتقداً الفرق الكلامية، حاول ابن رشد الأندلسي تحديد أسباب المشكلة ووضع حل لها، كونه رأى أن "الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق"، وفقاً لكتابه "مناهج الأدلة".
خلافاً لظاهر النصوص، فإن الجمهور يُعَدّ عائقاً، لأنهم "يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس وأن ما ليس بمتخيل ولا بمحسوس فهو عدم، فإذا قيل لهم: إن ههنا موجوداً ليس بجسم. ارتفع عنهم التخيل، فصار عندهم من قبيل المعدوم"، لذا رأى ابن رشد أنه "إذا صُرِّح بنفي الجسم عرضت في الشرع شكوك كثيرة".
يُروى أن سبعين رجلاً قدموا إلى علي بن أبي طالب في البصرة، وسجدوا له قائلين إنه الله، فمنعهم وهددهم بالقتل إذا لم يتراجعوا، فأبوا، فوضعهم في حفرة وأوقد ناراً، ورماهم فيها، فقالوا: "صح عندنا أنك الله، لأنه لا يعذب بالنار إلا الله"
تتبَّع ابن رشد مشكلات نفي الجسمية، وذكر أن "الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية، فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية، وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك عليهم ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية".
بعيداً عن النفي والإثبات، ظن ابن رشد أن الإجابة المثالية لأي سائل من الجمهور هي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، ولأنه يدرك عدم توقف فضول الإنسان، ذكر في "مناهج الأدلة": "إنْ قال قائل فإذا لم يصرح الشرع للجمهور لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم فما عسى أن يجابوا في جواب ما هو؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه، ولذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به، أنه لا ماهية له، لأن ما لا ماهية له، لا ذات له. قلنا الجواب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع فيقال لهم إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه العزيز".
مقصلة السلطة
مصائر قاسية واجهت آباء علم الكلام، والمجسمة بصورة خاصة. تروي المصادر التاريخية أن خالد بن عبد الله القسري (ت. 126هـ)، أحد الولاة في الدولة الأموية، قتل مجموعة أبرزهم المغيرة بن سعيد وبعض أصحابه، كما قتل الجعد بن درهم في مشهد هزلي بعد صلاة عيد الأضحى، إذ خطب وقال للناس: "ضحوا تقبل الله منكم، فإني مُضحٍ بالجعد بن درهم"، ثم نزل عن المنبر وذبحه.
"هذه من حسناته". هكذا وصف شمس الدين الذهبي، في كتابه "سير أعلام النبلاء"، قتل القسري للمغيرة وذبحه للجعد، بعدما روى الحادثتين. ووفقاً للأشعري، فإن خالد القسري قتل أيضاً بيان بن سمعان التميمي الذي ادعى أن "الله عز وجل على صورة الإنسان، وإنه يهلك كله إلا وجهه".
ومن المتكلمين الذين قُتلوا على يد الأمويين غيلان الدمشقي. قتله هشام بن عبد الملك، عاشر خلفاء بني أمية. وقتل الحجاج بن يوسف الثقفي معبد الجهني الموصوف بأنه "أول مَن تكلم في القدر". وقتل والي العراق يوسف بن عمرو الثقفي أبا منصور العجلي الذي ادعى أنه "ابن الله".
في كتابه "فجر الإسلام"، وصف أحمد أمين قتل المتكلمين بأنه وقع لأسباب سياسية، فعن قتل معبد الجهني ذكر أنه "كان قتلاً سياسيّاً، وإنْ كان كثير يذكرون أنه قتله لزندقته"، وأرجع السبب إلى مساندته ثورة عبد الرحمن بن الأشعث. وذكر أيضاً أن الجهم بن صفوان صاحب القول بالجبر ساند الحارث بن سريح في خروجه على بني أمية فقُتل، وعلَّق قائلاً: "ومن هذا ترى أن الجهم أيضاً قُتل لأمر سياسي لا علاقة له بالدين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...