"لم تكن فرحتي بقدومها كأي فرحة، بل إنها تجاوزت كل سعادة في الكون، لقد أصبحت بعد انتظار طويل أمّاً لمولودة تشبه القمر في ليلة تمامه واكتماله، لكن فجأة هبّت رياح التعاسة والكآبة واليأس بعد أن ظهرت عدة مؤشرات على ابنتي توحي بإصابتها بالتوحّد، كعدم استجابتها عند مناداتي لها باسمها، أو أنها تفضل اللعب بمفردها، حتى إنها كانت تعاني من صعوبة كبيرة في النطق".
"هذا ما جعلني أقصد طبيباً مختصاً في تشخيص مرض التوحّد لدى الأطفال، كنت أميل إلى الوهم وأركن إليه كثيراً، لكن سرعان ما هبّت رياح الحقيقة المرّة عليَّ"، هكذا استهلّت رقية، والدة الطفلة آلاء المصابة بطيف التوحّد، قصتها المؤلمة والموجعة لرصيف22.
تقول: "لم أكن أريد إطلاقاً أن أسمع كلمة توحّد، لأنني أدرك جيداً ما الذي يعنيه هذا المرض؛ فقد كنت أشتغل في مركز خاص بالمرافقة الطبية والنفسية للأطفال الذين يعانون من اضطرابات مختلفة، غير أنني تخليت عن وظيفتي للاعتناء بطفلتي".
في البداية، تكشف رقية أنها تمكنت من التأقلم مع مرض ابنتها، لكن الحياة أصبحت صعبة بعد ولوجها المدرسة الابتدائية، العمر الذي يبدأ فيه الطفل ببناء هويته وتكوين انتمائه إلى مجتمعه
لم أكن أريد إطلاقاً أن أسمع كلمة توحّد، لأنني أدرك جيداً ما الذي يعنيه هذا المرض؛
رحلة عذاب يومية
"يجب أن يقتنع أولياء الأطفال حاملي التوحّد أنهم سيدخلون في رحلة عذاب يومية من أجل مساعدة أطفالهم على الدمج الكلي، في ظلّ غياب مرافق الحياة المدرسية والأخصائيين النفسانيين على مستوى المدارس الحكومية، وهو ما دفعني للبحث عن آليات لمساعدة ابنتي مقابل مبالغ مالية طائلة، لم أقو على تغطيتها لولا مساعدة والدتي لي؛ لأن الجزء الأكبر من راتب زوجي نغطي به النفقات الأساسية التي تشمل الفواتير والإيجار".
وتابعت قائلة: "أولياء الأطفال حاملي التوحّد يتحمّلون مصاريف لا تحتمل، ناهيك عن رفض المحيط لهم"، وتسرد هنا حادثة وقعت معها منذ شهر تقريباً: "تعرضت ابنتي للتنمّر من طرف إحدى الفتيات، فقامت بتصرّف عدواني خطير للغاية للدفاع عن نفسها، حينها طالبت مني المديرة بإدماجها في المراكز الخاصة للتكفل بهذه الفئة، نظراً لضآلتها ونقصها الفادح".
"قلبي يعتصر ألماً للوضع الذي آلت إليه ابنتي في مشوارها الدراسي، ولم أجد حلاً سوى عرضها على أخصائية نفسانية تساعدها على تجاوز حالة الاكتئاب الحاد والانعزال عن المجتمع والفزع والخوف المفرط وعدم الثقة بالنفس، لا أريدها أن تدرس فقط، بل أريدها أن تعيش سعيدة".
واختتمت رقية قصتها المؤلمة بالقول: "أكثر ما يخيفني غداً، أو بعد غد أو ربما بعد سنين لا تعد، عندما لا أكون موجودة في هذه الحياة، كيف سيكون مصير ابنتي؟ هذا السؤال لا يفارق مخيلتي".
الراتب لا يكفي لتغطية احتياجاتهم
ليلى وإلى، رئيسة الجمعية الجزائري لاضطراب التوحّد وأم لطفل حامل للتوحّد، تتقاسم مع رقية المعاناة نفسها، وتقول لرصيف22: "معاناة أطفال التوحّد وأهاليهم لا توصف، فهناك نقص فادح في مجال التكفل بهذه الفئة الهشّة والضعيفة في المجتمع، وفي غالب الأحيان تقفل في وجوههم أبواب رياض الأطفال، وإذا حالف الحظ ولي التلميذ، فيُطلَب منه مرافق شبيه بمرافق الحياة المدرسية، يدفع له راتباً شهرياً لا يقل عن 300 دولار، وهو أمر صعب للغاية إن لم يكن مستحيلاً، إضافة إلى قسط الروضة".
ولا يقتصر هذا الوضع على رياض الأطفال فقط، وتقول رئيسة الجمعية الجزائرية لاضطراب التوحّد، إن المدارس في الجزائر تواجه صعوبات كبيرة في عملية دمج هذه الفئة في ظل غياب المشرفين على متابعة وتعليم الأطفال.
والمطلوب اليوم، حسب ليلى وإلى استحداث صندوق خاص تسند له مهام التكفل بهذه الفئة، يتكفل بتغطية مختلف المصاريف، كتكاليف المختص السيكولوجي والإكلينيكي وأتعاب مرافق الحياة المدرسية، وكل الحصص التربوية العلاجية التي يقوم بها الطفل، كالرياضة والفروسية والسباحة.
500 ألف طفل مصاب بالتوحد
وتكشف الإحصائيات العالمية المتعلقة بالتوحّد في عام 2018، عن تسجيل 500 ألف طفل مصاب بالتوحّد في الجزائر، يعاني معظمهم وضعاً صعباً للغاية؛ بسبب صعوبة التكفل بهم على مستويات مختلفة.
ومن جهته، يرى النائب في البرلمان الجزائري عمر معمر، أن "البيئة المدرسية غير واعية ومتقبلة لطيف التوحّد، بداية من الإدارة التربوية وصولاً إلى بيئة التلاميذ التي تعاني من سلوكات سلبية غير داعمة للإدماج، ناهيك عن ضعف التنسيق بين مختلف القطاعات الوزارية والجمعيات الناشطة في الميدان؛ ما يجعل المدارس العادية غير مؤهلة لاستقبال بعض حالات التوحّد.
ويُشير عمر معمر أيضاً إلى رفض الكثير من أسر التلاميذ بالمدارس تمدرس أبنائهم مع طيف التوحّد إما جهلاً أو خوفاً عليهم، وكل هذه العوامل تدفع التوحّدي إلى التحفظ على إقامة علاقات تواصلية مع الأقران والانطواء والانعزال عن المجتمع وعدم مشاركة الآخرين في الألعاب الجماعية.
يجب أن يقتنع أولياء الأطفال حاملي التوحّد أنهم سيدخلون في رحلة عذاب يومية من أجل مساعدة أطفالهم على الدمج الكلي،
توصيات ضرورية
وخلص اليوم الدراسي الذي احتضنه البرلمان الجزائري حول هذه الفئة، بتوصيات ضرورية تنطلق من الإسراع في إنشاء مركز وطني للتوحّد للتعاون مع المراكز الأجنبية المتخصّصة، مع فتح أقسام خاصة بالمؤسسات التعليمية العمومية لذوي اضطراب التوحّد المتوسط، بالتعاون مع قطاع التضامن الوطني وجمعيات المجتمع المدني الناشطة في هذا المجال، وإدماج ذوي الاضطراب الخفيف بالأقسام العادية.
ودعا البرلمان الجزائري الحكومة إلى الإسراع في وضع قانون خاص بمرافق الحياة المدرسية بحيث يتضح فيه مركزه القانوني، شروط وضوابط وإجراءات توظيفه، مهامه واختصاصاته، وأيضاً تحديد حقوقه وواجباته، تجاه الطفل، المؤسسة التعليمية والأولياء.
ويبدو أن إنشاء لجنة وطنية ولجان محلية لمتابعة وتقييم وتقويم عملية الدمج ومنحها كامل الصلاحيات لمباشرة عملها الرقابي ضرورة ملحة حالياً لإنجاح عملية دمج هؤلاء الأطفال والارتقاء بالخدمات المقدمة لهم ولأسرهم.
ولتسهيل تعليمهم، أوصى البرلمان الجزائري باستحداث برامج تعليمية تستجيب للاحتياجات الفعلية لهذه الفئة من الأطفال، والمتمثلة في دمجهم وتعليمهم وعدم الاكتفاء بالخدمات ذات الطابع الاجتماعي كما هو عليه الحال.
ومع تسجيل نقص في المراكز الخاصة للتكفل بهذه الفئة من الأطفال، وهو ما يجبر العائلات على قطع مسافات طويلة للحصول على العلاج، شدّد البرلمان على تفعيل الصحة المدرسية لمرافقة الأسرة التربوية وتوجيه الحالات على حسب الصعوبة، مع فتح مراكز متخصصة للتشخيص في المدن الداخلية وخاصة جنوب الجزائر، كذلك التكفل بمصاريف النقل لهذه الفئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون