شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل تشكّل ممارسة الشعائر الدينية خطراً على العمران؟... عن

هل تشكّل ممارسة الشعائر الدينية خطراً على العمران؟... عن "المدينة الأصولية" والمستوطنات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 14 مايو 202302:14 م

يرصد كتاب "المدينة الأصولية" للمعماري المصري الدكتور نزار الصياد، الآثار والبصمات التي يُخلفها التطرف والتشدد الديني على عمران المدن. هذه الآثار التي تصنع في مرحلة ما حواجز دينية تؤدي إلى خلق أنماط من الإقصاء وأشكال من الفصل العنصري وربما التطهير العرقي وتصل ذروة هذه الحواجز إلى إرساء قواعد ما يُسمى بالاستعمار العمراني الذي يتجلى بشكل وحشي في صورة المستوطنات اليهودية على أرض فلسطين المحتلة، في محاولة لامتلاك الأرض والماضي والحاضر والمستقبل عبر العديد من السياسات الراديكالية الدينية التي أدت إلى ما يُعرف بـ "التهويد".

وقبل الدخول في معترك هذا الكتاب الشائك، والمُلغم، سواء في تعقيده وتركيبه وكذلك في المساحات المكانية التي اشتغل عليها، ربما علينا أن نقدم الدكتور نزار الصياد كما يليق بمجهوده الكبير ومشروعه الاستثنائي في تاريخ العمران.

يتتبع الباحثان التغيرات الجيوسياسية التي طرأت بشكل دراماتيكي على أرض فلسطين منذ فترة الاحتلال البريطاني، ووصول أعداد هائلة من المهاجرين واللائجين اليهود الفارين من الاضطهاد في أوروبا، مروراً بنكبة 1948 التي أعقبها تطهير عرقي واسع النطاق

نزار الصياد أستاذ متميز في العمارة والتخطيط وتاريخ العمران في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، حيث عمل كرئيس لمركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة لعقدين من الزمن، وأسس في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1988 الجمعية الدولية لدراسة البيئات التراثية.

وله أكثر من 20 كتاباً باللغة الإنكليزية وقد تُرجم الكثير منها إلى لغات أخرى، منها أربعة كتب باللغة العربية: "تواريخ مدينة"، "مدن وخلفاء"، "النيل: مدن وحضارات على ضفاف نهر"، "القاهرة السينمائية"، "تقليد التراث". ومؤخراً صدرت الترجمة العربية للكتاب الذي نتناوله "المدينة الأصولية"، حيث صدر في نسخته العربية عن دار المرايا للإنتاج الثقافي بالقاهرة، ترجمة هالة حسنين.

والكتاب الذي حرره ووضع مخططه وفكرته نزار الصياد يضم أبحاثاً لمجموعة من الباحثين ذوي التخصصات المتعددة المرتبطة بالموضوع الرئيسي وهو: المدن والأصوليات؛ فهناك باحثون في الأنثروبولوجيا، وتاريخ العمارة، والجغرافيا الحضارية، والتخطيط والعلوم السياسية وعلم الاجتماع وكذلك التاريخ العمراني.

وقد صدر كتاب "المدينة الأصولية" في عام 2011 باللغة الإنكليزية، بتمويل من مركز وودرو ويلسون الدولي. والكتاب كما يقول الصياد "ليس حواراً مفصلاً حول كافة أنواع العمران في مدن الأصوليات الدينية المختلفة، إنما هو محاولة لفهم العلاقة بين مدن محددة وبين ممارسات بعينها تقوم بها الأصوليات".

حق السير في المدينة

فكرة المدينة الأصولية راودت نزار الصياد قبل عدة سنوات حين كان يتجول في شوارع القاهرة التي نشأ فيها في ستينيات القرن الماضي، فأثناء تجوله لاحظ التغيير العمراني الساحق الذي أصاب مدينة القاهرة وكيف تحولت من مدينة علمانية إلى مدينة على تخوم الأصولية؛ حيث الفراغات المكانية مثل المرأب و"البدروم" في العمارات السكنية التي تم تحويلها إلى زوايا للصلاة، حتى امتد الأمر إلى العديد من الشوارع التي فُرشت بالحصير والسجاجيد لإقامة صلاة الجمعة، في اعتداء صارخ على فضاء المدينة وأماكن سير المواطنين الذين ربما لا ينتمون إلى الدين الإسلامي.

ومن هذه المشاهد تبادر في ذهن المعماري المصري مجموعة من التساؤلات: من له الحق في الفضاء العام للمدينة، وعلى حساب من يكون هذا الحق؟ حق السير في المدينة هو بالتأكيد حق جوهري من حقوق المواطنة العمرانية، فإلى أي مدى يمكن تبرير تنازل الأقليات ذات المعتقدات المختلفة عن هذا الحق أو التسامح معه، بل وتبرير تنازل هؤلاء ممن لا يهتمون بالانخراط في الشعائر الدينية عن هذا الحق أو التسامح معه؟.

ومن خلال هذه التساؤلات صاغ الصياد السؤال الرئيسي الذي يسعى الكتاب إلى استكشافه وربما ليس الإجابة عليه، وهو: متى تتحول شعائر دينية/عادات دينية معينة إلى ممارسات إقصائية تتحول بدورها في نهاية المطاف إلى إرساء أوضاع أصولية تُساهم في تشكيل الفضاء العمراني؟

ضاحية حزب الله

في البداية يُفند الصياد التعريفات المتعددة التي صكها الباحثون لمصطلح "الأصولية"، الذي نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، كمصطلح يُشير إلى البروتستانت، قبل أن يتسع نطاقه في السبعينيات والثمانينيات، ويُطلق على تيارات الإسلام السياسي. وثمة إسهاب غير مبرر –ربما- من جانب المساهمين في الكتاب في شرح مفهوم الأصولية، حتى أنهم لم يتفقوا على تعريف جامع له.

في دولة دينية إثنوقراطية، من الطبيعي أن تلتحم الأجندة الدينية بالمدنية لإرساء قواعد الفصل العنصري والإقصاء عبر الاستحواذ على الفضاء العمراني.

وبعيداً عن هذه النقطة الإشكالية، فإن الكتاب يستكشف حالة الأصوليات الدينية: الإسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية، في بعض مدن العالم، ودورها في صياغة الشكل العمراني لها، كما في فصلي "المدينة من أثينا إلى البرازيل، المدنية وأشكال المواطنة غير العادلة"، و"إنتاج المدينة الطائفية، حركة الهندوتفا، وأثرها على العمران".

وفي فصل بعنوان "عن ممارسات التدين والحيز العمراني" تقوم الباحثة منى حرب باستكشاف أثر جماعة حزب الله على الفضاء العمراني لبيروت، وتُبين كيف استفاد حزب الله من قدرته على السيطرة على حيز جغرافي عمراني، وعلى هيكلة هذا الحيز بحيث يعكس قيم الحركة ووضعها السياسي الاجتماعي، حيث تقول منى حرب إن حزب الله قام بغرس نفسه في المحيط الاجتماعي والمكاني في الضاحية (من ضواحي جنوب بيروت) حتى صار يُرمز إليها اليوم باعتبارها طرفاً مقاوماً لإسرائيل. وتصف حرب هذه الضاحية بأنها حيز عمراني يعكس أيديولوجية دينية، تراقبها وتديرها مجموعة من منظمات المجتمع المدني التابعة لحزب الله، تقوم بتوفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأتباعها.

ما بين الأصولية والعولمة

يزدحم الكتاب الضخم بالعديد من المصطلحات والتحليل الأكاديمي لها، وعلاقتها بمصطلح الأصولية. ويتتبع الباحثون بدايات الصحوة الدينية في أواخر السبعينيات وبداية حقبة الثمانينيات، وعلاقتها بالحداثة والعولمة.

وربما علينا هنا أن نتوقف عند العلاقة بين العولمة والأصولية؛ فرغم التغيرات الجوهرية التي أحدثتها العولمة في العلاقة بين الشعوب والدول، عبر سعيها لتذويب الهويات والقوميات والإثنيات المختلفة وصهرها في بوتقة واحدة، لخلق ما يُسمى بالمواطن الفرد العالمي –هذا ربما في موجتها الأولى، قبل أن تتصاعد الموجات ونصل إلى ما يُسمى بالتعددية الثقافية، والنبش في قضايا الأقليات، والإعلاء من شأن التعددية الثقافية، تلك التي يُسميها جوزيف مسعد "العنصرية الجديدة".

وبرغم كل هذا فكثيراً ما نجد –بحسب الصياد- "أن الحركات ذات الولاءات القومية والمجتمعية والدينية والإثنية حول العالم أصبحت أكثر قوة، وتعبر عن أشكال بديلة لحداثات غير غربية تتميز بالقومية ويُمكنها مقاومة هيمنة العولمة".

وبشكل عام يرى الصياد أن العلاقة بين العولمة والأصولية والحداثة هي أشبه بعمليات التبادل التجاري. كما تطرق الباحثون إلى البحث في أسباب تفشي الأصولية في المدينة وليس في الريف على غير المتوقع، مشيرين إلى أن هذا يعود إلى ما توفره المدن بشكلها الاجتماعي والسياسي والحداثي للأصوليات من آليات تمكنها من السيطرة، عبر التعبئة والحشد.

"التهويد والاستيطان" في ثلاث مدن فلسطينية

يبرز الفصل الثامن الذي جاء بعنوان "الجغرافيا السياسية للتطرف الديني في المدن في إسرائيل/فلسطين" كأهم فصول الكتاب، باعتباره يُقدم نموذجاً صارخاً على أنماط الإقصاء وأشكال الفصل العنصري والتطهير العرقي، عبر السياسات الراديكالية الدينية التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي المحتلة، فيما يُعرف بسياسة التهويد. ويقوم هذا الفصل بتحليل ديناميكيات العلاقات بين الإثنيات الدينية في ثلاث مدن فلسطينية تشهد صراعات بين اليهود والمسلمين وهي: الخليل، القدس، وبئر السبع.

يتتبع الباحثان التغيرات الجيوسياسية التي طرأت بشكل دراماتيكي على أرض فلسطين منذ فترة الاحتلال البريطاني، ووصول أعداد هائلة من المهاجرين واللائجين اليهود الفارين من الاضطهاد في أوروبا، مروراً بنكبة 1948 التي أعقبها تطهير عرقي واسع النطاق، فقد فيها ثُلثا الفلسطينيين منازلهم وأراضيهم، حتى تأسيس إسرائيل على أساس ديني كدولة إثنوقراطية يهودية، فرضت حكماً إثنياً داخل الأراضي التي أصبحت تحت سيادتها، والتي وصلت اليوم إلى 78 % من أرض فلسطين. ثم بدأت إسرائيل - كما يُشير الباحثان- مشروعاً متضافراً للاستعمار الداخلي، يُعرف باسم "سياسة التهويد".

وهكذا أُنشئت أكثر من خمسمائة مستوطنة ومدينة في مناطق كان يقطنها الفلسطينيون في السابق، بما في ذلك بئر السبع. وأخضعت الدولة 96% من أراضيها للملكية اليهودية الإسرائيلية. وبرغم أن العرب الفلسطينيين تم منحهم الجنسية الإسرائيلية، فقد تم إخضاعهم لحكم عسكري حتى عام 1966، وبعد ذلك تم تهميشهم، ونزعت ملكيتهم من قبل الدولة الوليدة.

هذا الاستعمار العمراني أو ما يُعرف بـ"التهويد"، يستند في الأساس من جانب إسرائيل إلى أسباب دينية عميقة الجذور، تتمحور حول فكرة خلاص اليهود بالعودة إلى صهيون (أرض الميعاد في الكتاب المقدس)، وانطلاقاً من ذلك فإن سياسة التهويد تتجلى بشكل كبير في المناطق العمرانية الرئيسية المشبعة بأهمية قومية وتاريخية ودينية، حيث تحتك الأجندة الدينية بالأجندة المدنية بمنتهى القوة.

يشير الباحثان إلى أن الخطابات الدينية المتطرفة، احتلت مركز الصدارة في العقد الأول من الألفية الجديدة. حيث صورت الخليل على أنها مكان الوفاء بـ "العهد" المبرم بين الله والأمة عبر العمل المقدس المتمثل في الاستيطان، وأنها تمثل الحدود النهائية للصهيونية

وفي دولة دينية إثنوقراطية، من الطبيعي أن تلتحم الأجندة الدينية بالمدنية لإرساء قواعد الفصل العنصري والإقصاء عبر الاستحواذ على الفضاء العمراني، وهو ما حدث في المدن الثلاث المشار إليها سابقاً: الخليل، بئر السبع، والقدس. فمدينة الخليل التي بها قبر للنبي إبراهيم -وفقاً للباحثين- "أصبحت مدينة مدججة ومحتلة بوحشية من جانب الدولة الصهيونية، مع تمتع الأجزاء العربية بالمنطقة الغربية منها بحكم ذاتي، ويعيق تنميتها الاقتصادية بشدة نظام احتلال يستخدم حواجز الطرق، والإغلاق، وحظر التجول، والسيطرة الصارمة على بناء المباني العربية. وأدى ذلك إلى تدهور اقتصاد عرب الخليل بشكل خطير، شأنهم في ذلك شأن باقي الأراضي المحتلة. وفي الوقت نفسه ظل الجزء اليهودي يتطور بشكل كبير، حيث البطالة فيه شبه غائبة والإعانات الحكومية السخية متاحة للمواطنين الإسرائيلين فقط".

ويشير الباحثان إلى أن الخطابات الدينية المتطرفة، احتلت مركز الصدارة في العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث صورت الخليل على أنها مكان الوفاء بـ"العهد" المبرم بين الله والأمة عبر العمل المقدس المتمثل في الاستيطان، وأنها تمثل الحدود النهائية للصهيونية، ومن ثم فالتراجع عن المدينة سيكون دليلاً على سقوط مشروع الاستيطان بأكمله.

ولهذه الخطابات المتطرفة حضور قوي في القدس التي نفذت فيها إسرائيل مشروعاً ضخماً لتهويد المدينة، وهذا التطرف الديني في القدس لا يعود فقط إلى تركز الأماكن المقدسة فيها بشكل كبير، بل يرجع أيضاً إلى أن الكتلة السكانية في المدينة، ظلت تضم نسبة عالية من اليهود الأرثوذكس المتطرفين.

ووفقاً للباحثان فقد تم في السنوات الأخيرة، تنفيذ مهمة تهويد القدس العربية بالكامل على يد اليهود المتدينين، إما بقيام الأسر الأرثوذكسية المتطرفة بشراء شقق جديدة في المستعمرات الإسرائيلية سريعة النمو على أطراف المدينة، وإما من خلال جماعات راديكالية صغيرة تأتي لتستقر في قلب الأحياء الفلسطينية بالمدينة، وهي مجموعات مكونة أساساً من الشباب، والأرثوذكس المتطرفين والجماعات القومية التي تتبنى خطابات دينية مشحونة ومُحملة بفكرة "الخلاص".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard