في مساء الخامس من حزيران 1929، دخل أحد شباب الكتلة الوطنية إلى مكتب مديرها المسؤول، أديب الصفدي، قادماً من قرية شبعا في غوطة دمشق. وجهه كان أصفر من شدة الرعب والتأثّر، وفي فمه كلام قاس وخطير: "فوزي بك مات... قتلوا فوزي الغزي..." كان "فوزي بك" طبعاً غنياً عن التعريف، فهو واضع الدستور الجمهوري الذي عرفته البلاد ومن قادة الكتلة الوطنية.
ضرب الصفدي على رأسه ظنّاً منه أن الفرنسيين قاموا بتنفيذ هذه الجريمة، بسبب العداوة المعروفة والقديمة بينهم وبين فوزي الغزي. اتصل الصفدي برئيس الكتلة هاشم الأتاسي، وباثنين من أعضاء مكتبها الدائمين، هما فارس الخوري وإبراهيم هنانو، ليحضرا فوراً إلى مقرها في حيّ القنوات، للوقوف على آخر المستجدات.
في أولى جلسات المجلس النيابي بعد رحيل فوزي الغزي، طالب نائب دمشق، فخري البارودي، بالوقوف دقيقة صمت حداداً على روحه، وعلى دستور سورية الذي تمّ إجهاضه، ومات صاحبه قبل أن يراه نافذاً، مطبّقاً ومحترماً من قبل الجميع
تبين لاحقاً أن الغزي، الذي لم يكن قد تجاوز الثانية والثلاثين من عمره حينها، قد عُثر عليه مسموماً في منزله الصيفي بريف دمشق. الجميع أيقن أن الجريمة كانت سياسية بامتياز، وهي الثانية من نوعها في عهد الانتداب الفرنسي، بعد مقتل رئيس الحكومة علاء الدين دروبي، ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن باشا اليوسف، في سهل حوران قبل تسع سنوات.
كان فوزي الغزي قد ولِد في حيّ العقيبة الدمشقي سنة 1897، وكان والده اسماعيل الغزي قاضياً معروفاً. دَرَس الحقوق في إسطنبول، وفور تخرجه من الجامعة سيق للخدمة الإلزامية في الجيش العثماني، ليخدم في جبهات القوقاز والعراق، حيث أصيب برصاصة أفقدته جزءاً من أذنه. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عاد إلى دمشق وبايع الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على المدينة، فقام الأخير بتعيينه قائم مقام على بلدتي راشية وحاصبيا.
أعجب وزير الداخلية في حينها رضا الصلح، والد رئيس وزراء لبنان رياض الصلح، بفوزي الغزي، وطلب من الأمير فيصل استدعاءه إلى دمشق وتعيينه أميناً على وزارة الداخلية. كما انضم فوزي الغزي إلى الهيئة التدريسية في معهد الحقوق، بعد إعادة افتتاحه في أيلول 1919، وفي عام 1923 أصبح أستاذاً في الجامعة السورية، وعميداً بالوكالة لكلية الحقوق
دوره في الثورة السورية الكبرى
انتسب فوزي الغزي إلى حزب الشعب، الذي أُسّس في حزيران 1925، وهو أول حزب سياسي عرفته البلاد في ظلّ الانتداب الفرنسي.
كان الحزب برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد أساطين الحركة الوطنية في سورية، وكان أمين السر فيه هو المحامي إحسان الشريف، شريك الغزي في مكتب المحاماة بدمشق.
كان "فوزي بك الغزي" غنياً عن التعريف، فهو واضع الدستور الجمهوري الذي عرفته البلاد وأحد قادة الكتلة الوطنية
طالب الحزب بتحرير البلاد من الحكم الفرنسي وتوحيد الأراضي السورية التي قُسّمت على يد الفرنسيين. لكن وبعد أسابيع قليلة من إنشاء الحزب، انطلقت الثورة السورية الكبرى ضد حكم الانتداب، بقيادة سلطان باشا الأطرش، فانضم إليها جميع قادة الصف الأول من حزب الشعب، وكان في طليعتهم فوزي الغزي.
عمل على تهريب السلاح إلى غوطة دمشق، فألقي القبض عليه، وسيق مكبلاً مهاناً إلى سجن أرواد، ومن ثمّ إلى الإقامة الجبرية في مدينة الحسكة. تسبب اعتقاله وتعذيبه بتراجع حاد في صحته بالرغم من صغر سنه، وتساقطت أسنانه من بعدها، ليظهر في جميع الصور المتوفرة له مُبتسماً ابتسامة خفيفة، لا يضحك أبداً.
بعد خروجه من المعتقل مع نهاية الثورة عام 1927، عُرضت عليه حقيبة الداخلية في حكومة وفاق وطني شكّلها الداماد أحمد نامي، ولكنه رفض وفضّل العودة لممارسة المحاماة والتدريس.
دستور عام 1928
انضم فوزي الغزي إلى الكتلة الوطنية فور تأسيسها، ودعا لتفعيل النضال السياسي ضد الفرنسيين، بدلاً من العسكري، كما طالب الثوار بإلقاء سلاحهم مقابل إنهاء الانتداب بطريقة سلمية وقانونية. وفي عام 1928 فاز الغزي بمقعد في المجلس التأسيسي المنتخب والمكلّف بصياغة أول دستور جمهوري للبلاد. انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً لهذا المجلس، وعُيّن الغزي رئيساً ثانياً له. وخلال الحملة الانتخابية، قاد الغزي مظاهرات كبيرة في دمشق ضد الفرنسيين، ما أدى لاعتقاله مجدداً لبضعة أيام.
كان فوزي الغزي هو العقل القانوني في اللجنة الدستورية التي أنجزت أعمالها بأسبوعين، معلنة عن جاهزية دستور مؤلف من 115 مادة، معظمها مستلهم من الدساتير الأوروبية العصرية. جاء في خطابه أمام المجلس التأسيسي: "الأمم لا تموت أيها السادة، إلا إذا أراد لها أبناؤها هذا الموت. والشعوب لا تفنى إلا إذا أراد لها الفناء أهلها. فامشوا أيها السادة على سنن الكون إذ أردتم الحياة، واستسلموا إلى الخنوع والخضوع إذا أردتم الموت".
خرجت جنازة مهيبة لفوزي الغزي، طاف به المشيعون شوارع مدينة دمشق، رافعين رايات كُتب عليها: "مات أبو الدستور، فليحيا الدستور!". رثاه فارس الخوري بقصيدة طويلة جاء في مطلعها: "يبكيكَ أحرار سورية وأنت أخٌ/ ويبكيكَ دستور سورية وأنت أبُ"
أسس الدستور الجديد لنظام رئاسي وبرلماني في سورية، مع انتخابات تشريعية ورئاسية، حُدّدت فيها ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات. أصرّ الغزي على عدم ذكر الانتداب في أي مادة من مواد الدستور، كيلا يعطي الفرنسيين أي شرعية في سورية، كما حدد جغرافية الجمهورية السورية بحدودها الطبيعية مع فلسطين، الأردن ولبنان، في إشارة إلى عدم اعترافه بالحدود المصطنعة التي فرضت على سورية، عبر اتفاقية سايكس-بيكو المبرمة بين حكومتي فرنسا وبريطانيا سنة 1916. وأخيراً أعطى الدستور الجديد رئيس الجمهورية السوري المنتخب، بدلاً من المفوض السامي الفرنسي، حق إعلان السلم والحرب وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
اعترضت المفوضية الفرنسية العليا في بيروت على ست مواد من الدستور، منها حدود سورية الطبيعية، صلاحيات رئيس الجمهورية وعدم الاعتراف بشرعية الانتداب، وطالبت بتعديلها أو شطبها، ولكن الأتاسي والغزي رفضا هذا الطلب وقرّرا طرحه على التصويت، لكي يكتسب شرعية من الشارع السوري. غضب المفوض السامي من هذا التحدي وقام بحل المجلس وبتعطيل العمل بالدستور إلى أجل غير مُسمّى.
جريمة مقتل الغزي
كُلّف مدير الشرطة بهيج الخطيب بالتحقيق في جريمة الغزي، وتبين له لدى تشريح الجثة أنه مات مسموماً بسمّ زعاف. المفاجأة الكبرى كانت لحظة الكشف عن الفاعل، فهو لم يكن أحد ضباط الاستخبارات الفرنسية كما ظنّ كل الناس، بل أقرب المقربين لفوزي الغزي، وهما زوجته الحمصية لطيفة اليافي، وابن شقيقه رضا الغزي.
انتسب فوزي الغزي إلى حزب الشعب، الذي أُسّس في حزيران 1925، وهو أول حزب سياسي عرفته البلاد في ظلّ الانتداب الفرنسي
كانت الزوجة الشابة على علاقة عاطفية مع رضا، وكانا قد استأجرا منزلاً في حيّ الشعلان المشيّد حديثاً يومها، للاجتماع سراً. من هنا اتفق العاشقان على التخلص من الغزي والسفر سوياً إلى اسطنبول للزواج، بعيداً عن المجتمع الدمشقي وألسنته. قام رضا الغزي بشراء حبتين من السم من صيدلي في حيّ العمارة، قال إنه يحتاجها لقتل كلب مسعور.
في يوم الجريمة كانت العطلة القضائية في سورية، حيث قام الغزي بأخذ زوجته وابنته الوحيدة إلى مزرعته في غوطة دمشق. جرّبت الزوجة السمّ على كلب المزرعة فمات فوراً، فقرّرت إعطاءه لزوجها الذي كان يشكو من إسهال شديد، فقدمت له الحبّة على أنها دواء للإسهال، فقتل إثرها متأثراً بالسمّ.
تم اعتقال الزوجة والعشيق مع الصيدلي الذي باعهم السمّ، وحكم عليهم بالإعدام، قبل أن يتم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، بطلب من المفوض السامي الفرنسي غابريل بونسو. وقد ورد في كثير من المراجع التاريخية أن الزوجة ظلّت في السجن حتى عام 1949، عندما أطلق سراحها بعفو خاص من حسني الزعيم، صاحب الانقلاب الأول في سورية. ولكن الحقيقة أنها خرجت من السجن عند قصف دمشق وقلعتها التاريخية من قبل الفرنسيين يوم 29 أيار 1945.
خرجت جنازة مهيبة لفوزي الغزي، حُمل فيها نعشه على الأكتاف وطاف به المشيعون شوارع مدينة دمشق، رافعين رايات كبيرة كُتب عليها: "مات أبو الدستور، فليحيا الدستور!". رثاه فارس الخوري بقصيدة طويلة جاء في مطلعها: "يبكيكَ أحرار سورية وأنت أخٌ/ ويبكيكَ دستور سورية وأنت أبُ".
كُلّف مدير الشرطة بهيج الخطيب بالتحقيق في جريمة الغزي، والمفاجأة الكبرى كانت لحظة الكشف عن الفاعل، فهو لم يكن أحد ضباط الاستخبارات الفرنسية كما ظنّ كل الناس، بل أقرب المقربين لفوزي الغزي، وهما زوجته الحمصية لطيفة اليافي، وابن شقيقه رضا الغزي
وفي أولى جلسات المجلس النيابي بعد رحيله، طالب نائب دمشق، فخري البارودي، بالوقوف دقيقة صمت حداداً على روح فوزي الغزي، وعلى دستور سورية الذي تمّ إجهاضه، ومات صاحبه قبل أن يراه نافذاً، مطبّقاً ومحترماً من قبل الجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...