خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من تاريخ السودان، ظهرت العديد من الأشكال الموسيقية التي توصف بـ"الهابطة"، ولكن مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار رقعة استخدام الإنترنت في السودان ترسخ ما يُعرف بموسيقى "الزَنِقْ"، وفي العامية السودانية تعني "الضغط الشديد"، وهي تيار موسيقي مليء بالعجائب والمفاجآت التي من ضمنها أن أفراد جمهور بعض أولئك المغنّين يحملون كل شيء في أيديهم للرقص به، كل شيء بلا استثناء، حتى وإن كان هذا الشيء بشرياً.
قد تكون هذه الموجة رد فعل جريء لجنس فنّي مكبوت، إذ تُعبّر هذه الموسيقى المتمردة عن القمع الكبير الذي تعرضت له النساء في السودان طوال فترة حكم الإسلاميين (نظام عمر البشير)، والكبت الكبير أيضاً، وهما (أي القمع والكبت) فتيل نيران نغمات الأورغ (الآلة الوحيدة في هذه الموسيقى)، وقد تم توظيفها بواسطة موسيقيين من خارج المجتمع الفني، يصممون الموسيقى الخاصة بهم والتي تحتوي على الكثير من الجمل اللحنية الكلامية والرموز، وعُرفت الزَنِقْ بأنها تعبّر عن ثقافة الهامش، ويمكن أن نطلق عليها Under Ground Music، ونشبّهها بصعود الهيب هوب الأمريكي في المجتمع الأبيض الذي كان يمارس عنصريته على مجتمعات السود.
هذه الموجة رد فعل جريء لجنس فنّي مكبوت، إذ تُعبّر هذه الموسيقى المتمردة عن القمع الذي تعرضت له النساء في السودان طوال فترة حكم الإسلاميين (نظام عمر البشير)، والكبت الكبير أيضاً
لقد اعتاد السودانيون على الاستماع إلى الموسيقى الأصيلة ذات الإيقاع الهادئ والنصوص بالغة المتانة والترف الجمالي، كما اعتادوا على الوتريات والآلات الإيقاعة والنفخية، ولهم هوى ومزاج كبير في الترنيم مع الأغاني. صمدت الأغنية لأكثر من مئة عام على هذا النحو، ثم فجأةً هبطت عليهم الزَنِقْ، وهي موسيقى صاخبة ومرتجلة ولا يمكن إعادتها مرتين، مع كلمات أغانٍ قد يصل بها الأمر إلى أن تكون أسماء أحياء مدينة معيّنة أو أسماء سيارات، أو صفات رجل ما بعينه، وقد تتحول في إحدى أشد الحالات تطرفاً إلى هوس بالرياضيات كأغنية "واحد زايد واحد"، وبالرغم من أنها منافية لكل ما اعتادت عليه أذن المستمعين السودانيين منذ عشرينيات القرن الماضي، إلا أنها لاقت رواجاً من قِبل الشباب في السودان وخارجه بمختلف الخلفيات الاجتماعية والثقافية وليس فقط أبناء الطبقة الفقيرة أو مجتمع الهامش.
واجهت هذه الموسيقى الصدود والعديد من العقبات، فمغنّو الزَنِقْ ومغنياته لا يعترف بهم/ن اتحاد الفنانيين السودانيين، ولا تعترف بهم وزارة الثقافة، ولا وزارة الإعلام، ولا الصحافة السودانية، ولا المحطات الإذاعية والتلفزيونية، ولا حتى إستديوهات الصوت التجارية، ولا المصوّرون المأجورون الذين يعملون بالساعة وأحياناً باللقطة. برغم كل ذلك وأكثر، تزدهر هذه الموسيقى كازدهار أشجار المانغو في الصيف، وتنتشر كل يوم في فضاء إلكتروني وسماعي جديد وتنفتح على الجميع، ويظهر مغنّون ومغنيات جدد كل أسبوع إن لم نقل كل يوم، وهذه الموسيقى تخالف قواعد النجومية كلها إذ يكون النجم فيها هو عازف الأورغ.
نستمع إليها في "الركشة"، وهي تهتز بصوت عالٍ، ومن على سماعات الدراجات النارية، أو في محال شحن أرصدة الهواتف وبيع مستحضرات التجميل بالتجزئة "الملعقة". وكل ما سبق يعبّر عن المناخ الفقير لسكان الأطراف الخرطومية التي تشبه جميع مدن السودان الأخرى. لذلك نجد أن المضمون الدائم لهذه الموسيقى هو التذكير بهذا المجتمع الذي يعاني كثيراً في دولة كالسودان لا تعيش تجربةً سياسيةً ناضجةً ولا يعرف فيها أحد أماناً اقتصادياً أو وظيفياً.
ما يزال بعض السودانيين يرفض هذه الموجة، ولا يتقبلها بغض النظر عن انتشارها في جميع الأحياء.
ما يزال بعض السودانيين يرفض هذه الموجة، ولا يتقبلها بغض النظر عن انتشارها في جميع الأحياء، حيث رفضتها الأسر، وترفّع عنها المثقفون والنخب السودانية، وترفعت عنها أيضاً النساء والطالبات الجامعيات المتعلمات باستثناء قلّة منهن. وهذا الترفع ليس أمراً غريباً على السودانيين إذ إنهم مغالون وطماعون في تناول الموسيقى وحتى اليوم يستمعون إلى أغاني مثل "سوف يأتي" لمحمد الأمين والتي يزيد زمنها عن نصف الساعة، فما بالك بهذه الأغنيات التي تنتهي خلال دقيقتين وأحياناً يتم وصلها بالأغنية الجديدة، وقد حدثت العديد من المشادات والمشاجرات بسبب هذه الأغاني وسط الأحياء بسبب قبولها وعدمه.
أيضاً تُعدّ مغنيات الزنق ميسورات الحال جداً، ومحظوظات بحب كبير من محبيهنّ، فقد أهدى أحد المعجبين إحدى المغنيات سيارةً يتجاوز سعرها الـ100 ألف دولار، كما يضم جمهورهن سريعي الثراء من صائدي الجوائز والمنقّبين العشوائيين عن الذهب والذي يُعرفون محلياً بالـ"دهابة". يُعدّ العازف أيمن الربع، أحد أهم العازفين الذين رسخوا هذه الموجة وتوالت أسماء العازفين كالنيجيري وطاسو وغيرهما، كما أَطلقتْ المغنيات على أنفسهن ألقاباً أو أسماء تشتمل على أحيائهنّ السكنية أو مناطقهن كـ"عشة الجبل"، "أمل جبرة"، "منى ماروكو"، "نجاة غرزة"، وغيرها من الأسماء.
الزَنِقْ والدياسبورا
الشباب السوداني في المهجر ينقسم إلى قسمين من حيث الاستماع إلى الموسيقى؛ شباب أغاني الحنين إلى السودان، وشباب موسيقى الموجة الجديدة "الزنق". ومؤخراً، بعد تفشّي ثقافة المنصات "تيك توك" و"إنستغرام" وغيرهما، ظهرت شعبية إضافية لهذه الأغنيات، إذ أضاف أداء أشخاص آخرين لهذه الأغاني بعداً آخر حبّبها إلى جمهور أكبر، إلى درجة أن بعض التيكتوكر اشتهروا بأنهم أصحاب هذه الأغاني وعُرفوا أكثر من أصحابها الحقيقيين.
كما شمل هذا التغيير تقبّل بعض الفنانين السابقين لهذه الموسيقى، فمثلاً جمع عمل فني كأغنية "سلمك بارك فيك" لمغنيتها مها جعفر، وهي منتجة محتوى بصري على الوسائط الرقمية، تضمنت أغنيتها فقرة دلوكة نسائية، بفقرة لموسيقى زنق للعازف نيجيري، تحت عنوان "زَنَقَتْ" (أي وصلت إلى آخر حد!). وتعدّ هذه الأغنية تعريفيةً بالسودان واحتوت محاور عدة مثل الراب، الدلوكة، الرقص، والزنق.
الزَنِقْ يعبّر عن الشباب السوداني
اهتمام الشباب بهذه الموجة يسلّط الضوء على مواضيعهم التي تعبّر عنها الزنق، خصوصاً عبر أسلوب السخرية، حيث تتناول هذه الموجة عدداً من المواضيع منها الترابط الاجتماعي والكراهية والخيانة، و"المغارز" أو الاستفزاز، والدعوة للزواج من امرأة ثانية، ومغازلة تبييض البشرة والمباهاة بعدمه، والتبختر وغيرها من المواضيع التي تعبّر عن الكبت والخروج عن المألوف والغناء عن مواضيع لم تكن مطروحةً سابقاً، كوصف القبح في المرأة والرجل. وهذا بالطبع يجعل مواضيع هذه الموسيقى مواضيع الساعة وأسرع وتيرةً من الأغنية التقليدية، ومحفزةً أكثر على الرقص وأقل تكلّفاً.
يضم مجتمع الزَنِقْ بشكل أساسي أغلب أصحاب التعليم غير المكتمل وغير المتعلمين، ومشردي الشوارع، وتتألف مجتمعات الجماهير من فئات منبوذة اجتماعياً كفتيات الليل و"الحلوات" وهي المفردة التي تعادل Lady Boy
أعطت الزَنِقْ للهامش مكاناً كبيراً، أكبر من الهامش الحقيقي بكثير، فلكي نستطيع الدخول إلى حفلٍ ما لفنانات "الزنق" (القونات) -يُطلق على المغنية "قونة" وعلى المُغنّي "قون"- فعلينا أن ندفع مبلغاً رمزياً وضئيلاً للدخول، وبالإضافة إلى المتعة الموسيقية ستذكر الفنانة أسامي الأشخاص ومناطقهم وكل ما يُودّ منها ذكره على الميكروفون، وبهذا تعرِّف الزَنِقْ المستمعين بمناطق ما كانوا ليعرفوا بوجودها في السودان.
جمهور الزَنِقْ
يضم مجتمع الزَنِقْ بشكل أساسي أغلب أصحاب التعليم غير المكتمل وغير المتعلمين، ومشردي الشوارع، وتتألف مجتمعات الجماهير من فئات منبوذة اجتماعياً كفتيات الليل و"الحلوات" وهي المفردة التي تعادل Lady Boy. كما تشهد تمظهرات القعدات الموسيقية -وهي الجلسات الموسيقية غير الرسمية- تعاطياً شديداً للخمور والمخدرات، ويظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً الفيسبوك، عدد من المقاطع المصورة لتلك "القعدات".
تقوم فنانات الزَنِقْ بشكل أساسي بالغناء للعسكري السوداني بمختلف رتبه ومناطقه وثقافته، وبالرغم من كل ذلك يتعرضن لهجمات متكررة من الشرطة لعدم حصولهن على تصديقات للحفلات، وهو أمر مستحيل في ظل رفض اتحاد الفنانيين لعضويتهن. لجميع تلك الظروف يظل جمهور ذلك النوع من الموسيقى هو الجمهور الذي لا يرى أملاً في رؤية الواقع الاجتماعي بشكل واعٍ، ولكنه بشكل عام يظل جمهوراً وفياً ومخلصاً لهذه الموجة الجديدة التي تعاني من التضييق الكبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت