بشكل يفوق أي مرحلة سابقة، تتكرر في الآونة الأخيرة شكوى فنانين مصريين "البطالة" و"الحوجة (العوز المادي)" وأحياناً "جحود" رفقاء المهنة. البعض يتحدث عن غياب الفرص رغم قدرته على العمل، وبعض آخر يلوم تكالب الأمراض عليه، وبعض ثالث يتحدث عن رفض "الانحدار" وقبول أعمال غير لائقة و/ أو أجور هزيلة.
على اختلاف الأسباب والملابسات، تبقى الأزمة قائمة تبحث عن حلول بينما تتسع دائرتها لتلتهم بين الفينة والأخرى المزيد من الأسماء المعروفة والمقدّرة لدى الجمهور. في ما يلي بعض الأمثلة الحديثة على شكاوى البطالة في الوسط الفني المصري.
كريم الحسيني ورداءة المعروض
نهاية شباط/ فبراير 2022، تصدّر الفنان الشاب كريم الحسيني "الترند" بعد إعلانه تحويله سيارته الخاصة لمشروع تجاري لبيع المشروبات الساخنة على الطريق، ونشره مقطعاً مصوراً لقيامه بإعداد وبيع هذه المشروبات عبر حسابه في فيسبوك.
أوضح الفنان أنه غير منزعج إزاء اضطراره لعمل غير فني، مضيفاً "مش متضايق خالص، وعملت كدا عشان ملجأش للأفلام الشمال أو الأى كلام الموبوءة اللي بتتعرض عليا أو علينا عموماً ونقوم مضيينها وناخد عربون عشان نمشي البيت ونقدر نعيش".
ولفت الحسيني إلى أنه يعمل موظفاً في مسرح الدولة، ويُشارك في ورش التمثيل بانتظام، بجانب دراسته الجامعية، للاحتفاظ بعلاقته بالفن الذي يؤمن به.
"رفض الانحدار والأعمال غير اللائقة" و"ضعف الإنتاج الفني" و"نفض الدولة أيديها عنه" أسباب يسوقها ممثلون ونقاد لتفاقم أزمة "بطالة الفنانين" في #مصر. لكن هل من حلول عملية للحد منها؟
ابنة سامي العدل وعربة مأكولات دهب
بعد إعلان الحسيني، فاجأت الفنانة رشا العدل، ابنة الفنان الراحل سامي العدل، الجمهور بإعلانها عن مشروع عربة مأكولات متحركة في مدينة دهب السياحية في بث مباشر عبر صفحتها في فيسبوك.
كان الخبر صادماً أكثر من إعلان الحسيني، وأُثيرت تساؤلات عديدة عن شكوى سليلة عائلة من أكبر المشتغلين في الإنتاج الفني في مصر من عدم وجود فرصة للعمل في قطاع تمتلك عائلتها فيه باعاً طويلاً وعلاقات واستثمارات ضخمة.
ردت رشا على ذلك ضمنياً، بقولها إنها طلبت مراراً وتكراراً فرصة عمل من الكثير من "الأصدقاء المخرجين والمنتجين ومتحركوش عشان كل واحد حر… أنا سعيت وفشلت"، مشددةً على أنها لن تخاطر بكرامتها وتعاود الطلب ثانيةً.
وتابعت أنها لا تحاول إثارة ضجة بإعلانها ذلك، وإنما تبحث عن "لقمة حلال" سيّما أن "الشغل الشريف مهما كان مش عيب". علماً أنها أقرت بأن ما تفعله يرقى إلى درجة "التمرد" على أهلها وعائلتها، مردفةً "أنا مش بشتغل كتير، ومش بلقي اللوم على حد. أنا نقابية بقالي 20 سنة، والنقابة على عيني وراسي، وكل اللي بيطلعلي من النقابة هو الكارنيه والتأمين الصحي".
وختمت: "عايزة أقول إن سهل جداً آخد فلوس من أهلي، ومحدش هيتأخر عليا، بس أنا مش هستنى لحد ما أشحت أو أقول لله يا محسنين".
نجوى فؤاد و"أكل العيش"
ومنتصف آذار/ مارس 2022، شكت الراقصة والفنانة الاستعراضية نجوى فؤاد، في مداخلة هاتفية مع برنامج "حضرة المواطن" على قناة "الحدث اليوم"، عدم وجود أي عرض فني عليها طوال سبع سنوات، قائلةً: "عايزة أشتغل عشان آكل عيش لإني بصرف على نفسي وبيتي". علماً أنها أشارت إلى إصابتها بانزلاق غضروفي يعوق حركتها.
وبرّرت النجمة المخضرمة عدم تكوينها ثروة من عملها سابقاً بأن "أكبر أجر ليّا كان 20 ألف جنيه (نحو ألف دولار أمريكي بسعر اليوم) في فيلم خلطة فوزية، وأكبر أجر لي في الحفلات (الرقص) كان خمسة آلاف جنيهات (نحو 250 دولاراً بسعر اليوم)"، مردفةً "إحنا ما خدناش ملايين زي الجيل الحالي".
وزادت أن أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية، لم يسأل عنها نهائياً، ولا يعرف من أين تعيش، أو تنفق على علاجها ومعيشتها.
خالد زكي وشعور بالقهر على أبناء جيله
وفي تموز/ يوليو 2022، عبّر الفنان خالد زكي عن شعوره بالحزن والقهر على أحوال أبناء جيله من الفنانين الذين لم يحظوا -في اعتقاده- بأي تقدير أدبي أو معنوي أو مادي، مستنكراً تجاهل "الفنانين الكبار" سناً في الأعمال الفنية.
وشرح زكي، خلال استضافته في برنامج "ليالي ten" مع بوسي شلبي، أوجه معاناته مادياً وصحياً، شارحاً أنه اضطر إلى بيع سيارته عقب ثورة 25 يناير عام 2011، وأنه "لحد دلوقتي بركب عربية مراتي. مش قادر أجيب عربية. بفكر إن الفلوس اللي ممكن أجيب بيها عربية أقدر أصرفها في الأكل والالتزامات وبحس بقهر من جوايا على الأحوال المادية لجيلنا. مش عايز أموت مديون ومش معايا تمن العلاج".
وناشد: "يجب أن تكون هناك وقفة قوية لتقدير الفنانين من جيلنا حتى لا نموت ونحن مفلسون".
"مش هستنى لحد ما أشحت"... فنانون مصريون يتحولون إلى بيع المأكولات والمشروبات في الشارع، وسيارات الأجرة، لتفادي "النوم ع الرصيف"، ويشتكون: مفيش شغل ومعاش النقابة ميكفيش عشوة
شريف خير الله وخشية "النوم ع الرصيف"
مطلع هذا الشهر، قال الفنان شريف خير الله إنه يعاني ظروفاً مادية شديدة الصعوبة منذ أربعة أعوام بسبب نُدرة الأعمال المعروضة عليه عقب تعرضه لحادث سير تسبب له في نزيف بالمخ وغيبوبة وفقدان مؤقت للذاكرة.
أوضح خير الله أنه باع "كل ما يملك، بما في ذلك السيارة والمنزل" وبلغ الأمر أن تمنى الموت بعدما "حسيت أن أنا ممكن أنام ع الرصيف في يوم من الأيام". ولفت إلى أنه لم يتحدث عن ظروفه كثيراً خلال هذه السنوات بل لجأ إلى نقيب الفنانين أشرف زكي وشكا له تردي أوضاعه.
نعيم عيسى و10 سنين بدون عمل
وخلال لقائه مع الإعلامي عمرو الليثي عبر قناة الحياة، قبل أيام، كشف الفنان نعيم عيسى عن أنه منذ أكثر من 10 سنوات لم يعرض عليه عمل واحد، لافتاً إلى أن المعاش الذي يحصل عليه من نقابة المهن التمثيلية هو مصدر دخله الوحيد ولا يكفيه.
وأضاف أنه يلجأ إلى أبنائه في كثير من الأحيان، منبهاً إلى أنهم هم أيضاً "على المعاش"، عازياً ذلك إلى أن الفن "على أيامه" لم يكن مربحاً كما الآن، ومدللاً على ذلك بأنه يقيم في "شقة بالإيجار".
وزاد عيسى أنه حالياً يشعر بـ"حسرة كبيرة" و"ضيق" حين يفكر في ما انتهى إليه حاله. وبكى وهو يتساءل: "ليه زملائي مبيزورونيش ولا المخرجين؟".
سيف عبد الرحمن ومعاش "ميكفيش عشوة"
خلال استضافته في برنامج "من مصر" الذي يبث عبر قناة "سي بي سي"، أوضح الفنان سيف عبد الرحمن أن صحته جيدة ولديه القدرة على العمل لكن لا يعرف سبب عدم عرض أدوار عليه.
وأبرز عبد الرحمن أن "معاش النقابة 700 جنيه (أقل من 40 دولاراً أمريكياً) مبيكفيش عشوة. وفيه فنانين كبار أعرفهم باعوا عربياتهم"، وشدد على أنه "ما ينفعش خمسة ولا ستة بس في المجال اللي يشتغلوا" و"لا زم الدولة تهتم بينا".
كما لفت إلى أن العديد من الفنانين الكبار الذين يعرفهم اضطروا لبيع سياراتهم الخاصة أو تحويلها إلى سيارات أجرة لإيجاد مصدر دخل يلبي احتياجاتهم الأساسية.
وختم: "المفروض الناس (الفنانين) اللي بتاخد ملايين دي تدفع لزمايلها. فين الرحمة والزمالة؟".
محمود عامر و"وجع الكرامة"
والثلاثاء 16 آب/ أغسطس 2022، عبّر الفنان محمود عامر عن حزنه من إهمال المنتجين له وعدم عرض أدوار عليه، ما جعله عاطلاً عن العمل وأثّر عليه مادياً، هو وكثير من الفنانين الآخرين بينما "5 أو 6" آخرين هم المشاركون في جميع الأعمال، على حد قوله.
وخلال استضافته ببرنامج "بنت البلد" على قناة صدى البلد، خاطب المنتجين: "مصر بلدنا ونقابتنا مليانين فنانين عظام وأصعب شيء على الفنان ويقهر في نفسه إنه يكون عاطل".
وأضاف: "عزيزي المنتج: أنا بتمنى لك كل الخير، وبقول لك إنه فيه فنانين كتار أوي أوي موجوعين بالكرامة وعاوزين يشتغلوا لأنهم هيضيفوا للعمل. أرجوك فتش وهتلاقي كنوز كتير في مصر وربنا يوفقك".
في رأي الناقدة ماجدة خير الله، الفنانون العاطلون ملامون أيضاً على ما آلوا إليه بسبب عدم "تطوير موهبتهم، وإثبات حضورهم في الفعاليات الفنية، وإبقاء صلة الود مع زملاء المهنة والجمهور والتذكير بأعمالهم السابقة"
ضعف إنتاج درامي؟
في شرحه لأسباب استقالته من منصب وكيل نقابة المهن التمثيلية العام الماضي، اعتبر الفنان سامي مغاوري أن عدم تطبيق لائحة النقابة في ما يخص مشاركة النقابيين وغير النقابيين في الأعمال الفنية أحد أبرز أسباب بطالة الفنانين النقابيين.
وتتيح لائحة النقابة للمخرجين الاستعانة بـ10% فقط من غير أعضاء النقابة في الأعمال الفنية، تحت مسمى حماية حرية الإبداع والفكر، إلا إن المخرجين يتجاوزون تلك النسبة بشكل كبير، وتعجز النقابة عن التصرف حيال هذا التجاوز.
قال مغاوري آنذاك: "مشاكلنا لا يتم حلها، وهناك بطالة كثيرة بين الفنانين النقابيين، وكثير من شباب النقابة لا يعمل، وطالما لن أستطيع أن أصحح تلك الأخطاء لن أستكمل المهمة".
بدورها، أحالت الفنانة فردوس عبد الحميد "بطالة عدد كبير من الفنانين" إلى "ضعف الإنتاج الدرامي" في مقابلة سابقة مع وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية.
أما الناقد الفني أيمن نور الدين، فيرى أن "نفض الدولة أيديها من الإنتاج الفني" وتحوله إلى القطاع الخاص سبب رئيسي في تفشّي بطالة الفنانين، منبهاً إلى أن "الدولة كان عندها أجهزة وهيئات عديدة تقدّم إنتاج غزير يستوعب كل الفنانين والفنانات، بما في ذلك قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري وشركة صوت القاهرة ووزارة الثقافة ومسرح الدولة".
يضيف في تصريح لرصيف22: "لا نستطيع أن نلوم منتجاً خاصاً أنه لم يعتمد على فنانين بعينهم لأنه في الوقت نفسه يعتمد على فنانين مصريين نقابيين أو لديهم تصاريح عمل بالفن. ضعف الإنتاج الفني لا بد أن يكون له ضحايا وهذه ضريبة ابتعاد الدولة عن الإنتاج".
العاطلون ملامون على "التكلّس" و"الانزواء"
في حديث مع رصيف22، تقول الناقدة الفنية ماجدة خير الله إن العوامل التي تتسبب في بطالة الفنانين ليست دائماً خارجية وإنما يمكن إلقاء اللوم عليهم في بعض الأمور سيّما "التكلّس - التوقف عن مجاراة الزمن والوسط وتطوير الموهبة"، والتوقف عن الانخراط مع الزملاء والمخرجين والمنتجين.
وتشرح: "المهن كما أي مهنة أخرى تتطلب تنمية مستمرة للموهبة فلا يعود الفنان مؤهلاً بالقدر الكافي لسوق العمل. كذلك هناك الشخصيات العزوفة والمنزوية عن الظهور العلني في الندوات والمؤتمرات والمهرجانات وعروض الأفلام وحتى ورش التمثيل وعبر السوشال ميديا والمناسبات الاجتماعية للفنانين، فكيف يتذكرهم المنتجون والمخرجون؟".
الحل يبدأ من الفنانين المتعطلين أنفسهم بـ"تطوير موهبتهم، وإثبات حضورهم في الأحداث الفنية، وإبقاء علاقة الود مع زملاء الوسط بالابتعاد عن الانتقادات المسيئة، والحفاظ على تواصل دائم مع الجمهور عبر السوشال ميديا وتذكيرهم بأعمالهم السابقة الناجحة".
تلتمس ماجدة العذر للمنتجين والمخرجين في عدم الاستعانة ببعض الفنانين الكبار، موضحةً "على الفنان أن يحضر الفعاليات المرتبطة بالفنانين حتى يراه المنتجون والمخرجون ويتأكدوا أنه قادر صحياً على التمثيل وذهنياً على الحفظ والأداء. من الطبيعي أن يبتعدوا عن اختيار فنان مسن خشية تعرضه لسوء خلال التصوير والمخاطرة بهدر مبالغ التصوير الضخمة علاوة على الوقت والجهد".
وتبدي دهشتها من التصريحات المزعجة واللاذعة التي يطلقها فنانون قدامى على الأعمال الفنية في الفترة الحالية وشكواهم من عدم الاستعانة بها لاحقاً. "لما تقول إني سبب انهيار الأخلاق، أجيبك ليه؟ الرزق محتاجك تكون لطيف بدون أي نفاق. مطلوب فقط أن تقي الناس شر لسانك"، تقول.
وتستنكر ماجدة "نغمة إشمعنى خمسة ستة اللي شغالين" التي يرددها فنانون متعطلون، لافتةً إلى أن الكثيرين منهم كانوا يشاركون في العديد من الأعمال في الموسم الواحد بينما غيرهم لا يعملون، معتبرةً أن هذا "رزق" و"شطارة" من الفنان في تسويق نفسه.
حلول مقترحة يمكن البناء عليها
وترفض ماجدة مطالبة المنتجين والمخرجين بإشراك الفنانين العاطلين، قائلةً "الفن مش كده… مش كوتة". واعتبرت أن الحل يبدأ من الفنانين المتعطلين أنفسهم بـ"تطوير موهبتهم، وإثبات حضورهم في الأحداث الفنية، وإبقاء علاقة الود مع زملاء الوسط بالابتعاد عن الانتقادات المسيئة، والحفاظ على تواصل دائم مع الجمهور عبر السوشال ميديا وتذكيرهم بأعمالهم السابقة الناجحة".
وتحث الناقدة الفتية نقابة المهن التمثيلية على زيادة معاشات الفنانين بما يكفل لهم حياة كريمة بعيداً عن "أسلوب التسوّل وتقديم المساعدات المؤقتة". علماً أنها أكدت أن "النقابة فلوسها قليلة بس دا طول عمرها"، نافيةً أن يكون المعاش القليل سبباً في شكوى الفنانين أخيراً بضيق الحال.
ويعتقد أيمن نور الدين أن عودة الدولة إلى الإنتاج الفني تدريجياً، وإنتاج المزيد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، من شأنه أن يُحسّن الوضع ويمنح فرصاً أكبر للفنانين الحاليين والسابقين على السواء.
وكانت فردوس عبد الحميد قد اقترحت "الدراما القصيرة" -أي أعمال درامية بين خمس و 10 حلقات فقط- حلاً لاستيعاب العدد الكبير من الفنانين الذين يعانون قلة أو انعدام فرص العمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...