شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"يا اسطى، حرف الباء تحته كم نقطة؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 12 مايو 202311:00 ص

"يا اسطى، حرف الباء تحته كم نقطة؟"

استمع-ـي إلى المقال هنا

في سيارة الأجرة في القاهرة، أخذنا نقاش حول إملاء اللغة العربية، وما أصبح شائعاً من "ابتكارات" أو "تقاليع" إضافة إشارات ونقاط للحروف العربية، كي يلاقي منطوقُها منطوقَ حرف إنجليزي أو فرنسي أو سواهما، كأن تضاف لحرف الباء نقطتان فيلاقي في نطقه حرف P في الإنجليزية، أو أن تضاف نقطتان أخريان لحرف الجيم، حتى يُعَطّش أو يفرنَس، وما إلى ذلك من "حركات" في اختراع حروف غير موجودة أصلاً، لكي تلاقي في نطقها حروف لغات أخرى.

كان لصاحبتيَّ رأي يمكن القول إنه يتراوح ما بين المتسامح والمرحّب بهذه الظاهرة، وكان لي رأي آخر. اشتدّ بيننا النقاش واحتدّ، حتى شعر سائق سيارة الأجرة أن زبوناته الثلاث ربما يعانين من خلل ما، إذ تتعاركن حول النقاط فوق الفاء وأسفل الباء. ولم يسلم السائق من الأمر، لأنني استنجدتُ به في عزّ النقاش: "يا اسطى، حرف الباء تحته كم نقطة؟"، فأجابني مقدراً لي إشراكه في القضية: "نقطة واحدة يا أستاذة"، فما كان مني إلا أن التفت إلى محدثتيّ مكرّرة: "نقطة واحدة يا أستاذة"، ثم واصلت معجبة بالحلف الذي بنيته للتو بيني وبين السائق: "يا اسطى، عمرك سمعت عن حرف باء تحته ثلاث نقاط؟"، أجابني: "لا. لا يا أستاذة"، فالتفتّ إلى الجالسات في المقعد الخلفي المبتسمات من سياستي هذه، لأكرّر بأريحية الواثق: "لا. لا يا أستاذة".

حول إملاء اللغة العربية، وما أصبح شائعاً من "ابتكارات" أو "تقاليع" إضافة إشارات ونقاط للحروف العربية، كي يلاقي منطوقُها منطوقَ حرف إنجليزي أو فرنسي أو سواهما

يمكنني، عبر ملاحظتي الشخصية، تتبع بوادر الظاهرة وإعادتها إلى بداية انتشار التدوين الحرّ عبر منصات التواصل الاجتماعي والمدوّنات الشخصية والرسائل النصيّة، التي لا تخضع الكتابة فيها، لا لقواعد إملاء ولا نحو ولا لأي مراجعة. الكتابة عبر الوسائط الإلكترونية بدأت بدون خيار الحرف العربي أصلاً، فالتفّ المستخدم العربي على الأمر باستخدام الحرف اللاتيني والأرقام، ثم بالخلط بينهما، مروراً بتوفير خيار الحرف العربي وتعريب واجهات المواقع والتطبيقات، وانتهاءً بما صرنا إليه من ابتكار حروف جديدة، حتى تتمكن هذه الحروف من مجاراة الموجات والصرعات التي تستجد، تنتشر ثم تنحسر في غضون أيام.

لماذا نشعر نحن دون سوانا من الأمم، أننا بحاجة إلى تعديل لغتنا كي تنطق حروف الغير؟

كيف وصلت هذه اللغة إلى الكتب والمقالات والحسابات الرسميّة؟ لا أدري. لكنني أميل إلى تحميل عدد من المترجمين العرب جزءاً المسؤولية، إذ يجتهدون بشكل فردي ويخترعون هذه الحروف لجعل شغلهم أقرب لما يعتقدونه الأصوب في نطق اللغات الغربية غالباً.

السؤال الأهم برأيي: لماذا نشعر نحن دون سوانا من الأمم، أننا بحاجة إلى تعديل لغتنا كي تنطق حروف الغير؟ لما لا يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون هذا لكي ينطقوا حرف الحاء في اسم محمد الشائع جداً الآن في بلادهم؟ لماذا مثلاً، لا يضعون شرطة أو نقطة فوق حرف الـ H كي يفهم القارئ أن المذكور محمّد وليس مهمّد؟ لا أحد يفعل هذا سوانا. والأدهى أننا نفعل هذا حسب المزاج، بمعنى أن لا ضابط ولا هيئة ما تراجع هذه الحروف لنفهم إن كانت عربية أو لا. كيف تسربت هذه اللغة من مواقع التواصل إلى الكتب، والكتب التي حسب تقديري صادرة عن دور نشر محترمة ومقدرة؟

أعيش في أوروبا منذ سنوات، ولا أرى لديهم حاجة لتغيير حروفهم من أجل أن تستوعب اسمي أو اسم غيري، ولا حتى خجلاً من عدم قدرتهم في الغالب على نطق حروف مثل العين والحاء والظاء والقاف وسواها. لا شعور بالعار أو الخجل كما قد يحدث لدينا إن ارتبك أحدنا في نطق أو كتابة حرف أو كلمة غير عربية. إنه ببساطة موقعنا من الحضارة، أو ما نعتقد نحن أنه موقعنا منها.

في حالتنا البائسة، ما يقال بالإنجليزية يعدّ، بمجرد قوله بالإنجليزية، كلاماً كبيراً وهاماً بالضرورة، ذلك أن الحضارة تميل بكفّتها الآن نحو الغرب

إن هذا، على عكس ما يظن البعض، ليس صدفة ولا نتاج فوضى أو قلّة وضوح في المعايير وحسب، وإنما انعكاس لموقعنا كعرب وكمتحدثي اللغة العربية من الحضارة ومن إنتاج المعرفة، ومن رؤيتنا لأنفسنا. إن الجواب يكمن في ثنائية تسمى في علم اجتماع اللغة بثنائية اللغة والقوة language and power، ويجادل عرّابوها أن اللغة ليست حاملاً بريئاً للمعنى، إنها فاعل أيضاً.

في ثنائية اللغة والقوة عدّة نواحي، من بينها تراتبيّة اللغات واللهجات. بمعنى، أن ما يقال بالفصحى مثلا ينال اعتباراً أكثر مما يقال بالعاميّة، وما يقال بلهجة المدينة يعتبر أكثر تحضّراً مما يقال بلهجة أهل القرية. وفي حالتنا البائسة، ما يقال بالإنجليزية يعدّ، بمجرد قوله بالإنجليزية، كلاماً كبيراً وهاماً بالضرورة، ذلك أن الحضارة تميل بكفّتها الآن نحو الغرب، والمعرفة والتكنولوجيا منذ عقود تُنتَج وتنقل عبر اللغة الإنجليزية، ما منح هذه اللغة قوة وتفوّقاً، بمعزل عن المعنى الذي تحمله، ووضع متحدّثي اللغة العربية في تحدٍ، إما بتعريب كل المصطلحات القادمة أو نقلها كما هي. وأياً كان ما انتهت وتنتهي إليه خياراتنا، لا أظن أبداً أن ليَّ ذراع لغتنا هو الخيار الاستراتيجي النابه والناجح. وإلا فإن العربية ستصبح علكة مطواعة للمتفوّق من الحضارات. وبهذا المعنى، سيكون علينا أيضاً أن ندعو المترجمين واللغويين العرب للاستعجال بعمل تنقيط وتشريط جديد للعربية، استعداداً لمجاراة لغة التنين الصيني القادم، وهكذا!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image