رأت أمي علبة سجائري، وكانت المرة الثالثة التي تكتشف فيها أن ابنتها تخبئ علبة سجائر في حقيبتها، وبما أن "التالتة تابتة"، أصدرت أمي قراراً بمنعي من الذهاب للمسرح والسينما والذي منه، وأنه باب وتم إغلاقه، و"انسي النقد، فنحن لم نرى من عملك كناقدة أي شيء يستحق الاستمرار".
لم تفكر (م) أن ابنتها ستشرب سجائر يوماً، بعد أن كانت نفس الابنة التي تقنع الأب بالإقلاع عنها ولا تطيق رائحة سجائره، مع العلم أنني إلى الآن رغم شربي للسجائر وبنائي علاقة معها وهي علاقة "محبة بعد عداوة"، ما زلت أكره رائحة سجائر أبي، وأكره سجائر كليوباترا في العموم، بل أكره حتى رائحة جسده وأنفاسه.
بالطبع أذكر أول سيجارة وكيف كنت أستفسر قبلها عن تأثير السجائر والسبب الذي يجعل من يشربها يتمسك بها، ويصعب عليه الإقلاع عنها. لم يصل بحثي لأي إجابات وقرّرت أن أجرب بنفسي، وقتها لم أشعر بشيء لأني لجأت لمن ظننته صديق كي نجربها سوياً، واتضح أنه قرّر أن يخبرني بحبه.
وقع المفاجأة لم يجعلني أركز مع السيجارة التي بيدي، وهو يخبرني بجملة "ما زلت أحبك رغم قمعي لهذا الحب". بعدها لم أفكر أن أجرب مرة أخرى، ثم مرّ سنة والثانية على هذه التجربة وتجارب أخرى في حياتي، تجارب جعلتني أقرّر أنني بعد انتهاء عملي الذي كان بوسط البلد، سأقف عند الكشك وأشتري علبة سجائر، وأصعد بها إلى صديقتي في مكان عملها بوسط البلد أيضاً. شربنا السجائر و أعتقد رقصنا بما أن المكتب فارغ ليس من البشر فقط بل حتى من الكاميرات .
لماذا تكون رغبة البيت كله أن يقلع أبي (الرجل) عن السجائر والسبب هو الخوف على صحته وصحة من بالمنزل، ولماذا حين يأتي الموضوع لي (الابنة/الست) يكون السبب هو صورتي أمام الناس؟
من بعدها كان قرار استمراري مع السجائر لأجل غير مسمى واضحاً، ولا يحتاج لنقاش بيني وبين نفسي، ولكنه إلى الآن يحتاج، ليس نقاشات مع أهلي وإنما صراعات، فنشأة أمي الصعيدية جعلتها تظن أن كل امرأة ممسكة بسيجارة في يدها هي "ست مش كويسة".
ليس ذنبها أن تربيتها والبيئة التي نشأت بها جعلتها تفكر على هذا النحو، وليس ذنبي أنني أصارع بين ما ترغب أمي تربيتي عليه، وبين ما أريده وأقتنع به وأرى أني حرّة لاختياره، بل بالأساس لم أكن أفهم لماذا أخبئ سجائري وأخشى أن تراها أمي، ولماذا أمي تفتش حقيبتي؟ أين الخصوصية؟ ولماذا أسباب أمي لرفضها الموضوع تتلخص في صورتي أمام المجتمع وأمام الرجال؟ لماذا لم يكن الخوف على صحتي كرّد فعل لأم طبيعية؟
لماذا تكون رغبة البيت كله أن يقلع أبي (الرجل) عن السجائر والسبب هو الخوف على صحته وصحة من بالمنزل، ولماذا حين يأتي الموضوع لي (الابنة/الست) يكون السبب هو صورتي أمام الناس؟
أسئلة كثيرة لا أجد لها إجابات، كالعادة.
أكثر ما يحزنني، ليس عدم فهمي لتحولي من موقف لنقيضه تماماً، وإنما أصبحت مثل أي حد سألته عن سبب التعلق بالسجائر ولم يستطع أن يعطيني إجابة مفهومة، أصبحت أمام (م) هكذا، لا أجد إجابة توضح لها السبب، ولكن هنا بين السطور والأحرف ومساحتي الخاصة التي لن تستطيع هي أن تفتشها، أستطيع الإجابة.
سجائري من كانت معي في ساعة روقان وأنا وحيدة بالمنزل وقرّرت الكتابة، فكانت خير رفيق/ة، وهي من كانت معي في أحد المرات التي هاجمني فيها ضيق التنفس أو ما يسمونه الـ panic attack ، وقرّرت أن أتحايل وأجرب شرب سيجارة، واتضح أنها مفيدة في هذا الموقف. وهي من كانت معي حين كنت أضيق ذرعاً بأي عمل لا يشبهني، وألجأ له فقط لكسب المال، وهي من كانت معي حين لم يكن هناك أحد، وهو حسب أفكار (م) تفكير جرئ وخاطئ، وأعتقد أنه إذا كنت أشرب السجائر في الخفاء تماماً ما كانت ستمانع.
أعتقد أنني لا أكتب عن سجائري ليس لسبب رومانسي وهو افتقادها، وإنما هو ضيقي وتعبير عن غيابها، أو فضفضة إلى أن أجتمع بها مرة أخرى، وهنا لا أتحدث عن اجتماعي بسجائري فقط وإنما حريتي أيضاً.
نشأة أمي الصعيدية جعلتها تظن أن كل امرأة ممسكة بسيجارة في يدها هي "ست مش كويسة"
الاجتماع بسجائري حتى ولو في الخباء بعيداً عن عيون وعقل (م) البريء ذاك، أسهل من الاجتماع بحريتي التي خلقني بها الله، يخلقنا هو ومعنا بطاقة غير مرئية مكتوب عليها "أنت حر"، ولكننا كبشر استكثرنا هذه الحرية على أنفسنا، ظللنا نتصنع ونرتدي أقنعة ونخفي فطرة، ونرسم قيوداً تحت مسمى عادات وتقاليد أو حتى الأصول، كما كانت أم نوال تخبر نوال طوال رواية "الباب المفتوح"، وهي رواية تحولت لفيلم سينمائي بطولة فاتن حمامة، وهو من أهم الأفلام التي أعطت المرأة حرية الرأي والتفكير والاختيار.
كتابتي عن السجائر هي كتابة بوعي كامل عن أضرارها وتأثيرها، لست غافلة أو حتى مغفلة، ولكني حرة اختار وجودها أو عدمه، اختار إنهاء علاقتي بها الآن أو فيما بعد أو حتى عدم إنهائها قبل انتهاء حياتي نفسها، وبما أني حرة ولم أختر أن أفتقد السجائر هذه الفترة من حياتي، وبما أن هذا النص كتبته على مرحلتين، فاليوم أنهيه وأنا محتضنة علبة سجائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون