شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
فستانٌ ناطقٌ بثلاث لغات

فستانٌ ناطقٌ بثلاث لغات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 14 مايو 202312:01 م

لم تنجحي في منع نفسك من شرائها. لم يكن أمامك خيار آخر: من بين جميع النساء اللّاتي مررن بالبسطة التي تفتتح سوق باب الفلّة، من جانبه الأيسر المخصّص للملابس المستعملة (الفْريب)، كنت الوحيدة التي نادت عليها تلك القطعة الأخّاذة.

فستان من الجينز لا يتجاوز حجمه كفّي اليدين طولاً وعرضاً. ياقته منحنية كغيمة صغيرة، وفي طرفها الأيسر كتب بخيط ذهبيّ رقيق باللغة الإنجليزية "Little". أخذته بلهفة بين يديك ليطالعك رقم تسعة ساخراً من محاولتك اليائسة إقناع نفسك أنّك أردته لإحدى صغيرتي العائلة اللتين جاوزتا الثلاث سنوات.

هممت بإرجاعه في الحال، لكنّك شعرت بثقل يديك (كان قلبك في الحقيقة متثاقلاً). نظرت نظرةً خاطفةً لصديقتك التي تقف حذوك، وفكّرت لوهلة فيما يمكن أن تفكّر فيه، حتّى كدت تسمعينها تقول "مجنونة"، لكنّك حسمت أمرك فجأة، وقلت لها بحماس يخفي استجداءً مسكيناً لبعض التفهّم: "سآخذه. لقد وقعت في غرامه". ابتسمت ابتسامة وديعةً وقالت: "خذيه. سيكون جميلاً أن تلبسا يوماً ما قطعاً متشابهة".

تزامن ارتداء النساء الجينز مع تثبيت موقعهنّ في الفضاء العامّ كمواطنات عاملات منتجات فاعلات، وهو ما يجعله شاهداً على نقلة تاريخية في حياة النّساء

سعدت كثيراً بتعليقها وأحببتها أكثر. هي أيضاً انتبهت إذن إلى أنّ الفستان كان ليليق كثيراً بطفلتك. تحبّين تنسيق قطع الجينز قبل أن تسترجع مؤخراً مكانتها ضمن صيحات الموضة، والحقيقة أنّ الأمر يتجاوز كونها أنيقة ومريحة في الوقت ذاته إلى شعور فريد بالانتماء والتشابه.

مساوية لا تابعة

ليس من قبيل المبالغة القول إنّ الجينز موقف لصالح المساواة. ارتبط ظهوره تاريخياً بالرجال الكادحين العاملين في المناجم، ومن ثمّ برعاة البقر، كما استخدم في مدينة جنوة الإيطالية، موطن نشأته، في أزياء العسكر. كلّ ذلك قبل أن يصبح للنساء نصيب منه. تزامن ارتداء النساء الجينز مع تثبيت موقعهنّ في الفضاء العامّ كمواطنات عاملات منتجات فاعلات، وهو ما يجعله شاهداً على نقلة تاريخية في حياة النّساء.

يعني لنا العمل، لجلّنا غالباً، أكثر بكثير من مجرّد نقطة إضافيّة تجمّل صورتك في المجتمع وتصادق على نجاحك. العمل يمنحنا هويّة أخرى، ذلك أنّنا نولد من جديد عندما نكون مسؤولات عن أنفسنا (وأفراد آخرين غيرنا) وعن مصاريفنا وعن أحلامنا، إذ نشعر للمرّة الأولى أنّنا نمسك حياتنا بين أيدينا، وبأنّ زمام العربة التي تطوي بنا الأيام والسنين صار أخيراً معنا. نولد من جديد بالفعل، إذْ نصوغ بعدها أحلاماً جديدة وتمثّلات جديدة وانتظارات جديدة من الحياة والعائلة والأصدقاء والحبّ.

ولم يكتف الجينز أنّه شاهد على هذه الولادة الجديدة، بل كان أيضاً حليفاً جيّداً، فبفضله صارت حركة النساء أكثر حريّة، فلا خشية عليه من المطر الذي يبلّل الأقمشة الرقيقة ويجعلها تلتصق بأجسادهنّ، ولا من الرياح التي تعصف بالفساتين والتنانير المنسدلة يميناً ويساراً، ولأنّ حركتهنّ صارت أكثر حريّة، ركضن بسرعة كبيرة حتى ينجحن في طيّ مسافات طويلة من التمييز والقيود والتشكيك، وتعيّن عليهن أن يفعلن كلّ ذلك دون أن ينسين للحظة أنّهن نساء، وأنّهن ممتنّات لأنهنّ كذلك.

وذلك هو ما يختزل قصّة النساء مع الجينز: عندما تلبس السيدات الجينز مع حذاء بكعب أو حزام على الخصر، وعندما تلبسه الفتيات الصغيرات مع أربطة ملوّنة على الشعر أو أحذية لامعة، يتحوّل إلى قطعة ناطقة، تقول أشياء وأشياء.

انحياز للعدالة المفقودة

الجينز هو القطعة التي تذكّر العالم بأنّنا جميعاً بشر متشابهون ولو في ظلّ اختلافاتنا، وأنّه يحقّ لنا، رغمها، أن يكون لنا نفاذ متساوٍ لملذّات الحياة وجمالها وصيحاتها. فقطع الجينز تكاد تكون القطعة الوحيدة التي في استطاعة كلّ شخص أن يمتلك منها دون أن تقول الكثير عمّا تملكه أو لا تملكه. في جيبها الخلفيّ الصغير الذي ميّز تصميم ليفيز -وهي العلامة الأشهر التي تجمع اسمي ليفي و دافيز اللذين سجّلا براءة اختراع سراويل الجينز- يمكن أن توضع هناك بلامبالاة بضع ورقات نقديّة تساوي أسابيع عمل شاقّ ومضن، أو أن يكون فيها عدد من القطع النقدية التي قد لا تكفي لركوب المترو أو الحافلة.

مهما خمدت الثورات، وخفتت الشعارات، وسكنت الدماء في العروق، و"تدجّنت السكاكين للمطبخ"، من غير الانصاف أن نلوم الكادحين والمستغلّين والمنتهكين لأنّهم تعبوا

ومع أنّ أنواع الجينز تختلف وتختلف معها أسعارها التي قد تكون مشطّة أحياناً، لكنّك تنجح بصعوبة شديدة في تفريقها عن بعضها، على خلاف ما هو عليه الأمر بالنسبة للأحذية والحقائب والقمصان التي تكشف - غالباً- العالم الذي ننتمي إليه ( إذ إنّ طبقتنا الاجتماعية هي عالم مواز داخل العالم الذي نعيش فيه). لذلك فالجينز يكاد يكون الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة، والصرخة العابرة لجدار الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والقطعة الساخرة من زيف المربعات التي تحشرنا داخلها الرأسمالية بناء على استجابة قدراتنا الاستهلاكية لمغرياتها.

الجينز انحياز للعدالة المفقودة، ووعي بأنّها مادامت منشودةً فهي ممكنة.

خامة مقاومة

صادفني ذات يوم مقال يحتفي باليوم العالمي للجينز، وقد اكتشفت من خلاله معلومات ظننت، آنذاك، أنها غير ذات أهميّة حول طريقة تصنيع الجينز، إذ يمرّ هذا القماش العجيب بأكثر من مرحلة، يتعرّض خلالها لموادّ سائلة، ويتمّ تجفيفه مرّات متتالية بهدف جعله سميكاً وقوياً بالشكل الكافي الذي يجعله يقاوم.

يقاوم ماذا؟ الاحتكاك والموادّ الخشنة والصلبة والبرد والحرارة... حتى إنّه استعمل في فترة ما في صناعة أشرعة السفن وأغطية العربات التي تجرّها الأحصنة حمايةً لها ولراكبيها من العواصف والثلوج، ما يميّز الجينز إذن إنه خامة فريدة مقاومة.

عندما تلبس السيدات الجينز مع حذاء بكعب أو حزام على الخصر، وعندما تلبسه الفتيات الصغيرات مع أربطة ملوّنة على الشعر أو أحذية لامعة، يتحوّل إلى قطعة ناطقة، تقول أشياء وأشياء

تحوّلت هذه المعلومات التي مررت عليها بصورة عابرة إلى أمر لافت بشكل لا يصدّق حالما التقيت فستان الجينز الصغير، واستجبت لفضولي، فسألت الشيخ جوجل أكثر عن هذه الخامة فكنت أزداد في كلّ مرّة إعجاباً بها ووعياً بدوافع انجذابي السحري نحوها.

الجينز يتعرّض لكلّ ما يمكن أن يدمّر خامات أخرى فتتحسّن، على خلافها، جودته. هذه خامة معجونة من الصبر والمتانة والمقاومة، وهي تشبهنا، نحن شعوب الجنوب الذين تعرّضنا، ولازلنا، لشتّى المحن بهدف إخضاعنا وإذلالنا واستغلالنا، لكنّ كلّ ذلك لم يزدنا سوى تصميماً على المقاومة.

مهما خمدت الثورات، وخفتت الشعارات، وسكنت الدماء في العروق، و"تدجّنت السكاكين للمطبخ"، من غير الانصاف أن نلوم الكادحين والمستغلّين والمنتهكين لأنّهم تعبوا. التاريخ يقول إنّهم احتاجوا دوماً لاستراحة يستأنفون بعدها النضال بتصميم أكبر، فالمقاومة حيّة حيثما وجد الظلم والقهر وإن بدا غير ذلك.

لكلّ ذلك وقعت في غرام فستان الجينز الصغير. رأيت صغيرتي فيه تستعجل الوقت لتكبر، ولتتكلّم دون خوف، وتنتج دون كسل، وتقاوم دون خضوع، وتتحرّك دون توقّف دفاعاً عن المساواة والعدالة وتأكيداً على جدوى المقاومة. كيف يمكن أن تقول قطعة الجينز كلّ ذلك؟ خيّل لي حتّى أنّني قد سمعتها تقوله بالفعل.

لو يعلم الفستان الذي ينام على رفّ المكتب ما جعلني أفكّر فيه لاختال وفرح كثيراً، إذ تحوّل من مجرّد قطعة عاديّة تائهة وسط عشرات القطع المهملة إلى شريحة سعادة، فحلم، فمشروع. لو علمت طفلتي كلّ الأشياء التي خطرت ببالي عندما اشتريت الفستان الصغير، لخافت. أخجلني ذلك.

غداً أغسل الفستان الصغير وأستمتع بمنظره على حبل الغسيل، ثمّ أخبّئه دون أن أفكّر أكثر. في زيارتي القادمة لباب الفلّة، سأحرص على أن أكون أقلّ شاعريّةً، فشاعريّتي ضيّعت عليّ، لا شكّ، فرصة صيد قطع ثمينة أخرى يومها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image