شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل تعرف أنك تشبه غارسيا ماركيز يا عدنان؟

هل تعرف أنك تشبه غارسيا ماركيز يا عدنان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كلّما أتى إلى الأهواز كان يقول: "لن آتي ثانيةً، لقد تعبت. يا ناس! لا جديد تحت هذه السماء، لا جلسات نقدية ولا مسرح ولا موسيقى، لا شيء... خواء خواء".

اتصلت ذات مرة "سهام (زوجته) وقالت: "قد سئم البيتَ، تعال أخرجه منه". حددتُ معه موعداً لعصر ذلك اليوم. ركبنا السيارة واتجهنا إلى مدينة "ملا ثاني"، القريبة من الأهواز. في الطريق وكما هي عادته، أورق حديثه كشجرة؛ قال: "فرق الغربيين عنا هو أنهم ليسوا متعصبين لأي شيء. لا تعصب وطني، ولا عرقي، ولا غيره. إنهم أُناس على طبيعتهم. الأساس عندهم هي الحياة".

نظرتُ إليه بطرف عيني، وقلت: "عدنان، هل تعرف أنك تشبه غابريال غارسيا ماركز؟" أجاب مازحاً: "نعم قالها كُثر، بالطبع إضافة إلى التشابه الخَلقي ثمة تشابه آخر، كلانا تعلّم سرد القصص من جدّته"

قال عدنان: "في الأيام الأولى لي في هولندا اعتمدت على كلّ ما يخطر على البال من أجل الدفاع عن بلدي، حتى أنني توسلت بالكذب. كنت ألصق أموراً غير حقيقية بشعبي وبلدي لكي لا نظهر متأخرين عن ركبهم". أكمل بنصف ابتسامة: "في ما بعد عرفت أنه عمل أحمق. ليس ثمة حاجة لكي يعتمد الإنسان على مثل هذه الأساليب. اللافت في الأمر أنهم حين يسمعون أنّ شعب الدولة الفلانية لديه ثقافة خاصة في أمر ما، يتقبلون الأمر، بل ويتحدثون عنه. لم أر موقفاً سلبياً منهم ليتعصبوا ويظهروا ردّة فعل بأننا أفضل من الآخرين بما نملكه. يا عزيزي، ولأريحك من الأمر أقول لك إن مثل هذه العصبيات توجد في العالم الثالث. هو أمر يقوم به الشعب المتخلف ليلصق بنفسه أموراً لا يملكها".

نظرتُ إليه بطرف عيني، وقلت: "عدنان، هل تعرف أنك تشبه غابريال غارسيا ماركز؟".

أجاب مازحاً: "نعم قالها كُثر. بالطبع إضافة إلى التشابه الخَلقي ثمة تشابه آخر، كلانا تعلّم سرد القصص من جدّته".

مررنا بجانب حقول القمح التي كانت عمّدتها أولى أمطار الخريف وزادت من لمعان خضرتها. عبّر عدنان عما كان يجول بداخله لحظتها. قلت له: "أين هذه الحشائش من جمال طبيعة هولندا؟". قال: "لا تقل ذلك. المكان هنا أيضاً له جماله". ذكّرته بشعره: "أنا لا تاريخ لي في هذه الجغرافيا". هزّ رأسه وقال: "بالطبع يجب ألا ننسى أنهم شعب طيب وعطوف. حين تنظر إلى نفسك في تلك الجغرافيا الجميلة والمبهرة، تتحسر وتقول: لماذا أرضي وموطني ليس كذلك؟! لماذا انحنت ظهور الناس تحت كلّ هذه الأعباء والمشاكل، ولا يحصلون على أقل ما يحتاجه المرء في الحياة؟!".

أذكر حين وقفنا خلف إشارة المرور الحمراء ورأى لأول مرة يافعين يبيعون المحارم الورقية والمناشف، سأل: ماذا يفعلون؟ وحين عرف وضعهم قال: إذا الحكومة لم تستطع تأمين حياتهم فما الفائدة من وجودها؟


قطعنا طريق حقول القمح المحاذية لنهر كارون، وعبرنا من بين أشجار نخيل ضربها الجفاف والغبار، وهو الذي كان قد وصفه أحد الكتاب الأهوازيين بـ"عابد النخيل" لم يحتمل النظر في المشهد.

- هل أصبح مصير نخيل مدينة المحمرة كما حدث لهذا النخيل؟

- يظهر أن البعض قد اتخذ قرار التخلص من النخيل. نعم مصير نخيل مسقط رأسك ومدينتك الحبيبة ليس أفضل من هذا.

عرّجت على "أمّ النخيل"، القصة التي قال عنها عدنان بأنه لم يعد إلى كتابة القصة القصيرة بعدها. طلب مني أن أرفع صوت الموسيقى في السيارة، عسى أن يخفي الرعشة في صوته. بعد لحظة تأمل قال: "أمّ النخيل خففت عليّ من أيام السجن الصعبة. في تلك الأيام لم أنتبه لمرور الزمن الصعب. دفعني الزمن إلى خوض عالم السياسة في مدينة عبادان وبرفقة أصدقاء. كتبتُ القصة في أسبوع واحد، وفي أحد الأيام حين زارتني أمّي، سلمتها القصة لتخرجها معها. أعتقد أن الأمر حدث عام 1969. عشنا الكثير من السنوات وكأنها ألف سنة. ألا يكفي ما عشناه في هذه الحياة؟".


مجموعة شعرية لعدنان غُرَيفي

برغم أنه نسي بعض ذكرياته أو أن مزاجه لم يعد يسمح له بالعودة إليها، إلا أنه في استعادة تفاصيل هذه القصة لم ينس جزءاً صغيراً منها. قال إن "أمّ النخيل" هي ذاتها أمّ العائلة، كلاهما في انتظار حدث مهول. وإن لم يتضح في القصة ولا يُصرح به، ولكن هناك تماهٍ في القصة عندما تكون الأم تبحث في السلّة عن ثياب لتهديها لِعطية ولا تجدها، تسمع صوت انكسار. قال عدنان: "كلما قرأت هذا المقطع بكيت. بكيت معه مراراً وتكراراً".

وصل الحديث إلى قصصه الأخرى ولكنه كان حديثاً عابراً وسريعاً؛ قصة "طيور الحب" والاختلاف الثقافي بين جيلين. في القصة يطفح الكيل عند شاب لفرط انتقادات الأبوين وهنا تصبح طيور الحب حجة، فتحدث مواجهة رمانسية لغوية. تذكرتُ قصة "سمك القرش" وصديقه القديم "آقا بُزُرك" الذي هو الآن بمثابة الأخ الأكبر ويذهب لاصطياد أسماك القرش. قال عدنان: "علّمني اصطياد سمك القرش". ثم أضاف: "لقد مات؟ نعم، إنه ودّع الدنيا قبل سنوات".

ليس أمامنا الكثير حتى حقل "ربيع"، وجهتنا الأخيرة. كانت قطعة أرض جرداء تحوّلت إلى حقل عامر ومزرعة للدواجن بجهود زمرة من الشباب. قبل وصولنا إلى هناك كان قد أشعل حميد وسامي ناراً مبهرة. كان الجو بارداً جداً، بيد أن الجلوس أمام النار، واحتساء الشاي والقهوة لحظة الغروب، وتداول أحاديث الأدب، منح الجوَّ دفئاً حميمياً. كانت الشمس تودع السماء رويداً رويداً، والنار تشبه هالات في ذلك الغروب.

بعد دقائق بزغت أول نجمة. منح الغروب أحاديثنا عن الأدب لوناً رمادياً. قال عدنان إن انتظار إيجاد تغيير عن طريق الأدب، ليست نظرة واقعية. لا يتطابق الأمر مع ذات الأدب، خاصة في مجتمع لا يقرأ. كان قد جرّب في الغربة إصدار مجلة "فاخته"، ويعرف جيداً ألم عدم القراءة وعدم شراء الكتاب وعدم الاكتراث بالإصدارات. تخصصت فصلية "فاخته" بالأدب، لكنها توقفت بعد صدور ثمانية أعداد بمساعدة من بلدية أمستردام، لأن الجالية الإيرانية هناك لم تكن مستعدة لشرائها وقراءتها.

أذكر حين وقفنا خلف إشارة المرور الحمراء ورأى لأول مرة يافعين يبيعون المحارم الورقية والمناشف، سأل: ماذا يفعلون؟ وحين عرف وضعهم، قال: إذا لم تستطع الحكومة تأمين حياتهم فما الفائدة من وجودها؟

وصل الحديث إلى قلة القراءة في إيران، هزّ رأسه وقال: "حتى المتعلمون منهم والذين يظهرون كأشخاص ناجحين ومثقفين".

سألته سؤالاً كان يدور بذهني منذ سنوات: "ألا تظنّ أنك لو كتبت باللغة العربية لكنت أكثر قراءة؟".

- كانت العربية لغتنا الأمّ، لكن اللغة الفارسية أصبحت لغتنا العلمية والدراسية.

كان يكتب الشعر باللغة الإنكليزية، قال: "في الحقيقة ليس الأمر أنني لا أستطيع الكتابة بالعربية، بل هو ذلك الوسواس اللغوي الذي لا يسمح لي بالكتابة". ثم قال: "نحن متخلفون في القراءة مقارنة بالعالم العربي وجيراننا".

فرح عدنان بطعم القهوة والشاي المُرّ، ودفء الحديث، والنار، فلم يكن يتعبه عادة الجلوسُ المطول. لم يود ترك ذلك المكان الطاهر والمعتم، ولكن كان علينا أن نعود. هذه هي الجغرافيا على أي حال؛ إنها محبوبة وإن كان تاريخها معجوناً بمرارة القهوة. قلت لعدنان: "هكذا هي أخبار الأهواز؛ وإن لم تجد معرضاً أو جلسة نقدية، وإن لم تر حفلاً موسيقياً، لكن أهالي المدينة لديهم قصصهم ويسمعون موسيقاهم".

• عدنان غُرَيفي ولد عام 1946 في مدينة المحمرة بالقرب من مدينة الأهواز، وهو قاص وروائي وشاعر ومترجم. ترجم لكثير من الأدباء العرب والعالميين من أمثال عبد الوهاب البياتي وغسان كنفاني. صدرت له رواية، وخمس مجموعات قصصية، وخمس مجموعات شعرية. توفي في هولندا في 4 أيار/مايو 2023. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard
Popup Image