قال لي سائق الحافلة: "هذا لك!"، وأخرج شريط الكاسيت من جهاز الصوت، وضعه في غلافِه وأهداني إياه. كان الطريق من بوابة جامعتِنا في الأهواز حتى الكلية يحتاج ركوب الحافلة. ركبتُ وكنتُ متأخرة كالعادة، والمسافرة الوحيدة في الحافلة. كان يصدح "شَجَريان" في حافلتِه بقصيدة لحافظ الشيرازي، وقد مرّ على حبّي لهذا الصوت سنوات طويلة.
كنتُ طالبة السّنة الأولى في فرع الأدب العربي، أرتدي العباءة العربية وخجولة بعض الشيء. حين وصلنا الكليةَ، غلبَ الشغفُ على خجلي، ذهبتُ نحوه وشكرتُه من أجل "شجريان" قبل أن أنزل. قال لي: "أنتِ عربية؟" -نعم. "أقدّر أنك ترتدين هذا الثّوبَ العربي. أنا كرديّ، وكلانا نحبّ شجريان. هذا الشريط لك يا بنتي." أخذتُ الشريط بغبطة كبيرة ومرّ سبعة عشر عاماً على ذلك اليوم. بقي الشّريطُ في الأهواز، بين كثيرٍ من الأشرطة الموسيقية التي كنتُ أحتفظ بها في خزانة. رحلتُ إلى مدنٍ كثيرةٍ وأقمتُ ورحلت، والشريطُ قابعٌ هناك كذكرى لامعة في البال.
مرّ أربعة وعشرون عاماً على تلك الأيام التي وجدتُ فيها صوتَه وتأكدتُ أنه سيكون معي ولم أعرف حينذاك ما الذي سوف يبقى حقّاً وماذا سوف يزول. في السّنوات اللاحقة كنتُ ألتهم ألبوماته الجديدة واحداً تلو الآخر وأعيد الاستماع إليها لساعاتٍ طويلة؛ مقال لكلّ مقام، ونغمات لكلّ حين. بعد أربعة وعشرين عاماً على أيامي الأولى مع صوته، في مستشفى بالقرب من بيتي في طهران، يترك هذا العالم.
يكتب لي أصدقاء عرب رائعون من هنا وهناك يعزّونني برحيله. "أحزنني غيابُه"، يكتب لي صديقي الشاعر. أتذكر مكالماتنا الهاتفية الكثيرة خلال السنوات العشر لصداقتنا وسؤاله أثناء كثيرٍ منها: "هل هذا شجريان؟"
يكتب لي أصدقاء عرب رائعون من هنا وهناك يعزّونني برحيله. "أحزنني غيابُه"، يكتب لي صديقي الشاعر الأعزّ، وأجده متّصلاً بي ولم أنتبه. أتذكر مكالماتنا الهاتفية الكثيرة خلال السنوات العشر لصداقتنا وسؤاله الذي كان يتكرّر أثناء كثيرٍ منها: "هل هذا شجريان؟"، معلّقاً على صوته في خلفية حديثنا، ويواصل دائماً: "أعرف أنك تحبّينه".
في احتفالات وفعاليات عربية كثيرة سألني أدباء وفنانون عرب عنه، وعن الموسيقى الفارسية. جملة لأحدهم ما زالت عالقة في ذاكرتي، ذلك الرسّام العراقيّ خفيف الظلّ الذي رحل قبل بضع سنوات، قال لي في لقائنا اليتيم قبل تسع سنوات في الدوحة: "لديكم أسطورة؛ إنه شجريان!" قلت: "نعم يا صديقي، بالنسبة لي هو أهمّ مبدع في إيران".
سوى بعض أغانيه، طالما كنتُ مغرمة بمواويله وكوّنتُ قائمة طويلة لمواويلِه المفضلة بالنسبة لي خلال السنوات الأخيرة. أن أضغط زرّاً على الجهاز ليبقى صوته مستمرّاً، تلك عادة بقيت معي أينما كنت. أفعل كذلك، وأشاهد صوراً لحشود كبيرة من الناس مجتمعين أمام المستشفى دون أن أستطيع الذهاب إلى هناك. الطريق مغلق وكأن طهران لا تريد أن تصدّق، ولا أن تعتني بقانونٍ، أو تنام.
سيبقى صوتُه وهذه الشمعة التي أشعلتُها من أجله حتى الصباح. عند منتصف الليل يكتب لي صديقي الذي يسكن قريباً من بيتي: "ارفعي الصوت"، وكان قد عزّاني قبل بضع ساعات.
أشاهد صوراً لحشود كبيرة من الناس مجتمعين أمام المستشفى دون أن أستطيع الذهاب إلى هناك. الطريق مغلق وكأن طهران لا تريد أن تصدّق، ولا أن تعتني بقانونٍ، أو تنام
في الليلة الأولى لي في هذا البيت، أتذكر أنني استلقيتُ فوق تلّ من الشراشف والوسادات وأطلقتُ ألبوماً جميلاً له كانت لي ذكريات معه منذ صدوره في التسعينيات. كتبتُ حينها لصديقتي، زوجة مؤلف الألبوم، أنني الآن في بيتي الجديد وأستمع إلى هذا الألبوم. أتذكّر يدَها التي بقيت ماسكة يدي في حفل تأبين صديقتي الجميلة في الصيف الماضي، أتوق إلى تلك اليدِ في هذه اللحظة، لكنها الآن في أقاصي العالم.
فوق تلّ من الأماني والذكريات، أستلقي، ومعي نفس الألبوم: "الليل، الصمت، الصحراء"، و"شجريان" يقال إنه رحل. يرحل بينما ملايين من البيوت في إيران تستمع إلى صوته الآن. لا أحد يريد أن يصدّق، وإن صدّقوا فها هو الموتُ حين يكون ذا لوعة منتشرة على ألوف الأرواح، حين يكون ذا جلال، وذا إيقاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع