تندرج هذه المادة ضمن ملف "75 عاماً من النكبة... الحلم وسط المأساة"
لم يكن قرار علاقتي بزوجي "كريم" قراراً يتعلق بالحيز الجغرافي الذي ينتمي إليه كل واحد منا، ولا خياراً مسبقاً بالزواج خارج مجتمعي، بل على العكس تماماً من ذلك. لم أنتبه، بينما أسير خطواتي الأولى نحوه، في مدينة التلال العالية، وعلى ضفاف البوسفور، الأزرق صيفاً والرمادي شتاءً، بأننا كلانا، بدأنا رحلة التحرّر من حيّزنا الجغرافي، هو من غزّة، وأنا من الداخل الفلسطيني المحتل، باحثين عن حيّز آمن، يستطيع تحمّل اختلاف ألوان جوازات السفر، والأرض الواحدة.
تزوّجنا في إسطنبول عام 2021، حين كان العالم منشغلاً بكورونا وما سيحصل لاحقاً للبشرية، كنا في قاعة صغيرة بمنطقة شيشلي، نحتفل رفقة مجموعة صغيرة من الأصدقاء الفلسطينيين المهاجرين مثلنا، الباحثين عن الطريق الأقرب للحرية والعمل والهجرة لاحقاً إلى أماكن أكثر أماناً، وعلى أنغام فرقةِ "صول باند" الفلسطينية، نحيي مراسم زواجنا الذي سيفتح الباب لسؤال العلاقات، مدى إمكانيتها وتحقيقها على أرض الواقع، لرجل خارج من غزة، وامرأة تحمل جواز السفر الإسرائيلي، بعد عشرين عاماً من الفصل بين المنطقتين، حتى كادت إحداهما أن تنفصل حقاً عن الأخرى.
خلال هذا التقرير، سأقوم بتسليط الضوء على نساء قرّرن خوض هذه التجربة رغم صعوبتها، اعتراض المجتمع المحلي في كثير من الأحيان، ورفض السلطات في غزة والداخل المحتل لعلاقات تفتح باب الأسئلة على الحياة الاجتماعية والسياسية لكلا المنطقتين الجغرافيتين، ويجعل من اللقاء الذي جعله الاحتلال بعيداً وصعباً، حيث صارت المناطق الجغرافية الفلسطينية المختلفة بالنسبة لنا مكاناً مجهول الهوية، والناس فيها غرباء، فتحوّلت بعد عدد من العلاقات الشخصية إلى شيء حسي وملموس، نبحث خلفه عن الإجابات لأسئلة كانت مختبئةً تحت قشرة الغياب.
خلال المقابلات سيتم الحديث عن نساء من غزة والداخل، اخترن الزواج برجال من مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان وسوريا، وبنساء من الداخل تزوجن رجالاً من غزة، لتفتح وتطرح أسئلة جديدة حول كيف شكّلت النكبة علاقاتنا وجزّأتها، وكيف انفصلنا كمجتمعات تجمعها قضية واحدة، لكن لا يمكنها اللقاء على أرض واحدة وبتاريخ مشترك واحد.
في إسطنبول، كنا نحيي مراسم زواجنا الذي سيفتح الباب لسؤال العلاقات، مدى إمكانيتها وتحقيقها على أرض الواقع، لرجل خارج من غزة، وامرأة تحمل جواز السفر الإسرائيلي، بعد عشرين عاماً من الفصل بين المنطقتين، حتى كادت إحداهما أن تنفصل حقاً عن الأخرى
تخلٍّ أم شجاعة؟ سؤال المجتمع والعائلة أمام خياراتنا
من أكثر الأسئلة والمقارنات التي تعرّضتُ لها عند اختياري الزواج والانتقال للخارج، كان سؤال المجتمع أكثر من كونه سؤال العائلة: "بدك تتركي كلشي عملتيه وتطلعي؟"، كأن وجودي في منصب مهم في وزارة الثقافة في الداخل الفلسطيني يجب عليه منعي من اختيار شريكي والطريقة التي سأكمل بها حياتي، أو أن خيار البدء من جديد، في بلد جديد، بلغة جديدة وغريبة وبعيدة كل البعد عمّا درست وعرفت سابقاً، خيار سأندم عليه لاحقاً.
عند إجراء المقابلات لهذا المقال، عرفت أني لست وحيدة في التعرّض لهذه الأسئلة وهذا التشكيك.
تشاركنا ابتسام (اسم مستعار، 29 عاماً)، من إحدى مناطق المثلث في الداخل الفلسطيني، تجربتها الشخصية عند قرارها الزّواج من شاب فلسطيني-سوري مقيم في هولندا بعد أحداث الثورة السورية، مستعرضةً ردّ فعل عائلتها والمجتمع، المستغربين كيف تتخذّ امرأة متعلمة وناجحة وقادرة على الاندماج والتقدم في مجتمع الداخل الفلسطيني (داخل إسرائيل) خياراً، كهذا بحيث تتخلى من خلاله عن كل المميزات التي لدينا كفلسطينيين بهوية إسرائيلية.
من أكثر الأسئلة والمقارنات التي تعرّضتُ لها عند اختياري الزواج والانتقال للخارج، كان سؤال المجتمع أكثر من كونه سؤال العائلة: "بدك تتركي كلشي عملتيه وتطلعي؟"
"التّحدي الأساسي بالنسبة لي كان إقناع والديّ بهذه الخطوة، وقد كان بالفعل من الصعب إقناع أبي بهذا الخيار، على عكس أمي التي احتوت وتفهّمت موقفي واحترمت خياري. جاء رفض والدي من أنه لم يرد لي خيار الغربة والحياة في بلاد (الغرب) بحسب تعبيره، وبأنني تعبت ودرست وتعلمت وحصلت على شهادات، ليس من أجل تضييع المزيد من سنوات عمري في دراسة لغة جديدة وبلد جديدة، فالخيارات هنا أسهل. عندما انتبه إلى إصراري رغم مرور أشهر، قرر السفر معي والتعرف على الشاب، وبالفعل تزوّجنا".
تكمل ابتسام قائلة: "كانت فكرة غريبة بالنسبة لهم، وصارت تعليقات غريبة تصل لأمي: يلا معلش المهم مبسوطة... كيف قبلتي توديها برا؟، كأن أمي أرسلتني إلى النار. بالنسبة لي لم يكن الأمر غريباً، خاصةً بعد اغترابي ورؤية الأزواج المختلفين من جنسيات مختلفة، كيف يعيشون ويتأقلمون ويحققون أنفسهم بشكل أفضل بكثير من أزواج يعيشون في الداخل المحتل".
أما سمر (اسم مستعار، 30 عاماً)، من إحدى قرى الناصرة، فتحكي لرصيف22 عن تجربتها المميزة في التّعرف على شريك حياتها، أصله من غزة ويسكن في أوروبا منذ سنوات: "تجربة التعرف على شخص جديد من خارج مجتمعي الصغير كانت غريبة، مثيرة للاهتمام ومليئة بالتحديات، وكانت في مرحلة ما صعبة للغاية واحتمالية الاستمرار بها مستحيلة. الصعوبات بدأت مع معرفة أهلي أنني على علاقة بشخص من غزة. بسبب الأفكار المسبقة التي رسّخها الاحتلال في أذهاننا عن الفلسطيني في غزة المحاصرة. فهو ذلك الإنسان المسحوق المهزوم الشديد التدين والمتزمت، والفقير الذي لم يرَ شيئاً من العالم. أنا شخصياً كنت ممن تأثر بهذه الأفكار قبل مقابلة شريكي، ولكن مع لقائنا الأول وتوطد معرفتنا، كشفني على عالم لم أكن أعلم أنه موجود أساساً في غزة. فقد كان شريكي ابن أسرة ميسورة الحال، أتاحت له الانكشاف لتجارب كثيرة ومثيرة. ومع كل ما تعرّض له من صعوبات أو نجاحات جعلته متفوقاً في نظري عن الكثير ممن أعرفهم في الداخل الفلسطيني".
وتضيف سمر عن رد فعل العائلة والصعوبات التي واجهتها وما زالت في علاقتها "الغريبة" بالنسبة للمجتمع المحلي: "استغرق الامر الكثير من الوقت لأقنع أهلي بصواب ما أفعل رغم تداعياته الكثيرة الباهظة الثمن، أي الاغتراب والابتعاد عن كل ما أعرفه لأبدأ من الصفر مجدداً. ولكن ها نحن اليوم معاً رغم كل الصعوبات والتحديات. مع مشاركة المعلومات وبعض التفاصيل لأقارب العائلة، ومع إجابات مُبسّطة لأبناء إخوتي لأسئلتهم التي لا تنتهي: لماذا لم يكن هناك حفل زفاف في فلسطين؟ لِمَ لَمْ نر زوجك وجهاً لوجه حتى الآن؟ متى ستأتين للزيارة وهل سيأتي زوجك معك؟".
وتتابع: "قبل يومين تفاجأت من ابنة اختي ذات الثمانية أعوام حين قالت لي: جوزك بنفعش ييجي لأنه فش معه جنسية؟ شو يعني جنسية؟ ليش ابن صفي بقول إنه إحنا ساكنين بفلسطين وانت بتقول إنه احنا معنا جواز سفر وهوية اسرائيلية… حاولت تبسيط المعلومات لها قدر استطاعتي، وبقدر صعوبة هذه المهمة بقدر فرحي لسماع هذه الأسئلة من هذه الطفلة الصغيرة".
"لا أعتقد بأني أرغب في إعطاء نصائح للآخرين بخوض نفس التجربة، فقد كنت أفضِّل لو كان شريكي من الداخل، لكان كل شيء أسهل، ولكنت بقيت في البلاد بجانب أهلي"
أما سارة صبيح من قطاع غزة، 28 عاماً، التي تزوّجت محمود، شاب فلسطيني من مخيمات لبنان الفلسطينية، فتشارك الصعوبات التي واجهتها قائلة: "لم أواجه مشاكل حقيقية مع والدي وعائلتي الصغيرة، لكن بحكم مجتمع غزة المتقارب جداً، فإن الأعمام والأخوال يتدخلون أيضاً في القرارات الشخصية، فكان عمي الكبير من المعارضين بشدّة، بحيث كان يحمل تنميطاً وصورة مسبقة عن الفلسطيني في الشتات، بأنه لا يشبه الفلسطيني في غزة أو الضفة، وبأننا فلسطينيون أكثر منهم".
وتتابع: "يعود هذا بالتأكيد للفصل التام بين المجتمعين، ولعدم معرفة الآخر مطلقاً. من ناحية أخرى ورغم التأييد الشعبي والإعلامي الذي حظينا به أنا ومحمود لزواجنا، إلا أن بعض المقربين كانوا يتهامسون من الخلف بأننا نتهور وهكذا زواج عليه ألا يتم، لأن العائلات لا تعرف الواحدة الأخرى، التربية مختلفة والعادات والتقاليد مختلفة، لكن هذا بالتأكيد لم يؤثر على قرارنا".
وتقول سلوى (اسم مستعار، 22 عاماً)، من إحدى قرى الشمال الفلسطيني، عن قرارها في الزواج من شاب غزي يعيش رفقة عائلته في مدينة اسطنبول منذ سنوات، والصعوبات التي واجهتها لأجل إقناع عائلتها بقرارها: "كانت مشكلتي الأساسية عند إعلان ارتباطي بشاب من غزة، هو إقناع والدي بأن هذه العلاقة لن تشكّل خطراً علي، ولن تضعني تحت مساءلة أمنية، لأنني من الأصل يوجد لدي ملف أمني باسمي في البلاد، فبالنسبة لوالدي كان الموضوع مرفوضاً بشكل شبه تام".
وتضيف: "على مستوى التحديات الأمنية، والد زوجي إلى حد معين كان مرتبطاً بحركة حماس، وبالنسبة لهم كان كل شيء يضعهم تحت التهديد الأمني، إن كان أنا وملفي الأمني، وإن كان والدي المحامي الذي كبرت لديه تخوّفات من أن شيئاً من هذا النوع سيمنعه من مزاولة المهنة، وخاصةً أن النقطة الأمنية في مؤسسات الاحتلال الإسرائيلي حين توضع، توضع على العائلة كلها وليس على شخص بمعزل عن عائلته، فكان الرفض أمنياً أكثر من كونه إنسانياً".
"على مستوى التحديات الأمنية، والد زوجي إلى حد معين كان مرتبطاً بحركة حماس، وبالنسبة لهم كان كل شيء يضعهم تحت التهديد الأمني، إن كان أنا وملفي الأمني، وإن كان والدي المحامي الذي كبرت لديه تخوّفات من أن شيئاً من هذا النوع سيمنعه من مزاولة المهنة"
وتتابع: "من ناحية أخرى، كان لديهم عدم تقبل لفكرة أن أتزوج وأعيش بعيداً عنهم، كانوا يفضلون أن يكون زواجي قريباً منهم، بحيث لا تكون الزيارة متعبة إلى هذه الدرجة وتحتاج سفراً. لكني هنا، رغم رفض الأهل والبعض من البيئة المقربة، إلا أني تعاملت معهم بطريقة فجّة، هذا هو الرجل الذي اخترته وهذا الرجل الذي أحبه وسوف أتزوجه، وأنا لا أجد أي خطأ في اختياري، وأفضل رضاكم على الموضوع من عدمه، ولكن إذا اخترتم عدم الرضا فإنكم ستجبرونني على اختيار طرق قاسية. بسبب الصرامة التي اتخذتها في موقفي، بدأ والداي يلينان، وبدءا يسمعان رأيي ويحترمان اختياري، حتى وصلت الأمور إلى التقبّل والزواج. هنا قام أبي بفرض رأيه الإيجابي على أعمامي وعائلتي الكبرى وتزوّجنا".
الفلسطيني والفلسطيني الآخر في المشاركات الاجتماعية
بحكم انفصال المناطق الجغرافية الفلسطينية عن بعضها فإن هناك تفاصيل صغيرة في الحياة الاجتماعية والمشاركات العاطفية والانتماءات السياسية والنقاشات داخل المجتمع نفسه، تختلف من منطقة إلى أخرى، وبالتأكيد يظهر هذا الاختلاف عند الدخول في علاقة عاطفية من منطقتين مختلفتين، يحصل هنا الانكشاف على الآخر والصعوبات التي تواجه الأفراد في تقبّل واحتواء شريكهم وخلفيته كاملة.
تقول سمر في هذه الجزئية: "علاقتي الشخصية مع المجتمعات الفلسطينية لم تكن سيئة، فقد انخرطت خلال سنوات سابقة في أُطر مختلفة كانت تهدف لردم شرخ البناء في المجتمع الفلسطيني، لكنها لم تشمل أبناء غزة المحاصرة، لكنني لا أستطيع وصفها بأنها علاقات وطيدة أو عميقة. مع تعرفي على شريكي انكشفت أكثر وبصورة أعمق على النكبة وتبعاتها على الإنسان الفلسطيني، كأن العالم لا يراك، فأنت مولود دون أوراق رسمية كونك لاجئاً في إحدى الدول العربية".
بحكم انفصال المناطق الجغرافية الفلسطينية عن بعضها فإن هناك تفاصيل صغيرة في الحياة الاجتماعية والمشاركات العاطفية والانتماءات السياسية والنقاشات داخل المجتمع نفسه، تختلف من منطقة إلى أخرى
وتتابع: "الانتفاضة الأولى ومن بعدها اتفاقية أوسلو، وما تلاها من أحداث بعدها؛ الانتفاضة الثانية، إخلاء المستوطنات في غزة، الاعتداءات الغشيمة على القطاع وحصاره، وكيف يتعامل سكان غزة مع كل ما يتعرضون له. انكشافي على الفلسطيني الآخر، الذي لم أره سابقاً إلا كما أرادني الاحتلال أن أراه، أضافت لي الكثير، حتى في المضامين التي نراها بسيطة كالمطبخ، فلم يسبق لي قبل ذلك أن تناولت المقدرة أو الرمانية أو السماقية، فهي أطباق لا تتواجد في مطبخ شمال فلسطين الذي أعرفه".
وتتابع: "علاقة الفلسطيني الآخر مع الآخرين من دول عربية أو أوروبية أتاحت لي التعامل مع عوالم مختلفة لم أتخيل مسبقاً أنها ستكون جزءاً من حياتي؛ كأن تجمعنا سهرة بيتية مع أصدقاء من مصر، تونس أو ألمانيا، أو أن تتم دعوتي لحفل عيد ميلاد وأكوّن صداقات مع أشخاص من لبنان، المغرب وبلجيكا…".
وتضيف ابتسام حول التغييرات التي حدثت في حياتها والمعلومات الجديدة التي استقبلتها بسبب علاقتها بشاب فلسطيني - سوري في أوروبا: "أكثر المعلومات التي أضيفت لي كابنة الداخل الفلسطيني، هي ظروف الفلسطيني الصعبة جداً في سوريا، فقد تم فصل مجتمعنا بشكل كلي عن المجتمعات العربية الأخرى، فلم أسمع في حياتي في نشرة إخبارية أي شيء يخصّ حياة الفلسطيني - السوري، أو السّوري بذاته.
فقد كانت صدمتي كبيرة حين عرفت مثلاً كم يتقاضى المعلم\ة في سوريا وهو ما يعادل 20 دولار شهرياً، وبأن زوجي لم يتمكن أبداً من العمل بشهادته داخل سوريا بسبب عدم توفّر فرص العمل، عن شعور الفلسطيني طيلة حياته بعدم الأمان وبأنه معرّض دوماً للمساءلة أمام النظام إذا ما شارك في مظاهرة أو رفض خدمة الجيش، عن معنى أن يدخل أي كان إلى السجن في سوريا والاختفاء القسري للسوريين والفلسطينيين على حد سواء. هذه المعلومات والانكشاف الثقافي على الفلسطيني اللاجئ كانت تجعلني بشكل غير متعمّد أقارن بين حياتنا في الداخل وحياتهم في الشتات".
"أكثر المعلومات التي أضيفت لي كابنة الداخل الفلسطيني، هي ظروف الفلسطيني الصعبة جداً في سوريا، فقد تم فصل مجتمعنا بشكل كلي عن المجتمعات العربية الأخرى، فلم أسمع في حياتي في نشرة إخبارية أي شيء يخصّ حياة الفلسطيني - السوري"
"قبل تعرّفي على زوجي، لم يكن لدي أي علاقات تذكر مع أي شخص فلسطيني أو عربي لا يعيش في الداخل الفلسطيني ومن ذات مجتمعي، اليوم لدي علاقات بالكثير من الأشخاص من مختلف الثقافات والبلدان العربية والأوروبية، بحكم انكشافي على الآخر وفهم خلفيته وثقافته واختلافه رغم كوننا نحمل نفس القضية"، تضيف ابتسام.
وتقول سارة عن اختلاف حياتها بعد الزواج بفلسطيني من مخيمات لبنان: "أكثر ما تأثر هي علاقاتي الشخصية، فأنا أشعر تجاه زوجي وأصدقائي هنا في بيروت بأنهم كان الممكن أن يكونوا أصدقائي منذ عشر سنوات وأكثر، لكن فرّقت بيننا الحدود واللجوء، وفي ذات الوقت، بسبب النكبة والتهجير، حين يتحدثون عن مصاعب ومشاكل مرّوا بها في طفولتهم أشعر بالاغتراب عنهم، فرغم وجود مشاكلي الخاصة في قطاع غزة وتحت الحصار إلا أنها مختلفة تماماً عن مشاكل المجتمع الفلسطيني في الشتات".
وتضيف: "هناك فجوة كبيرة بين نظرتي للأمور والحياة ونظرتهم، العنصرية التي يتعرّضون لها في بلد ليست بلدهم ومضطرون على البقاء فيها، لأنهم لا يملكون رفاهية وجود جواز السفر والتنقل بحرية بسبب وجود الاحتلال بالتأكيد"، ثم تتابع: "من أكثر الأشياء المهمة التي أضيفت لي هي المعرفة التاريخية العميقة والقريبة من الأحداث التي مرّ بها اللاجئون في لبنان، من حرب المخيمات، صبرا وشاتيلا، تل الزعتر حتى الحرب الأهلية ووضع الفلسطينيين فيها. هناك نوع من التعتيم في المناهج الدراسية الفلسطينية عن حقيقة هذه الأحداث، ويتم المرور عليها مرور الكرام، دون التطرق للوجع الحقيقي الذي مرّ به الفلسطيني اللاجئ في لبنان".
وتختم حديثها: "لقد كنت قبل ارتباطي بزوجي شخص أعمى لا يعرف أي شيء عن القضية الكبيرة سوى ما يخص غزة وحصارها وحكومة حماس، عندما جئت للبنان تغيرت نظرتي كلياً، وتوسعّت مداركي حول تاريخنا المهم في الشتات".
"بتوكلو قطايف بإسرائيل؟"
أما سلوى فتشرح عن كيف تأثرت علاقتها بشكل مباشر من خلال الأفكار المسبقة والتنميط المسبق لكل منطقة جغرافية عن الأخرى: "تأثرت علاقتي بزوجي بالتأكيد من خلال سياق اختلاف أماكن نشأتنا، فنظرتي للعلاقات كانت تختلف عن نظرته، فأنا أعتقد أني لو تعرفت على شخص من الداخل لما كنت شعرت بالغيرة مثلاً من سياقات معينة في علاقتنا، لأنني أفهم طبيعة المجتمع والسياقات المختلفة للعلاقات بيننا كرجال ونساء، وهو ينطبق عليه ذات الأمر، وذلك يعود بطبيعة الحال إلى أني قادمة من بيئة متحرّرة أكثر من بيئته، فكان هذا النوع من الرقابة على تصرفاتنا بدون قصد".
"أعتقد أني لو تعرفت على شخص من الداخل لما كنت شعرت بالغيرة مثلاً من سياقات معينة في علاقتنا، لأنني أفهم طبيعة المجتمع والسياقات المختلفة للعلاقات بيننا كرجال ونساء"
وتكمل بشكل تفصيلي أكثر حول المجتمع الأكبر والعائلة: "ربما أكثر الأشياء التي أضيفت لي بسبب علاقتي مع الفلسطيني الآخر، كانت النظرة الأوسع للحالة الفلسطينية، وخبرات لا تتعلّق بالمكان الجغرافي القادمين منه، بل تتعلّق بكونه أكبر مني، وقد قطع شوطاً أكبر في المجالات التي تعنينا. وأكثر شيء أضاف لي هو فكرة المعاناة اليومية لأهل غزة، اكتشفت وجهاً آخر للحياة داخل غزة لم أكن أستطيع رؤيته عندما كنت أعيش بالداخل، بسبب نقص المعلومات وبسبب عدم الاختلاط والمعايشة للواقع".
وتتابع: "كما أن هناك تعميمات مجرّدة بشكل كبير واجهتها حين واجهت أهلي أيضاً بارتباطي، بأن والدي كان لديه فكرة بأن جميع أهل غزة يولدون وهم يحملون الأسلحة، وليس ثمة أي واحد فيهم يفكر بطريقة مغايرة عما نراه في التلفاز. هذا التعميم يقتل الفكرة الحقيقية بأن أهالي غزة بشر يحلمون بالحرية، هناك أشخاص لا يهمهم الكفاح المسلح أصلاً، وأشخاص يحلمون بالهرب من القطاع، وأشخاص أكاديميون ومثقفون وراغبون بالحياة بعيداً عن الحرب والمواجهات المستمرة، علاقتنا سمحت للطرفين برؤية نظرة أخرى مختلفة عن كلا الطرفين، وأضافت الكثير من المعلومات التي لم يعرفها كل طرف عن الآخر".
"هذا التعميم يقتل الفكرة الحقيقية بأن أهالي غزة بشر يحلمون بالحرية، هناك أشخاص لا يهمهم الكفاح المسلح أصلاً، وأشخاص يحلمون بالهرب من القطاع، وأشخاص أكاديميون ومثقفون وراغبون بالحياة بعيداً عن الحرب والمواجهات المستمرة"
أما عن التنميط المسبق لكلا المنطقتين وعاداتهم وتقاليدهم وتسمية الأشياء بمسميات مختلفة فتقول: "من الأمور الأخرى التي واجهتها، اختلاف العادات التي تكون مصاحبة لكم كبير من التنميط والأفكار المسبقة، مثل أن تسألك أمه فجأة: عندكو بإسرائيل بتعملو قطايف؟ ويكون جوابي بأني لا أسميها إسرائيل بل فلسطين، ونعم (منعمل قطايف)، وذات الأمر حين كانت جدتي تشرح لعائلته عن عاداتنا التي لا تختلف كثيراً عن عاداتهم أصلاً. وعلى مستوى الحياة الشخصية والانفتاح، فإن التنميط يكون دائماً لدينا بأن شخصاً قادماً من غزة يكون منغلقاً بشكل كبير، وشخصاً قادماً من الداخل يكون منفتحاً بشكل كبير، ولكن هذا الأمر لم يكن صحيحاً، فقد وجدنا أنفسنا كلينا في منطقة متقاربة ومتوسطة ومتشابهة بحيث لا يصادر أي منا حرية الآخر".
علاقات مركبة واحتواء متبادل
لم أعتقد يوماً خلال علاقتي بزوجي، بعد سنتين ونصف على زواجنا، بأن هناك أموراً مفهومة ضمناً في علاقتنا، كان من الضّروري منذ اليوم الأوّل لنا في تعارفنا، الحديث عن تفاصيل صغيرة لم أكن أضطر لشرحها أو تعريفها عند دخولي في علاقة مع شخص من نفس الحيز الجغرافي الذي أعيش فيه، كما أن الانتباه للغة التي أتحدث بها، دون مدخلات ومخرجات عبرية، كان ضرورياً، فالفلسطيني الآخر يتعامل مع وجود الإسرائيلي ولغته بطريقة مختلفة تماماً عما أتعامل أنا معه في الداخل، الخطوط والحدود وطريقة التعامل والطموحات والمستقبل كانت مفصّلة أكثر بكثير من أي علاقة أخرى دخلتها في حياتي، وهذا ما جعلها، دون أن أشعر، أكثر سلاسة وحبّ وتقبل واحتواء.
تقول سلوى في هذا الصدد أيضاً: "حتى الآن، بعد مرور فترة على زواجنا وفترة أكبر على علاقتنا، ما زلنا نحاول مقاربة تجاربنا وفهم الواحد للآخر، نتجادل ونتناقش ونجد حلولاً تناسب الطرفين، بهدوء وتفاهم وألفة. واكتشفت خلال هذه الفترة كم كانت الجنسية الإسرائيلية تمنحني أفضلية عن الفلسطيني الآخر، بالذات في موضوع السفر والدخول إلى بلدان أوروبية، فلا يكلفنا ذلك سوى حجز تذكرة طيران، على عكس شريكي الذي يحتاج تأشيرة دخول، وتأشيرة صعبة للغاية، على الرغم من عدم معارضته ذهابك بمفردك، إلا أنك تشعر بعدم الرغبة في (حك الجرح) لديه. وربما الجزء الثاني الذي لم أعتقد أنه سيكون بهذه القسوة، هو اشتياقي الكبير للبلاد".
أما سارة فتحكي عن تجربتها المميزة: "تعرّفي على شخص فلسطيني من الشتات يعيش لأجل أن يرى فلسطين، لأجل تحقيق هذا الحلم أو الهدف، زادَ من ارتباطي بالقضية الفلسطينية، من حبي لفلسطين والوطن، وأصبحت أغار منهم من كثرة تعلقهم بالوطن، بحيث يعرفون تاريخ البلاد أكثر من أي شخص قابلته سابقاً".
"تعرّفي على شخص فلسطيني من الشتات يعيش لأجل أن يرى فلسطين، لأجل تحقيق هذا الحلم أو الهدف، زادَ من ارتباطي بالقضية الفلسطينية، من حبي لفلسطين والوطن، وأصبحت أغار منهم من كثرة تعلقهم بالوطن، بحيث يعرفون تاريخ البلاد أكثر من أي شخص قابلته سابقاً"
وتضيف ابتسام عن الصعوبات والتأقلم في مكان جديد من الصفر: "أعتبرها تجربة مميزة، قصتنا حلم وواقع في ذات الوقت، ربما لأنه لم يكن من المألوف كثيراً أن تتزوّج ابنة الداخل من شخص خارج مجتمعها، لكن اليوم صرت أجد القليل من النساء تجرأن على اتخاذ مثل هذه القرارات، لكن هذا القرار والحلم تترتب عليه فواتير عالية، مثل دراسة لغة جديدة، بناء مجتمع جديد من الصفر، أصدقاء جدد، والتأقلم على مكان مختلف كل الاختلاف عما سبق بدون العائلة ولا البيئة المعتادة عليها".
وختمت سلوى حديثها قائلة: "لا أعتقد بأني أرغب في إعطاء نصائح للآخرين بخوض نفس التجربة، فقد كنت أفضِّل لو كان شريكي من الداخل، لكان كل شيء أسهل، ولكنت بقيت في البلاد بجانب أهلي. تزوّجته لأني أحببته ولأن الخيار كان خيار الضرورة، فالزواج من أماكن مختلفة لديها فواتير عالية، لديك أخ صغير سيكبر بعيداً عنك، عائلتي تعيش تفاصيل كثيرة أنا لست جزءاً منها.
عند عودتي إلى البلاد صرت أشعر بالغرابة وعدم القدرة على مجاراة أحاديث الناس وهمومي مختلفة عن الآخرين، ولم أعد قادرة على الشعور بالانتماء لهذه الدائرة التي كانت دائرتي في الأصل، وأظل أبحث بشكل دائم في غربتي عن أشخاص من الداخل يعيشون حيث أعيش، وأتقاسم معهم جزءاً من الهموم التي أفكر فيها والتي تعنيني في الغربة، بحيث لم أشعر حتى الآن بالانتماء الكامل إلى المجتمعات العربية الأخرى التي تعرفت عليها هنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع