يسود اعتقاد واسع بأن الأمة الجزائرية تتألف من مكوّنَين اثنين؛ عربي وأمازيغي فقط، في حين لا يستوعب البعض من الجزائريين أن هنالك مواطنين مثلهم بملامح زنجية إفريقية تسكن غالبيتهم في جنوب البلاد، ويسمّون "الحراطين"، وهم أحفاد العبيد السود المحررين.
في شباط/ فبراير الماضي، خلال نهائي كأس أمم إفريقيا للمحليين (شان)، التي استضافتها الجزائر، انتشر فيديو تظهر فيه إحدى اليوتيوبرز الجزائريات، وهي توثق رحلتها من بوابة دخول ملعب نيلسون مانديلا في الجزائر العاصمة، إلى مقعدها، وفي الفيديو تقول الفتاة إنها توقفت كثيراً لتشرح لمشجعين جزائريين آخرين أنها ليست من السنغال (الطرف الثاني في المباراة)، وهي جزائرية مثلهم قدِمت لتشجيع المنتخب الوطني.
وتعكس هذه التصرفات، على عفويتها، الصورة النمطية التي يشكلها بعض الجزائريين عن ذوي البشرة السوداء، ومفادها أنهم غالباً ما يكونون أجانب قادمين من الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، إذ ليس في المخيال الشعبي الجزائري، مواطن جزائري أسود البشرة.
فالصورة النمطية للمواطن أنه غالباً ما يكون من ذوي البشرة القمحية أو البيضاء مع ملامح عربية أو متوسطية، لكنها بشكل شبه مؤكد ليست بملامح إفريقية.
لا يستوعب البعض من الجزائريين أن هنالك مواطنين مثلهم بملامح زنجية إفريقية تسكن غالبيتهم في جنوب البلاد، ويسمّون "الحراطين".
الاستعمار استعبد السود والمجتمع يعاني إلى اليوم
شكّل استعباد السود جزءاً لا يتجزأ من تاريخ منطقة شمال إفريقيا والصحراء، حيث أدت تجارة الرقيق عبر الصحراء الكبرى، على مدى 13 قرناً، إلى نقل نحو 65 ألفاً من الأفارقة السود إلى الجزائر في الفترة ما بين 1700 و1880، حسب دراسة لماري كلود شاملا، تحت عنوان "السكان القدامى في الصحراء والمناطق المجاورة".
ووفقاً لدراسة لبنجامين كلود بروير، ضمّنها في كتابه "إعادة للتفكير في إلغاء العبودية بالجزائر"، فإن قرار إلغاء العبودية الصادر من السلطات الاستعمارية عام 1848، لم يكن له أثر في جنوب الجزائر حيث استمرت هذه الممارسات في المناطق الصحراوية طوال فترة الاستعمار الفرنسي من 1830 حتى 1962، ويرى الكاتب أن انتهاء العبودية في الصحراء الجزائرية كان بطيئاً بسبب تغاضي السلطات الفرنسية عن تطبيق القانون.
ويقول الكاتب إن قبول السلطات الفرنسية بهذا العرف كان للأسباب العملية للحكم الاستعماري، حيث أفسح الفرنسيون المجال للعبودية في الصحراء الجزائرية أكثر من أي مكان آخر. وحصل سادة العبيد والتجار على تصاريح للإتجار بالعبيد والإبقاء على ممتلكاتهم حتى القرن العشرين. في المقابل، قدّم النخاسون والتجار معلومات استخباراتيةً حول المناطق البعيدة للسلطات الاستعمارية.
وحسب المصدر ذاته، فإن ممارسات العبودية الزراعية والمنزلية انتهت تدريجياً في الجزائر، في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد استقلال الجزائر ومنح صفة المواطنة لجميع الجزائريين، لكن التعافي من آثار العبودية بقي عصياً على المجتمعات المحلية في الصحراء حيث ما تزال آثاره حتى اليوم.
هوية السود في الجزائر بعد الاستقلال
في مقال عنوانه "رهاب السود في الجزائر: دراسة تحليلية للعبارات القائلة إن الشرّ مُلوّن"، الذي صدر كجزء من كتاب "السود في المغرب العربي، قضايا الهوية"، يقول الباحث في الأنثروبولوجيا لدى "المركز الوطني الجزائري للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وفي علم الإنسان والتاريخ"، سليم خياط، ما مفاده أن تاريخ السجال الخاص بالهوية في الجزائر بعد الاستقلال اقتصر على جهود الفعاليات والحركات التي دعت إلى تمكين الهوية الأمازيغية من جهة، والموقف الرسمي المدافع عن قومية جزائرية قوامها التساوي تحت مظلة المواطنة والإسلام من جهة أخرى، لكنه لم يتطرق في أي فصل من فصول التاريخ الحديث للدولة الجزائرية إلى هوية المواطنين الجزائريين ذوي البشرة السوداء.
وأشار الكاتب إلى أن من ناقشوا هذا التاريخ ذهبوا إلى إضفاء شرعية انتقائية لوصمه بالموروث الأمازيغي أو الأندلسي أو العربي، في حين ظل البعد الأسود مهملاً، ولم تتطرق إليه إلا قلة من الباحثين وبسبب هذا الجهل بالجوانب الاجتماعية والثقافية والأنثروبولوجية المختلفة بقي مجتمع السود في الجزائر غير معروف ومن دون تاريخ مدوّن وبمجال ذاكرة مقيّد.
ومع كون السود مواطنين جزائريين كاملي الحقوق، فإن أصالة انتمائهم إلى فسيفساء التعددية في الجزائر حسب الكاتب، تم نسيانها، وإذا حدث وتم تذكّرها -يقول الكاتب- فإن ذلك يحدث ضمن إطار فولكلوري.
رواسب اجتماعية من حقبة "العبودية"
يروي الشاب يوسف محمد (اسم مستعار)، ويسكن في مدينة أدرار الواقعة جنوب غرب الجزائر، لرصيف22، أنه في صباه كان يُنعت بـ"الحرطاني"، كشتيمة تُنقص من شأنه بين أقرانه، وكان عليه أن يخوض الكثير من الشجارات في المدرسة لرد الاعتبار لنفسه، وعلى الرغم من بلوغه الخامسة والعشرين اليوم، لا يزال محدثنا يشعر بالتمييز في الكثير من معاملاته اليومية في أدرار التي تنقسم تركيبتها الاجتماعية إلى فئات "الشرفة"، "المرابطين"، "الأحرار" و"الحراطين".
ويؤكد يوسف أن شعوره لا ينبع من عنصرية ممنهجة، فالحراطين في الجزائر شأنهم شأن باقي المواطنين يتمتعون بكل حقوق المواطنة والخدمات الحكومية، بل إن كثيرين منهم وصلوا إلى مناصب عليا في الدولة، كما أن تعميم التدريس وإجباريته جعلا من بينهم الأطباء والدكاترة الجامعيين ومحترفي مهن أخرى لها مكانة رفيعة تفرض احترام صاحبها في المجتمع، عكس المهن التي عمل فيها أجداد الحراطين في الماضي، مثل خدمة الأرض والمنازل.
ويوضح يوسف أن شعوره يأتي من حقيقة يمكن فقط للحرطاني أن يشعر بها، فصحيح أن الوضع تحسن كثيراً مقارنةً بالماضي، بفضل القوانين التي فرضت على المجتمع وضعاً مخالفاً للتقسيمات العرقية القديمة، لكن الحواجز الطبقية في المجتمع يمكن الإحساس بها حينما يخاطب الحرطاني البقية أو يشتغل لديهم أو يدخل بيوتهم.
الأعراف الاجتماعية في عموم البلاد، تمنع الزواج المختلط بين الرجل "الحرطاني" والمرأة البيضاء
السود و الزواج من غيرهم
ويقول يوسف إن الأعراف الاجتماعية تمنع في عموم البلاد، وخاصةً في المنطقة التي يقطنون فيها، الزواج المختلط بين "الحرطاني" وامرأة بيضاء، في حين أن محاولات كسر هذه العادة تبقى محتشمةً وتنتهي غالباً بأن ينبذ المجتمع عائلة الفتاة التي تقبل بتزويج ابنتها من رجل أسود في المناطق الصحراوية والريفية المحافظة، وتنال نصيبها من التنمر في المناطق الحضرية والمدن الكبيرة .
ممارسات صوفية تكرّس التمييز!
كما يرى يوسف أن بعض ممارسات الصوفية المنتشرة بشكل واسع في الجنوب الجزائري، تتحمل جزءاً من المسؤولية في ما يتعلق بالتمييز ضد الحرطانيين، على الرغم من اعتقاده بأن الدين لعب دوراً مهماً في ردع هذا التمييز. ويشير يوسف إلى أن الاحتفالات الصوفية وزيارات الأضرحة تتضمن مسؤوليةً للحرطاني في جلب المياه والأواني المتنقلة لغسل الأيدي، حتى يتمكن ضيوف الأضرحة ذوي الألقاب الدينية من غسل أيديهم قبل تناول الطعام.
كما ترتبط المساجد الصوفية العتيقة والزوايا في أدرار، بشكل وثيق، بهذا التمييز، بل يُعدّ هذا الأمر من المسلّمات بين أهل المنطقة حسب يوسف، الذي يقول إن معظم تلك المساجد تحكمها قواعد عرفية، ومع ذلك يحدث العكس في المساجد التي تبنيها الدولة والتي تتميّز بالتساوي بين جميع الفئات، حيث لا يوجد تمييز في الجلوس في الصف الأول أو في الصلاة فيه، ويتمتع الجميع بالفرصة نفسها في القيام بأعمال الإمامة والأذان.
ويعترف يوسف بأن هذه الممارسات مقبولة عند جزء معتبر من الحراطين، على أنها حتمية اجتماعية على الرغم من إيمانهم بأن الإسلام يجسد قيم المساواة والعدل التي يجسدها حديث الرسول "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى"، مضيفاً أن الانحرافات السلوكية من الفئات الأخرى تجاه السود ينظر إليها مجتمع الحراطين على أنها سلوكيات فردية لا علاقة لها بجوهر الدين.
ويرى يوسف أن التمييز بناءً على العرق أو اللون، يجب أن تتم مكافحته على كل حال بكل الوسائل المتاحة، وزيادة الوعي بين الناس، مشيراً إلى أن الإعلام والخطاب المسجدي والتعليم من المفترض أن تلعب دوراً أكبر للقضاء على هذه الظاهرة على الرغم من اعترافه بصعوبة تغيير ذهنيات المجتمع لكن أمله يبقى كبيراً بالأجيال القادمة.
قانون التمييز والكراهية
واعتمدت الجزائر منذ 2020، قانوناً لمكافحة خطاب الكراهية وكل أشكال التمييز يسلط عقوبات قد تصل إلى 10 سنوات سجناً ضد مرتكبي هذا النوع من الجرائم.
وهذا القانون الذي جاء بناءً على أوامر من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، يتضمن إنشاء مرصد وطني يتولى الرصد المبكر لأشكال ومظاهر التمييز وخطاب الكراهية وإخطار الجهات المعنية بذلك مع تحليلها وتحديد أسبابها واقتراح التدابير والإجراءات اللازمة للوقاية منها.
يُذكر أن الجزائر صادقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في كانون الأول/ ديسمبر 1989، الذي ينص في مادته الـ20 على أنه "تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 6 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 16 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع