ليبيا قديماً كنت تعني أفريقيا، ثمّ بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية وفقدان سكان العالم القديم والجديد أيضاً، الثقة في بعضهم البعض، أصبحت تعني قطعة أرضٍ تحرقها الحروب الأهليّة، بينما تملأ حدودها البحريّة الشماليّة الجثث الغارقة للأفارقة أنفسهم، لكن ما حدث مؤخراً من قصف مقرٍّ لحجز المهاجرين إلى ليبيا من قبل قوات الشرق الليبي، والتي كانت تستهدف على ما يبدو، مخازن أسلحةٍ تستخدم فيها حكومة الغرب الأفارقة أنفسهم كدروعٍ بشريّةٍ، أمرٌ لا يُقبل السكوت عنه، لقد تحوّلت ليبيا إلى لعنة أفريقيّة أصابت أفريقيا نفسها.
المضحك في الأمر أنه عندما يبدأ المشارقة في لقاءاتهم الحواريّة بتعداد دول شمال أفريقيا، يتجاهلون دائماً ذكر ليبيا، وهي قطيعةٌ مبررّها وبشكلٍ مثيرٍ للاستغراب، عنصريّ أيضاً.
ولكي يمكننا الحديث عن أمر كارثة مجزرة تاجوراء في ليبيا، يجب أن نضع مجموعة نقاطٍ واضحةٍ تشوّهت خلالها صورة العالم في مخيّلتنا جميعاً، أوّلها أن الليبيين أفارقة أيضاً، وهم أيضاً يموتون في ليبيا ما بعد القذافي كلّ يوم بمختلف الطرق، سواء عبر حملهم للأسلحة ضدَّ بعضهم البعض، في حروبٍ أهليّةٍ متتاليةٍ، جلّها بالوكالة، أو بسبب كونهم عالقين في منتصف الجبهة بين المتحاربين، فأفريقيا ليست بالكامل سوداء البشرة، وانفصال جزئها الأسمر عن باقي القارّة السوداء لم يكن بسبب الجغرافيا فقط، بل بسبب الأيديولوجيا التي أفسدت كلَّ شيء، وخسر بسببها سكّان شمال إفريقيا علاقتهم بجيرانهم جنوباً، وهم يرمون بكلِّ ثقلهم شرقاً، حيث لا يكترث أحدٌ حقيقةً بهم، لأنهم ليسوا جيراناً حقيقيّين لهذا الشرق نفسه.
المضحك في الأمر أنه عندما يبدأ المشارقة في لقاءاتهم الحواريّة بتعداد دول شمال أفريقيا، يتجاهلون دائماً ذكر ليبيا، وهي قطيعةٌ مبررّها وبشكلٍ مثيرٍ للاستغراب، عنصريّ أيضاً.
لقد سمّى سكّان شمال أفريقيا أنفسهم عرباً لأنهم يتحدّثون العربيّة، وهو منطقٌ انتهى منذ أن قام الطليان بتعليق موسوليني من قدميه بعد خسارة الحرب العالميّة الثانية، القوميّة انهارت والعالم يرسم خريطته الجديدة، وهو أمر يمكن قراءته ببساطة في أفريقيا نفسها والتي يتحدّث ربعها الغربي، بل أكثر بكثير، اللغة الفرنسيّة، لكن هذا لا يجعل من هؤلاء فرنسيين، إلّا في حال تمكّن بعضهم من الهرب عبر صحراء ليبيا والمتوسط ناحية فرنسا نفسها.
كلّفت القوميّة العربيّة مصر خسارة النيل نفسه، وعلى الجانب البربري خسرت ليبيا والجزائر عمقهما الجغرافي والديموغرافي جنوباً أيضاً، وأكسبت أيضاً سمعةً سيّئةً جداً لليبيين أنفسهم - وأمر ليبيا يهمّني هنا لأني أحمل جنسيّة هذا البلد الموبوء بالنفط -، أكسبتهم سمعة أنهم مجتمعٌ عنصريٌّ، يحتقر جيرانه جميعاً، خصوصاً جيران جنوب الصحراء، بسبب وباء النفط ربّما، ولأسبابٍ أخرى يجب اليوم الحديث عنها دونما خجل، لأن الأمر أصبح مشكلةً يجب حلّها، وعدم فعل ذلك سيكلّف الليبيين أفريقيا نفسها.
إنها حربٌ قذرةٌ، لا شيء أكثر قذارةٍ منها سوى نصيب أناس لا ذنب لهم غير لون بشرتهم، ووجودهم في المكان الخطأ.
لكن ما حدث في ليبيا بعد انهيار النظام، من ظهورٍ صارخٍ لملامح عنصريّة الليبيّين ضدّ جيرانهم ذوي البشرة السوداء، أصبح أمراً لا يجب السكوت عنه إطلاقاً، وهو أمر كانت له علاماته لولا قبضة النظام الفولاذيّة، حيث حصلت أحداث عنفٍ في مدينة الزاوية جنوب مدينة طرابلس، ضدّ العمال سود البشرة في الحادي والثلاثين من سبتمبر سنة 2000، غادر ليبيا بسببها ذلك العام حوالي 33 ألفاً من الرعايا الأفارقة، إثر المواجهات التي أدّت إلى مقتل ستة أشخاص هم ليبي واحد ونيجيريان وسوداني وتشاديان.
هذه الحادثة فتحت الباب أمام الجميع للكشف عن مقدار الكراهيّة التي يكنّها كثيرٌ من الليبيّين لأصحاب البشرة السوداء، وهو ما تجلّى في أحداث فبراير والتي دفع فيها ليبيّون سود البشرة ثمناً غالياً، ابتداءً من مقتل عسكري على أيدي المتظاهرين الغاضبين وحرقة حيّاً في شوارع بنغازي بداية الأحداث، كان جندياً اسمه هشام الشوشان، وكلمة (شوشان) نفسها ليست لقباً عادياً، بل وصم عبوديّة حمله الجندي الليبي على شفتيه، وهو يصرخ نافياً كونه من المرتزقة قبل موته، مروراً بنعت كلِّ من يمتلك بشرةً سوداء بالمرتزق بعد هذه الواقعة المؤلمة، وكأن ليبيا جزء من جنوب إيطاليا، ولا يوجد فيها مواطنون سود البشرة، هم في واقع الأمر مواطنون محليّون، معظمهم يسكنون جنوباً في الصحراء التي لا يزورها سوى السيّاح قبل سقوط النظام، والتي بقيت مرتعاً لمهرّبي كلّ شيء بعد سقوطه، انتهاءً بتهجير مدينة تاورغاء ذات الأغلبية السوداء بحجّة اصطفافها إلى جانب العقيد، وهي تهمةٌ يمكن إلقاؤها على نصف المدن الليبيّة الأخرى تقريباً، لكن "حساسيّة" المجتمع الليبي من البشرة السوداء كانت مبررّاً للسكوت عن تهجير 40 ألف ليبي من مدينتهم التي تحوّلت عبر مرور زمنٍ قصيرٍ إلى مدينة أشباح، يمارس فيها ثوّار مدينةٍ مجاورةٍ منتصرةٍ هواية رمي الصواريخ عن قرب، لغرض التسلية.
فأفريقيا ليست بالكامل سوداء البشرة، وانفصال جزئها الأسمر عن باقي القارّة السوداء لم يكن بسبب الجغرافيا فقط، بل بسبب الأيديولوجيا التي أفسدت كلَّ شيء، وخسر بسببها سكّان شمال إفريقيا علاقتهم بجيرانهم جنوباً.
إن "حساسيّة" المجتمع الليبي من البشرة السوداء كانت مبررّاً للسكوت عن تهجير 40 ألف ليبي من مدينة تاورغاء التي تحوّلت عبر مرور زمنٍ قصيرٍ إلى مدينة أشباح، يمارس فيها ثوّار مدينةٍ مجاورةٍ هواية رمي الصواريخ عن قرب، لغرض التسلية.
إن كارثة موت أقلِّ من مائة شخصٍ بقليل في قصف مقرٍّ لتخزين الفارّين من فقر إفريقيا نحو نعيم أوروبا، حيث يعتقد بعضهم أن الوقوف على شواطئ طرابلس سيمكّنهم من رؤية شواطئ روما، لم تفضح سوى واقع ليبيا بعد ثورةٍ لم يتغيّر فيها شيء إلّا إلى الأسوأ.
إن كارثة موت أقلِّ من مائة شخصٍ بقليل في قصف مقرٍّ لتخزين الفارّين من فقر إفريقيا نحو نعيم أوروبا، حيث يعتقد بعضهم أن الوقوف على شواطئ طرابلس سيمكّنهم من رؤية شواطئ روما، لم تفضح سوى واقع ليبيا بعد ثورةٍ لم يتغيّر فيها شيء إلّا إلى الأسوأ، هو أمر يطرح أسئلةً طرحها المجتمع الدولي قبل سنوات قليلة، بعد ظهور تقرير في قناة "سي إن إن" الأمريكيّة في نوفمبر 2017، يتحدّث عن تجارة العبيد في ليبيا، وهو أمر نسيه العالم كعادته، فالعالم يمتلك ذاكرة ذبابة، ويتذكّر خلالها الأشياء البيضاء فقط.
هذا التقرير انتهى قبل أن يُكمل طريقه نحو المحطة الأخيرة لهؤلاء "العبيد" بين قوسين طبعاً، فما حدث في الثاني من يوليو لم يكن بسبب أمرٍ واحدٍ فقط، بل كانت الأسباب كثيرةً وكافية لحدوث المجزرة، فالمهاجرون غير الشرعيين يتمّ حجز حريّتهم في مستودعاتٍ غير صالحةٍ للقطط، ويُستعمل جلّهم في أعمال السخرة من قبل ميليشيات لا ضوابط أخلاقيّة لديها سوى المال، بالإضافة الى استخدامهم كدروعٍ بشريّةٍ من قبل هذه الميليشيات في محاولةٍ لكبح جماح الغزو الليبي الأعمى للعاصمة.
هذه المستودعات يملك مفاتيحها حرّاس شواطئ أوروبا الجنوبيّة، من ميليشياتٍ تتلقّى معوناتٍ ماليةً من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، جلّهم إذا لم يكن كلّهم، شركاء في استمرار قوافل الهجرة عبر الصحراء الكبرى مروراً بالغرق في المتوسّط، وصولاً للسباحة نحو شواطئ إيطاليا التي عاد فيها الفاشيّون للحكم، دون موسوليني هذه المرّة.
العنصريّة في ليبيا هي جزء من موروثٍ ثقافي، ديني واجتماعي بغيض، توجد منه أشكالٌ مختلفةٌ في العالم أجمع، لكن الصورة الليبيّة هي الأكثر قبحاً وبشاعة.
إنها حربٌ قذرةٌ، لا شيء أكثر قذارةٍ منها سوى نصيب أناس لا ذنب لهم غير لون بشرتهم، ووجودهم في المكان الخطأ، وهي مشكلةٌ ليبيّةٌ أيضاً يعاني منها ليبيّون آخرون، فأثناء تهجير تاورغاء مثلاً خرجت أصوات تبّرر المسألة كون سكان المدينة "عبيداً" لم يتمّ تحريرهم وفق الشريعة، ولا يحقّ لهم أصلاً امتلاك الأراضي أو الإمامة في الصلاة أيضاً، وفي جزء ليبيا الجنوبي يّتهم التبو بأنهم مرتزقة بسبب امتداد قبائلهم في دول الجوار الجنوبيّة - تشاد والنيجر - واتهامهم بالقوميّة في بلدٍ لا إنجاز يمتلكه سكانه سوى قوميّةٍ أخرى.
العنصريّة في ليبيا ليست ظاهرةً عابرة، بل هي جزء من موروثٍ ثقافي، ديني واجتماعي بغيض، توجد منه أشكالٌ مختلفةٌ في العالم أجمع، لكن الصورة الليبيّة هي الأكثر قبحاً وبشاعة، لا لشيء سوى كون هؤلاء الملعونين بلعنة السكن في مربع الصحراء الليبيّة، يمتلكون طريق العبور نحو أوروبا، بالإضافة الى كمٍّ من الكراهيّة، أو فلنقل جلّهم لا جميعهم، يكفي لأكثر من عشرة أجيال إلى الأمام، ما لم ينته هذا الجيل من قتل نفسه طبعاً، وكان الله في عونك إذا كان في بشرتك ما يكفي من الميلانين لتحمل شبهة الأفريقي، في بلدٍ كان يحمل اسم أفريقيا نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 16 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت