في بدايات القرن العشرين، بزغ مفهوم العلمانية في العالم العربي لمحاولة التوفيق بين مستجدات العصر الفكرية والعلمية وبين أوضاع المسلمين. وما لبث هذا المفهوم أن صار موضعاً للصراع بين مؤيد ومعارض، وبين هذين الفريقين ظهرت فرق أخرى تدّعي الحياد وتستخدم مصطلحات ومفاهيم أخرى لتثبت حياديتها مثل "المدنية" و"الديمقراطية" و"المدنية ذات المرجعية الإسلامية".
حتى اليوم، لم ينته هذا الصراع، ولا زالت أسئلة كثيرة تعتري سؤال العلمانية وإمكانية قبولها في المجتمع العربي. فهل يمكن التنبؤ بمستقبل العلمانية في الشرق الأوسط؟ وهل العلمانية هي الطريق الوحيد للنهضة العربية أم هناك طُرق أخرى بالفعل منعنا عن إدراكها الجوّ الملبد بالصراع بين التيار العلماني العربي وخصومه؟
الصراع على "الخلافة"
قبل البدء بالحديث عمّا أثارته العلمانية من جدل في الشرق الأوسط، لا بد من استذكار حدث مفصلي مثّل علامة فارقة في تاريخ الشرق الأوسط وهو انقلاب الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك (1881- 1938) على الدولة العثمانية وقضائه نهائياً على آخر نسخة من الخلافة الإسلامية رسمياً عام 1924. أوجد هذا الحدث تحدياً وصراعاً كبيرين بين النخب والتيارات الفكرية في المنطقة، فقد انقسمت بين رأيين يدّعي كل منهما الأحقية في تمثيل الشعوب في المستقبل.
أحد الرأيين اعتبر "أن الأخذ بنظام الحكم من الغرب وإحلاله محل النظام الإسلامي هو خروج عن الإسلام، وأخذ هؤلاء يقررون أن الخلافة ملك للمسلمين جميعاً وليست للأتراك وحدهم، وأن إلغاء الأتراك للخلافة غير شرعي، وأن الخلافة باقية وعلى المسلمين أن يتخذوا لها مستقراً غير بلاد الأتراك"، كما أشار محمد الأمين في كتابه "الإخوان المسلمون وبداية طرح المشروع الإسلامي".
وفي المقابل، بشّر المفكر الإسلامي خالد محمد خالد (1920- 1996)، في الفصل الثالث من كتابه "من هنا نبدأ" الصادر عام 1950، بأن الإسلام في جوهره ليس دولة وحكومة بل دعوة وعقيدة وهداية، وبأن أي ادّعاء بأن للإسلام دولة هو طريق محفوف بالمخاطر للدولة الدينية ونماذجها الفاشلة في التاريخ، بينما شرح في الفصل الأول كيف أن الادعاء بالخلافة وبأن للإسلام حكومة دينية هو في حقيقته دعوة للكهنوت وتقديس الرجال (انقلب خالد محمد خالد في الثمانينيات على رأيه هذا). ويمكن اعتبار هذا الطرح استمراراً لطرح الشيخ علي عبد الرازق (1888- 1966م) الذي أصدر عام 1925 كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وعمل فيه على إثبات أن الخلافة مشروع دنيوي بالأساس وليست مشروعاً دينياً، والإسلام يخلو من أي دعوة للكهنوت والدولة الدينية، وتطبيقات السلف وحقيقة القرآن يخلو كل منهما من دعوات خلط الدين بالسياسة.
خصوم متنوّعون للعلمانية
ليس كل خصوم العلمانية من رجال الدين، بل منهم مثقفون وفلاسفة رأوا أن استيراد العلمانية على النمط التركي هو لزوم ما لا يلزم، وهو مجرد تقليد للغرب المسيحي ليس إلا. واشتهر من أصحاب هذا الرأي حديثاً المفكر والروائي المصري يوسف زيدان في محاضراته الأخيرة، كمحاضرتيه "هل العلمانية هي الحل أم هي المشكلة؟" التي بثها على يوتيوب في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، و"هل الإسلام دين ودولة؟" التي نشرها على الموقع نفسه في كانون الثاني/ يناير 2023.
ويتفق مع هذا الرأي المفكر المغربي محمد عابد الجابري. يقول في كتابه "حوار المشرق والمغرب" الصادر عام 1990: "من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاريّ الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعبّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي" ويضيف: أن "العلمانية هي نموذج لإشكالية عادمة اللزوم ومستغنى عن خدماتها، لأن العلمانية تعني فصل الدولة عن الكنيسة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصله عن الدولة".
ويميل إلى هذا الرأي أيضاً المفكر والسياسي السوري برهان غليون. يقول في كتابه "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" إن العلمانية إشكالية مصطنعة ومنقولة عن الغرب.
هل "العلمانية هي نموذج لإشكالية عادمة اللزوم ومستغنى عن خدماتها، لأن العلمانية تعني فصل الدولة عن الكنيسة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصله عن الدولة"؟
بدوره، يتحدث حسن حنفي في كتاب "حوار المشرق والمغرب"، وهو يضم حواراً بينه وبين الجابري، عن العلمانية بوصفها خاصية "نصرانية". يقول: "قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح أنطون ونيقولا حداد وسلامة موسى وولي الدين يكن ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة والدين لله والوطن للجميع، والملاحظ أنهم كلهم من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام الذين ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون للإسلام ديناً أو حضارة" ويضيف: "أدى ذلك بالحركات الإسلامية إلى رفض العلمانية عن حق وربطها بالتغريب بما يتضمن ذلك من استعمار وتبشير".
باختصار، تتلخص مُجمل رؤى هذا الفريق بأن العلمانية جاءت متوافقة مع الاستعمار الغربي من جانب، ومع التبشير المسيحي من جانبٍ ثانٍ، وهي مفهوم يتسق مع التاريخ الأوروبي وما شهده من صراع مع الكنيسة، بينما لا تتسق مع التاريخ الإسلامي الذي، بخلاف الغرب، لم يشهد كهنوتاً.
أنصار العلمانية
فريق آخر من المفكرين العرب لم يكن ينظر إلى العلمانية بهذا الشكل، بل نظر إليها بمنظور فلسفي، ومنهم كل من المفكر المصري مراد وهبة والمفكر السعودي تركي الحمد. نظرا إلى العلمانية كوسيلة لدحض السلطة الدينية واعتبرا أن من الواجب على مَن يتصدى لهذا الملف أن ينظر إلى مسألة فصل الدين عن الدولة بمنظور عقلي أولاً منعاً لشخصنة القضية وربطها بنماذج استعمار وعبودية وتبشير وخلافه.
يقول وهبة في كتابه "الإرهاب وتدريس الفلسفة" إن "كل معتقد من حيث هو مطلق لا يعترف بالمطلقات الأخرى إلا على أنها نسبية، أما هو فمطلق، وفي عبارة أخرى يمكن القول بأن المطلق بحكم طبيعته هو واحد ولا يمكن أن يكون إلا واحداً، وهكذا يمتنع المطلق عن الاعتراف بأن له بديلاً، ومعنى ذلك أنه إذا كان ثمة مطلق فليس ثمة مبرر لافتراض مطلق آخر له طبيعة مغايرة، بيد أن امتناع المطلقات البديلة لا يعني استبعاد المطلقات بل يعني أنه ليس في إمكانها التعايش سوياً، وهذه هي المفارقة الثانية لمفهوم المطلق وحذفها يستلزم حرباً ضد هذه البدائل، وإذا كان كذلك فالقتل لازم من الدفاع، ومن ثم تبزغ علاقة بين المطلق والقتل".
"تخلّفنا عن الآخر هو الذي حوّل الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود حتى زهق الناس واتجهوا للعلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وليبرالية وحرية وتقدم، فالعيب فينا وليس في غيرنا وفي تقليدنا للغير وليس في إبداعنا الذاتي"
أما تركي الحمد فيقول في كتابه "دراسات أيديولوجية في الحالة العربية" إن "المطلق شيء غريب على الواقع المحسوس والذي هو أساس وقاعدة العلم... إن العقلية الميتافيزيقية والعقلية العلمية نمطان مختلفان من التفكير والبحث، يجب ألا يُدمَجا، وإلا اختلطت الأمور وضاعت الحقيقة في خضم ذلك. لكل عقلية منهجها وطريقة تفكيرها، والنهج السليم هو في عدم الخلط... فإذا أردنا المطلق فإن المنهج العلمي ليس هو الطريق، وإذا أردنا الواقع المحسوس فإن الميتافيزيقا ليست هي الطريق... وبناء على ما سبق فإنه يبدو من الظاهر أن التنظير في علم السياسة يحتل موقعاً منخفضاً نسبياً مقارنة بالعلوم الأخرى في الاقتصاد والاجتماع".
ويظهر من رؤية الحمد أنها تضيف إلى رؤية وهبة أن السياسة فرع من فروع العلم، وتختلف عن الدين، لكن الاهتمام بها يمثل عنصراً أُهم مقارنة بالاجتماع والاقتصاد المستقليْن عملياً عن العقائد.
بين العلمانية والإسلام
برغم أن حسن حنفي يرى أن العلمانية العربية التي بشّر بها المفكرون في بدايات القرن العشرين هي نموذج مرفوض وعائب مثلما تقدَّم، لكنه في ذات الوقت يعتبر أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية في مضمونه، فيقول: "الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية، إنما تخلّفنا عن الآخر هو الذي حوّل الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود حتى زهق الناس واتجهوا للعلمانية الغربية بما تمثله من عقلانية وليبرالية وحرية وتقدم، فالعيب فينا وليس في غيرنا وفي تقليدنا للغير وليس في إبداعنا الذاتي" (حوار المشرق والمغرب).
حتى أن واحداً من أكبر زعماء الإسلام السياسي وهو الشيخ أبو الحسن الندوي (1913 – 1999) يقول بأهمية العلمانية لبلاده الهندية من هذا المنطلق، وهو الصراع الحتمي والعسكري بين المطلقات وخوفه على الأقلية الهندية من تغوّل الهندوس. كتب: "العلمانية تشبه شجرة لا تقربها الحيّات والعقارب والدويبات السامة الأخرى، وهي ضمان لسلامة الشعب الهندي وسلامة البلاد" (مجلة البعث الإسلامي، عدد 9، مجلد 36، جمادي الأولى 1412هـ).
وعليه، تتضمن العلمانية نقاط قوة لم ينفك خصومها عن الاعتراف بها، وتتلخص في رفض السلطة الدينية والكهنوت وعدم حصر الدين في الشعائر والطقوس والفصل بين الدين كمفهوم تعبّدي وعقائدي ثابت وبين القوانين والحدود المتغيرة وحماية الشعوب من العنف الطائفي والديني. ومن هذه الجزئية الأخيرة، يظهر لنا جانب آخر تبدى في نظرية المفكر المصري عبد الوهاب المسيري عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، وهي نظرية تميل نوعاً ما إلى رؤية حسن حنفي.
ويُثار سؤال: هل للإسلام بالفعل نموذج سياسي خاص به أم هو خاضع لتطور وعوامل الزمان والمكان؟ عن ذلك، يحاول الأديب المصري محمد حسين هيكل (1888- 1956) الإجابة بقوله في كتابه "الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة": "لم يضع النبي العربي نظاماً مفصلاً للحكومة الإسلامية، على أن ما جاء به من عند الله تنظيماً لقواعد السلوك والمعاملات كان مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره، وقد بدأ هذا التنظيم السياسي تطوره البطيء منذ عهد النبي، ثم كان تطوره أكثر وضوحاً عقب حروب الردة، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي بدأت العوامل الخارجية تُحدث أثرها في هذا التطور".
ويُضيف أن أبا بكر وعمراً وعثماناً "كانوا أولياء على قومهم باختيار قومهم ومبايعتهم إياهم، أما الملوك الذين جلسوا على عرش المملكة الإسلامية فكانوا يرون أنهم تسنموا هذه العروش بحق الفتح، أولئك إذن ولاهم الشعب فهم وكلاؤه، وهؤلاء غلبوا الشعب على أمره، وتسلطوا بقوة البأس على رقابه، فهم سادته وحكامه".
ويتابع رؤيته بالقول إن هذا التطور نشأ عنه "ما كان أبعد أثراً في العالم الإسلامي كله، هذا الحكم المطلق الذي جعل لأمير المؤمنين ما كان لإمبراطور الروم ولعاهل الفرس من سلطان غير محدود"، في إشارة واضحة إلى خطورة الحكم الديني ورفض سلطانه الذي يجعل من الملوك والخلفاء آلهة في الواقع لهم سلطات غير محدودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون