عام 1952 تقريباً، تردد أستاذ الفلسفة المصري حسن حنفي، وكان طالباً حينذاك، على شُعبة جماعة الإخوان المسلمين في باب الشعرية، واحد من أحياء القاهرة، حيث تعرّف على سيّد قطب وقرر أن يطلب منه نصيحة. وبحسب روايته للموقف، في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان "ذكريات": "سألتُه أنني أريد أن أحول الإسلام إلى منهاجٍ إسلامي عام، فنصحني بقراءة أبي الأعلى المودودي".
منذ تلك اللحظة، وقع حنفي (1935-2021) تحت تأثير قطب (1906-1966) ومؤلفاته عن العدالة الاجتماعية والرأسمالية والسلام العالمي من وجهة النظر الإسلامية، وصولاً إلى تفسيره "في ظلال القرآن" الذي وصف ظهوره ضمن اتجاه التفاسير النفسية الاجتماعية بأنه لم يظهر إلا "عندما دعت الحاجة إلى إعادة الوحي إلى قلوب الناس وشعور العامة"، كما ذكر في كتابه "دراسات فلسفية: في الفكر الإسلامي المعاصر".
في ما بعد، سعى حنفي إلى وضع مسارين من أجل تحويل الإسلام إلى منهج حياة عام: الأول من خلال مشروع سماه "التراث والتجديد" لتحديد موقفه من التراث العربي ومن الحضارة الغربية ومن الواقع الراهن، والثاني من خلال مشروع أطلق عليه "اليسار الإسلامي" يقوم فيه بالتنظير لاستئناف دور جماعات الإسلام السياسي.
المنشية والمنصة... اغتيال رئيس جمهورية
في كل من حادثتي المنشية والمنصة، جرى التخطيط لاغتيال رئيس جمهورية. الأولى فشلت في استهداف الرئيس جمال عبد الناصر، عام 1954، والثانية نجحت في اغتيال الرئيس أنور السادات، عام 1981. هاتان الحادثتان دعتا حنفي إلى وضع تصورات جديدة للحركات الإسلامية، منعاً للصدام الذي أعقب كل حادثة. فهو من ناحية يريد استكمال طريق الإخوان ومشروع سيد قطب، ومن ناحية أخرى يريد منع الصدام مع السلطة القائمة.
في كتابه "الدين والثورة في مصر، ج. 8"، يأسف حنفي لخروج الإخوان من المشهد عقب حادثة المنشية، فبرأيه، لم تبقَ في الساحة "لتربية النفوس" فـ"خربت الذمم وفسدت الضمائر وتهرأ الناس وضاع الولاء".
هذه التربية التي تخلت عن القيام بها جماعة الإخوان وباقي الجماعات حرمت أستاذ الفلسفة من رؤية جيل جديد مستعد للشهادة يحمل نفس حماس أعضاء حركة الجهاد الذين أشاد بهم متجاهلاً العمليات الإرهابية التي ارتكبتها، في حديثه عن مميزات الجماعات التي تقوم بـ"إعداد جيل يعتز بالإسلام، ومستعد للشهادة، مخلص لله ولرسوله، يعمل لتحقيق أهداف الأمة، وأصبح يضرب به المثل في التضحية والفداء، والصلابة في السجون، والصمود في وجه التعذيب، ويتضح ذلك في هتافات الجماعة الإسلامية في المحاكمات الأخيرة"، في إشارة إلى محاكمات عام 1982 المعروفة بـ"قضية الجهاد الكبرى" والتي ضمت أعضاء تنظيم الجهاد، وتلت اغتيال الرئيس المصري أنور السادات.
ملاحظاته التي قدمها حول عيوب الحركات الإسلامية جعلته يطور نظرته إلى الحاكمية، محاولاً تقليل الخوف منها بالقول "إن الحاكمية لله توحي للجاهلين أن يجعلوا منها حكماً ثيوقراطياً فينفر المثقفون من الحكم الإسلامي"، مهتماً في الوقت ذاته بالتنظير لفكرة أن "إعداد الأمة للحكم الإسلامي أسبق من الوثوب على السلطة لإقامة الدولة الاسلامية"، داعياً إلى تغيير الخطاب بحيث يتم الابتعاد عن "الابتداء بالحاكمية"، بحسب كتابه "الدين والثورة في مصر، ج. 8".
كان حنفي يحذّر من الشعارات التي تجعل من الحكم الإسلامي نقيضاً للأنظمة القائمة، ورأى أن ذلك أدى إلى وقوع الحركة "في جدل الكل أو لا شيء، وقد أدى هذا المنطق الصارم في الممارسة إلى الحصول على لا شيء، بل خسرت الحركة الإسلامية مكتسباتها الأولى".
في ذات الصدد، يحذّر المفكّر المصري من التركيز على العبادات بوصفها ذروة الحكم الإسلامي، أو اعتماد الحدود كمقياس له، ومن التركيز على الأخلاقيات العامة، أو النظرة التطهيرية للمجتمع، ضد أخلاقيات الجنس والانحلال والإباحية، لكونه يراها ليست أولوية الآن.
أمام موقف حنفي من جماعات الأصولية الإسلامية، شعر أستاذ الفلسفة المصري فؤاد زكريا (1927-2010) بالحسرة وعبء المسؤولية تجاه أفكار حنفي التي طالعها في مقالات كتبها الأخير في مجلة الوطن الكويتية تعليقاً على محاكمات تنظيم الجهاد، ففي الوقت الذي رأى حنفي أنها تمثل مستقبل البلاد، فإن زكريا في كتابه "الحقيقة والوهم في الصحوة الإسلامية" يعتبرها "مظهراً صارخاً من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير".
"رغم أنه يدعو جماعات الإسلام السياسي إلى عدم الصدام مع مخالفيها، فإن المرونة التي ينشدها حسن حنفي ليست على أساس التعددية وقبول الآخر، ولكنها من باب التغاضي مؤقتاً، لاتقاء الشر، وإلى حين تتمكن قوة الحركات الإسلامية من إزاحة التيارات المخالفة لها"
وبحسب زكريا، فإن "الخطر الحقيقي لهذه المقالات يكمن في تناولها لأشد التيارات المعاصرة حساسية في العالم العربي المعاصر، وهو التيار الديني في أشد اتجاهاته تطرفاً، وتصويرها لهذا التيار وكأنه هو موجة المستقبل في العالم العربي، واستخدامها مناهج حديثة في التحليل من أجل إضفاء طابع الأصالة والوطنية والتحرر على هذا التيار".
ومندهشاً من صمت حنفي أمام أفكار كتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فراج، أحد أخطر قيادات تنظيم الجهاد، وعدم توقفه لمناقشتها أو التعليق عليها، أشار زكريا إلى أن "العقول الشابة عانت طويلاً من التضليل الفكري الذي يكتسي رداء الدعوة إلى إصلاح الأوضاع وتغييرها".
مندفع في ثقافة الفتنة
نظرة حنفي الحقيقية للمخالفين له تتكشف حينما يدعو أعضاء الجماعات الإسلامية للتخلي عن الصرامة الشكلية وألفاظ السب واللعن، و"أن تنظر إلى الحركة العلمانية باعتبارها من المؤلفة قلوبهم تتودد إلى أنصارها فقد نشأت الحركة العلمانية في غياب البديل الإسلامي الثوري وقد آن الأوان لإعادتها إليه".
لا يتورع حنفي عن دعوة الحركة الإسلامية لتملق المخالفين لضمان "تأليف قلوبهم"، وذلك بهدف الاستحواذ على أنصارها، وهي طريقة لجأ إليها النبي محمد إبان ظهور دعوته لاتقاء شر البعض.
ورغم أنه يدعو جماعات الإسلام السياسي إلى عدم الصدام مع مخالفيها، فإن المرونة التي ينشدها ليست على أساس التعددية وقبول الآخر، ولكنها من باب التغاضي مؤقتاً، لاتقاء الشر، وإلى حين تتمكن قوة الحركات الإسلامية الشعبية من إزاحة التيارات المخالفة لها.
لذلك، لاحقت تهمة الطائفية وممارسة "ثقافة الفتنة" حسن حنفي، وقد ظهرت أفكاره ذات الصلة في معالجته لقضية العلمانية تحديداً، إذ قلل من أصالة فكرتها، وهو ما لاحظه المفكر السوري جورج طرابيشي (1939-2016) أثناء حديثه عن خصوم العلمانية الذين اعتبروها "إشكالية مستوردة روّج لها نصارى الشرق".
يشرح طرابيشي، في كتابه "هرطقات 2"، أن خصوم العلمانية اتهموا نصارى الشرق باستيراد العلمانية لتنظيم علاقاتهم بالمسلمين، بينما يذهب حسن حنفي إلى أبعد من ذلك "باتهامه مستوردي هذه الإشكالية العلمانية، أي نصارى الشرق بالعمالة الحضارية للغرب، قائلاً بالحرف الواحد: قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح أنطوان ونقولا حداد وسلامة موسى وولي الدين يكن ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة والملاحظ أنهم كلهم من النصارى وغالبيتهم من نصارى الشام الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، لا ينتسبون إلى الإسلام ديناً ولا حضارة".
ويعلق طرابيشي على اقتباسه من حنفي في الهامش: "نلاحظ أن حسن حنفي لا يكتفي بتغييب أسماء نهضويين علمانيين مسلمين بارزين من أمثال الكواكبي وقاسم أمين ولطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وإسماعيل أدهم وإسماعيل مظهر فحسب، بل كان اندفاعه في ممارسة ثقافة الفتنة يجعله يدرج في عداد نصارى الشام نهضوياً مسلماً طليعياً هو ولي الدين يكن".
استئناف دور الحركات الإسلامية
"مستقبل العمل السياسي مرهون بتفسير الدين تفسيراً تقدمياً". هكذا يرى حنفي في "الدين والثورة ج. 8". لذا استعد لهذا المستقبل بتأسيس "اليسار الإسلامي" الذي يسعى إلى ضم الحركات الإسلامية تحت لوائه، كما يطمع في الالتفاف على التيارات الأخرى بحجة الاشتراك معها في المطالب مثل: العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني. ووفقاً لما ذكره في كتاب "حوار المشرق والمغرب"، "التحدي لنا هو كيف يمكن تحقيق أهداف الفريق العلماني، ما تصبو إليه مجتمعاتنا من حرية وتقدم، وفي الوقت نفسه كيف نستطيع أن نحقق مطالب الفريق الثاني وهو تطبيق الشريعة الإسلامية".
يشرح جورج طرابيشي أن خصوم العلمانية اتهموا نصارى الشرق باستيرادها لتنظيم علاقاتهم بالمسلمين، بينما يذهب حسن حنفي إلى أبعد من ذلك "باتهامه مستوردي هذه الإشكالية العلمانية، أي نصارى الشرق بالعمالة الحضارية للغرب"
ورغم أن حنفي اعتبر الحاكمية ردة فعل خاطئة على التيارات العلمانية، فإنه من جهة أخرى يصر على ثورة إسلامية ودولة تحقق الشريعة الإسلامية. وبحسب طرابيشي، في كتابه "هرطقات 1": "معلوم أن أول من صاغ عقيدة الحاكمية الإلهية هو الباكستاني أبو الأعلى المودودي، قبل أن يتناقلها عنه ويدخلها إلى الحقل التداولي للثقافة العربية المعاصرة سيد قطب المؤسس التاريخي الثاني لحركة الإخوان المسلمين، لتصير من بعده عقيدة مشتركة لجميع التيارات الإسلاموية ولمنظريها المعتدلين أو المتطرفين، بمَن فيهم مَن ينمون أنفسهم إلى العقلانية الإسلامية من أمثال راشد الغنوشي وحسن حنفي ومحمد عمارة".
لم يتنصل حنفي من تأثير الإخوان عليه، ولا من وقوعه تحت تأثير قطب، لدرجة جعلته يعتقد أنه لو كان حياً لشارك في تياره. في كتابه "الدين والثورة، ج. 8"، يشرح أن يساره الديني "تطوير لبعض أجنحة جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت في الظهور بعد دخول الشهيد سيد قطب في الجماعة في أوائل الخمسينيات"، ويضيف: "ولو قدر للإمام الشهيد (يقصد قطب) أن يحيا حياة طبيعية خارج الجدران، وأن يستمر في تطوره الفكري وممارسته اليومية لأصبح من ركائز اليسار الديني".
وبحسب رؤيته التي عرضها في الكتاب المشار إليه لدور اليسار الإسلامي في إحياء التراث القديم، فإنه يأمل أن "نؤسس التفسير الشعوري الذي يجعل القرآن وصفاً للإنسان وعلاقاته بالآخرين ووضعه في العالم ومكانه في التاريخ، يقيم مجتمعاً، ويؤسس دولة طبقاً لما وصل إليه جيلنا من علم وخبرة، نخاطب به عصرنا، ونسير إثر تفسير الإمام الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن".
ويُقرِّ في الكتاب ذاته بأن "اليسار الإسلامي ينتسب للحركات الإسلامية المعاصرة: السنوسية، ثورة عمر المختار، المهدية في السودان، رابطة العلماء الجزائريين، ثورة الريف بالمغرب وعبد الحميد بن باديس، وعبد الكريم الخطابي، والشهيد حسن البنا وسيد قطب والشهيد عبد القادر عودة".
هو تيار ثوري إسلامي يستعد للثورة الإسلامية التي لطالما تمناها حنفي على الطريقة الإيرانية. وحسب ما ورد في سيرته الذاتية "ذكريات": "اندَلعت الثورة الإسلامية في إيران، وعاد الإمام الخميني من منفاه في باريس زعيماً لها. وكان هذا حلم حياتي أن تقوم ثورة باسم الإسلام". فهذه الثورة برأيه، تؤسس لوحدة إسلامية سماها "الجامعة الإسلامية" و"الجامعة الشرقية" متجنباً تسميتها بالخلافة، وتبدأ هذه الوحدة بشكل تدريجي كما شرح في "الدين والثورة ج. 8" من وحدة الأمة في مصر.
تزداد خيالات حنفي حول مستقبل تياره الإسلاموي، فيجعل مهمته: "تحجيم الغرب، أي رده إلى حدوده الطبيعية، والقضاء على أسطورة عالميته بعد أن جعل نفسه مركز الثقل الحضاري في العالم".
وتحجيم الغرب والانتصار عليه اتجاه عام في كتابات حنفي، دفع طرابيشي إلى مناقشة إحساسه بالدونية أمام زهو الحضارة الغربية. ففي كتابه "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي"، يتحدث طرابيشي في قرابة الـ105 صفحات عن مرحلة النكوص الذي تعيشه الثقافة العربية منذ نكسة حزيران/ يونيو 1967، ثم يعرض لأهم نموذج نكوصي على الساحة الفكرية بحسب رأيه وهو حسن حنفي، في باقي الصفحات التي تبلغ قرابة الـ190 صفحة.
في كتابه المذكور، تساءل طرابيشي عن كيفية وضع برنامج التحدي والتحجيم موضع التنفيذ، في الوقت الذي لا تزال فيه الهوة تتسع بين الطرفين، وحدد إجابته بأن السبيل الوحيد بل البديل الوحيد هو تنفيذ حكم الإعدام بحق العدو شعائرياً ورمزياً لا واقعياً، وهو ما اتجه إليه حسن حنفي في مؤلفاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...