تحرص هند (48 عاماً)، وهي صاحبة محل ملابس، على دعوة جيرانها المسلمين إلى مائدة الإفطار في منزلها وليس في المطعم، فتعدّ لهم طعاماً من صنع يديها، يقتصر على وجبات الأسماك، حرصاً منها على ألّا تحرجهم بأطباق من الدجاج أو اللحوم الحمراء.
فهند التي تتبع للديانة المسيحية تدرك حساسية موضوع الذبح الحلال، والشكوك التي قد تساور المسلم بوجود لحم خنزير على الطاولة، فتعدّ الصيادية، أو السمكة الحرة، أو أي نوع من المأكولات البحرية المقلية أو المشوية.
وهي لا تهمل أدق التفاصيل على المائدة الرمضانية، من وجود التمر والعصائر مثل الجلاب والتمر الهندي، إلى الشوربات والسلطة، وحلويات بعد الإفطار. وغالباً ما تختارها قطايف عصافيري، تعدها بنفسها رغم ضيق الوقت لديها كي تمنح جيرانها الاهتمام الكافي.
"السكبة" من البيت المسيحي إلى البيت المسلم
تقول هند لرصيف22 إنها تعرفت إلى جيرانها قبل 14 عاماً، منذ انتقالها إلى اللاذقية، وقد كانوا عوناً لها بعد وفاة زوجها قبل 12 عاماً، فجارتها ليلى لم تتركها ولو لحظة، ولا تنسى كيف أن زوج ليلى كان يمد لها يد العون متى احتاجتها، وتضيف: "كان يقول لي، خيتي هند أنا موجود ومثل أخوك، لا تترددي في أي طلب تحتاجيه".تختصر هند العلاقة مع جيرانها المسلمين بأنها عبارة عن "تعايش سلمي بالمعنى الحرفي"، إذ لا أحكام مسبقة، ولا حدود للنقاشات بين الطرفين، وحتى المزاح المتعلق بالدين كان موجوداً، وهذا ما كسر الحاجز بشكل كامل بين الطرفين.
تقدّم هند وهي مسيحية السمك في دعوة الإفطار التي تقيمها لجيرانها المسلمين، تحاشياً لأية شكوك قد تراودهم حول الذبح الإسلامي أو لحم الخنزير في حال كان الطبق غير بحري
بعيداً عن العزائم، فإن هند لا تتجاهل تقديم السكبة لجيرانها في موعد الإفطار، وحين تنوي إرسالها، تحرص على تغيير برنامج يومها لتكون طبختها جاهزة في موعد الإفطار، إذ ترسل لهم سكبة ساخنة طازجة، وتلبي في يوم آخر دعوتهم لها ولأولادها إلى مائدة الإفطار.
تعتبر محافظة اللاذقية على الساحل السوري من أكثر المناطق الجغرافية انفتاحاً على الآخر في سوريا، كونها تضم خليطاً من الطوائف والديانات، ولا يخلو الأمر من بعض التحديات أو الحساسيات التي تحكم العلاقة بين الطوائف، إلا أن الحالة السائدة هي التعايش اللطيف، مع احترام متبادل بالحد المعقول بين الجميع.أبو أحمد وجورج على السحور
يمتلك جورج محل سمانة في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في المدينة، افتتحه قبل نحو أربع سنوات، وهناك تعرف على الكثير من الجيران الذين يصفهم باللطفاء غير المنغلقين على أنفسهم.يقول لرصيف22 إن صداقة نشأت بينه وبين عائلة أبو أحمد التي تقيم بالقرب من محله التجاري، وذلك من خلال أحمد، فجورج وزوجته لم ينجبا أطفالاً رغم مرور ست سنوات على زواجهما، ورأى جورج في أحمد ولداً له، فهو يافع مهذب ولطيف المعشر.
يقول جورج إن أحمد كان يتردد بشكل كبير على محله، وقد أحبه من قلبه فأصرّ على التعرف إلى عائلته، فنشأت علاقة صداقة قوية بين العائلتين، تخللها تبادل الزيارات، والعزائم في شهر رمضان لأن والدة أحمد تصوم الشهر كلّه بينما زوجها لا يصوم.
أم أحمد تصوم بينما زوجها لا يصوم، وزوجة جورج ترغب بالصيام معها كي تعيش التجربةوكما غالبية العلاقات في اللاذقية، فإن المزاح الثقيل الذي يقترب من الدين له حضوره الدائم، في العلاقة بين العائلتين، يقول جورج ويضيف أنه مع أبو أحمد يطلبان من أم أحمد ساخرَين بركاتها ودعواتها لكونها صائمة وربما تستجيب لها السماء، بينما تقرر زوجته أن تقف في صف أم أحمد، وتقول له إنها تفكر بالصوم معها لعيش هذه التجربة، فيردان عليها بصوت واحد تقريباً: "نحن أساساً صائمون مع نحو 23 مليون سوري"، في إشارة إلى سوء الأوضاع المعيشية في البلاد المنهكة بالحرب والفساد.
بخلاف مائدة هند، فإن مائدة إفطار جورج تتضمن الدجاج واللحوم الحمراء، فالعلاقة بين الطرفين غير متكلفة على الإطلاق. وهناك ثقة مطلقة من جهة، ومن جهة ثانية فإن كثيراً من السوريين اليوم تخلّوا عن مخاوف تناول الحيوانات غير المذبوحة على الطريقة الإسلامية، قياساً بالخوف الذي عاشوه في واقعهم، فالحلول الوسطى تكاد تختفي في هذا البلد، فإما أننا في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار.
أطرف ما في هذه القصة، أنه فور انتهاء وليمة الإفطار والصيام، تبدأ السهرة التي تمتد حتى وقت السحور تقريباً، وخلالها توضع المشروبات الكحولية، مثل البيرة والعرق البلدي، مع صحون المازة المتنوعة، الرجال يشربون العرق، والنساء يشربنّ البيرة، وهذا ينطبق عليه المثل القائل "ساعة إلك وساعة لربك"، يقول جورج ضاحكاً.
لكنها ليست "يوتوبيا"
المجتمع السوري ليس وردياً بالمطلق، واللاذقية رغم كونها مدينة منفتحة بشكل كبير، فإن المضايقات خلال شهر رمضان موجودة، وتتعرض لها فئة لا بأس بها من الناس غير الصائمين.جاك الذي يعيش في أحد أحياء المدينة لا يخفي ضيقه من بعض التفاصيل خلال شهر الصوم، فهو مسيحي لا يصوم، ومن الطبيعي أنه يجب على أصدقائه المسلمين وجيرانه وزملائه في العمل، أن يكونوا مرنين إزاء هذا الوضع، لكن للأسف ليس جميعهم كذلك.
بعد الإفطار تبدأ السهرة التي تمتد حتى السحور، وخلالها يشرب الرجال العرق، والنساء يشربنّ البيرة، وهذا ينطبق عليه المثل القائل "ساعة إلك وساعة لربك"
ينسى جاك (43 عاماً) في بعض الأحيان أن "الدنيا صيام"، وربما يدخن سيكارة أو يأكل ساندويش سريعاً في الشارع، وهنا تبدأ النظرات المستهجنة له خصوصاً في بعض الأحياء التي توصف بأنها متزمتة إزاء الدين.
أكثر ما يسبب الإزعاج للرجل الأربعيني، هو عدم قدرته على ركن سيارته في الزاوية المعتادة بالقرب من منزله، حيث تتحول تلك الزاوية الإستراتيجية خلال شهر رمضان، إلى مكان مناسب لبائع العصائر الذي يضع عربته، ويصر على تركها رغم طلب جاك منه الابتعاد.
وفي حال تطور الموضوع إلى مشادة كلامية أو حتى نقاش عصبي عابر، فإن نظرات المارّة "تأكل جاك" كما يصف الوضع، فيتحول فجأة إلى ذلك المواطن غير المتعايش والذي لا يأبه لعادات وطقوس جيرانه الدينية، وحتى من الممكن أن يصبح ذلك الشخص الذي "يقطع رزق أحد الفقراء" بحسب قوله، وكلّ هذا فقط لكونه يريد ركن سيارته في مكانها المعتاد بالقرب من منزله.
يؤكد جاك أن الكثير من زملائه المسلمين في العمل منفتحون، وبعضهم لا يصوم، وهذا ما يضعه معهم في موقف المتهمين بعدم الصوم، من قبل فئة أخرى يصفها بالمتزمتة، والتي تريد احترام عاداتها، دون أن تبادر باحترام معتقدات وحرية الآخرين، يقول جاك: "يحق لهم أن يصوموا، ويحق لنا ألا نصوم، مللت من نظرات الاستهجان في كل مرة أشعل فيها سيكارة".
طوائف إسلامية لا تصوم
بعيداً عن العلاقة بين المسيحيين والمسلمين خلال شهر الصوم، فإن هناك علاقات أخرى أكثر تشعباً، فاللاذقية تضم ثلاث طوائف تتبع للديانة الإسلامية، هي السنة والعلوية والمرشدية.تتشابه الأعياد الإسلامية إلى حد ما بين السنة والعلويين، إلا أن الصيام لدى الأخيرة ليس فرضاً، بينما يغيب بشكل كامل عن أبناء الطائفة المرشدية التي تتبع نظاماً خاصاً، ولها عيدها الوحيد وهو عيد الفرح بالله، الذي يمتد ثلاثة أيام اعتباراً من 25 آب/ أغسطس في كل عام.
تتشابه الأعياد الإسلامية إلى حد ما بين السنة والعلويين، إلا أن الصيام لدى الأخيرة ليس فرضاً، بينما يغيب بشكل كامل عن أبناء الطائفة المرشدية
لا يمكن اختزال المجتمع السوري في اللاذقية بتلك القصص، إلا أنها تعتبر مدخلاً إلى هذا المجتمع المعقد بتفاصيله العميقة، فالحرب غيّرت كثيراً في مفهوم العلاقات بين الطوائف، قربت البعض فيما بينهم، وشتت علاقات كثيرة كانت قائمة على التعايش السلمي، قبل أن تبدأ الاصطفافات الدينية، التي غالباً لا يجرؤ الأهالي على ذكرها علانية، لما فيها من تبعات قانونية، لكن لا يمكن لأحد أن يمنع التفكير فيها، ولا أن تتطور إلى مشاحنات عابرة ظاهرها لا يشبه باطنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع