تناولت وسائل الميديا في العالم العربي خلال الأسبوع الماضي، فيديو منزلياً مصوّراً لعاملي "اليوغندأمت"، وهي مصلحة رعاية الأطفال الألمانية، وهم يقومون بجرّ طفلين من منزلهما رغماً عنهما وعن أفراد عائلتهما، الذين قاموا بتصوير المشهد ونشره علناً.
وبرغم ما يُعرف عن مصلحة رعاية الأطفال "اليوغندأمت"، من أنها تُعنى بمصلحة الأطفال أولاً، وبأنها لا تقوم بعمليات "خطف" للأطفال، ولا تستهدف أطفال العائلات "المسلمة" ولا تهتم حقاً بزيادة أعداد الأطفال الذين تقوم بتحويلهم إلى المؤسسات المعنية للعناية بهم عوضاً عن عائلاتهم، لكنها تشكل خوفاً وقلقاً حقيقيين لدى العائلات العربية الموجودة في أوروبا.
لا ينمّ الفيديو المسرب عن أي إنسانية، أو اهتمام حقيقي بالطفلين نفسيهما، حتى طريقة حملهما وجرّهما لا توحي بأي نوع من الطمأنينة، بل تبدو عملية "سطو مسلح" أكثر مما تبدو حمايةً لهما. وبرغم أنني دافعت مطولاً عن مصلحة رعاية الطفل في الدول الأوروبية، كوني واجهتها أيضاً بشكل شخصي عند انفصالي عن والد أطفالي، وحصولي على حضانة أطفالي، فقد قام موظفان بزيارتي عندها في منزلي للتأكد من سلامة الأطفال، وبأنني في الحقيقة قادرة على القيام بمهمة رعاية طفلين بمفردي. أتذكر أنني أُصبت بالتوتر الشديد في انتظار تلك الزيارة وقمت بالاتصال بالمحامي الخاص بي نحو عشر مرات لأكرر السؤال نفسه: "هل من الممكن أن يقوموا بسحب الأطفال مني؟".
برغم ما يُعرف عن مصلحة رعاية الأطفال "اليوغندأمت"، من أنها تُعنى بمصلحة الأطفال أولاً، وبأنها لا تقوم بعمليات "خطف" للأطفال، ولا تستهدف أطفال العائلات "المسلمة"
كان السؤال مفاجئاً للمحامي في كل مرة، ثم طلب مني في النهاية أن أكون مسترخيةً وأن أطمئن، فلا يمكن في أي حال سحب الأطفال حتى من العائلات التي تمارس العنف ضد أولادها، ولا من أولئك المدمنين على الكحول أو المخدرات وغيرها، والأمر ليس بسيطاً، وهو بحاجة إلى حالة قصوى وخطر واضح على حياة الطفل الجسدية والنفسية، وقال لي يومها إنه لا يفهم مصدر قلقي نهائياً.
تبدو مثيرةً للاهتمام رغبة بعض وسائل الإعلام العربية في التعامل مع الأمر كاستهداف لأطفال "المسلمين" وتحويل القضية إلى حالات عنصرية وخطف وتنكيل.
عند قدوم الموظفين إلى المنزل، جلسنا لشرب القهوة معاً، وجلس الأطفال معنا، لم يقوموا بسؤالنا عن أي شيء خاص، إذ كان واضحاً أننا بخير. بل على العكس طلبوا مني أن أقوم بالتواصل معهم إن احتجت إلى الدعم النفسي كأم صغيرة نسبياً مع طفلين في بلد لا أتقن لغته.
لا تشبه هذه الحالة ما رأيناه في الفيديو القادم من ألمانيا، الذي لا يمكن أن نتجاهل فيه الصدمة "النفسية" التي تعرّض لها الطفلان عند سحبهما بهذه الطريقة من عائلتهما، ولا يهم في هذه الحالة ما إذا كانت العائلة مؤذيةً وعنيفةً معهما أم لا، فطريقة جرّهما وسحبهما لا تنم عن اهتمام بصحتهما الجسدية أو النفسية. فكيف يمكن أن ينسى الطفلان هذه الصدمة وهذه الحادثة مدى حياتيهما؟
كيف تعمل مصلحة رعاية الأطفال في ألمانيا؟
صرّحت مصلحة رعاية الطفل رداً على الفيديو المسرّب، بأن الموظفين كانوا يقومون بعملهم من أجل تنفيذ حكم محكمة بسحب الطفلين لأسباب قاهرة، وتبقى هذه الأسباب خاصةً بالمحكمة وبعائلة الطفل.
أما عن عمل "اليوغندأمت" بشكل عام، فهي مصلحة قد أُسست بشكل أساسي من أجل حماية الأطفال في ألمانيا، سواء كانوا مقيمين فيها أو مواطنين، وهي لا تضع في أولوياتها سحب الأطفال من عائلاتهم، ولكن على العكس، فإن هذا الخيار يُعدّ أخيراً ولا يتم اتخاذه إلا بعد نفاد الحلول المتاحة، والشك في أن الطفل يتعرض للعنف الجسدي أو النفسي الذي يهدد صحته وحياته، ولا يعني تدخل "اليوغندأمت" في أي حال، سحب الأطفال مباشرةً من عائلاتهم، ولكن يتم طرح الحلول والنقاش والتقصي والتحقق من أوضاع الأطفال، قبل اتخاذ أي إجراء، وفي كثير من الحالات يتم عرض المساعدة على الأهل من أجل التعامل مع أطفالهم، كما يمكن للعائلة نفسها اللجوء إلى "اليوغندأمت" من أجل الاستشارة، خاصةً في ظل وجود طفل مراهق ضمن العائلة، والذي تشك عائلته في أنه يقوم بتصرفات مسيئة إليه شخصياً أو إلى من حوله، كاختفائه عن المنزل لأوقات طويلة، وقيامه بالسرقة وإدمان الكحول أو المخدرات، وغير ذلك من المشكلات التي يواجه الأهل صعوبةً في التعامل معها.
لا ينمّ الفيديو المسرب عن أي إنسانية، أو اهتمام حقيقي بالطفلين نفسيهما، حتى طريقة حملهما وجرّهما لا توحي بأي نوع من الطمأنينة، بل تبدو عملية "سطو مسلح" أكثر مما تبدو حمايةً لهما
كما أن إثبات وجود تعنيف جسدي وضرب للأطفال أو تحرش ضمن المنزل هو أمر ممنوع منعاً باتاً في ألمانيا، ويمكن للطفل نفسه أن يقوم بالشكوى ضمن المدرسة على عائلته أو أفراد أسرته الذين يقومون بتعنيفه، أو يمكن أن تقوم المدرسة نفسها بالتبليغ عن هذه الحالات عند ملاحظتها، ويمكن أن يقوم أي شخص بالتبليغ عن هذه الحالات ولو بشكل سرّي، ولا يعني ذلك أن القضية يتم تثبيتها مباشرةً، ولكن تقوم مصلحة رعاية الطفل بالتحقق والتأكد والتحدث مع الأطفال أنفسهم ومع عائلاتهم، ولا يمكنهم تجاهل أي تبليغ يصلهم، فهم أيضاً ملزمون قانونياً بالتعامل مع جميع هذه القضايا والحالات بغاية الجدية.
في حالات عديدة، تكون الخطوة الأولى عند إثبات حدوث تعنيف جسدي ضد الأطفال، تحذير الأهل ببلاغ رسمي، وتوقيعهم على تعهد بعدم تكرار ذلك أو استخدام العنف كطريقة للتعامل مع الأطفال في أي حال. في حالات أخرى، تتم إعادة الطفل أو المراهق إلى منزل عائلته في حال كانت هذه رغبته ورغبة أسرته، وبعد تعهدهم بعدم المساس بسلامته. لكن رأي الطفل يؤخذ على محمل الجد في جميع الحالات، ولا يتم التهاون بعدم رغبته في العودة إذا كان هذا حقاً ما يريده.
تخلق هذه الحالات قلقاً كبيراً لدى العائلات العربية، فبالرغم من أن القوانين واضحة، لكن التحديات كبيرة جداً في المجتمع الجديد. ففي ظلّ ثقافة واسعة تعدّ "الشحاطة" أو "الشبشب" خياراً تربوياً آمناً، تشعر العائلات بأنها مهددة حقاً، وبأن تصرفاتها مراقبة.
كما أن العائلات تتحاشى التواصل مع "اليوغندأمت"، عند وقوع أبنائهم وبناتهم من المراهقين والمراهقات في أزمات كبيرة، خوفاً من سحبهم وحرمان العائلات من أبنائهم/ بناتهم.
لماذا لا تزال بعض العائلات من أصول عربية تستخدم العنف في تربية الأطفال؟ ولماذا لا تتم محاسبة مصلحة رعاية الأطفال ومراقبة عملها كي تكون الحلول التي تقوم بها تجاه هؤلاء الأطفال أكثر عدلاً وإنسانيةً، وتصب حقاً في مصلحة هؤلاء الأطفال؟
كيف يتناول الإعلام العربي هذه القضايا؟
تبدو مثيرةً للاهتمام رغبة بعض وسائل الإعلام العربية في التعامل مع الأمر كاستهداف لأطفال "المسلمين" وتحويل القضية إلى حالات عنصرية وخطف وتنكيل، كما أن منصات السوشال ميديا وبعض المحطات العربية أعلنت بشكل صريح عند انتشار الفيديو الأخير، أن الطفلين يتم سحبهما من العائلة بسبب تلقين العائلة لهما عدم قبول "المثلية" والميول الجنسية المختلفة، وعلى الرغم من أن الفيديو يثبت قلة المهنية، ويشكل عبئاً ثقيلاً على المشاهدين، في مشهد لا يمكن قبوله أو الاقتناع بأحقيته، إلا أن السبب لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون "عدم قبول المثلية". وحيث أننا لا يجب أن نقبل بمثل هذه الطريقة في التعامل مع قضية حساسة كسحب طفل من عائلته، لكننا لا يمكن أن نواجهها بالكذب على أنفسنا وعلى من يتابع هذه الأخبار. ولا يمكن تحميل قضايا الميول الجنسية والجدل العالمي والعربي حولها، قضية سحب الأطفال نهائياً، فإذا ما تركنا العنوان السائد المتعلق بـ"خطف أطفال المسلمين" وضمهم إلى عائلات مثلية، أو معاقبة عائلاتهم لعدم قبولهم بهذه القضايا، وإذا ما تركنا كل تلك الحجج، وواجهنا الحقيقة، سيبقى لدينا سؤالان واضحان:
لماذا لا تزال بعض العائلات من أصول عربية تستخدم العنف في تربية الأطفال؟
ولماذا لا تتم محاسبة مصلحة رعاية الأطفال ومراقبة عملها كي تكون الحلول التي تقوم بها تجاه هؤلاء الأطفال أكثر عدلاً وإنسانيةً، وتصب حقاً في مصلحة هؤلاء الأطفال؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...