تقول الحكاية إن آلاف الحجاج من وسط إفريقيا وغربها، عبروا بلاد السودان في رحلتهم إلى بيت الله الحرام في مكة. الأوفر حظاً والأرفع مكانةً من زعماء القبائل وقادتها وكبار التجار كانت رحلتهم سريعةً، أي دامت نحو عامين، والبعض الآخر استغرقت رحلتهم من خمس إلى عشر سنوات، والبعض الأخير غير المحظوظ كلياً استغرقت رحلته العمر كله.
حكى لي أحد زملاء الدراسة أن أسرته خرجت مع عشيرة كبيرة من بلاد مالي نحو مكة المكرمة، وعبَر أجداده العديد من الدول والمناطق في النيجر وجنوب الصحراء وتشاد، وكانوا يحملون معهم في تلك الرحلة كل شيء: الأسلحة والأبقار والأغنام والأدوية العشبية والتعاويذ، وكانوا كلما مرّوا بجماعة أو قبيلة انضم البعض منها إلى الرحلة المقدسة، وعندما وصلوا إلى وسط السودان أصبح عددهم كبيراً وبينهم أناسٌ من مختلف الأنحاء. ومن ضمن أماكن الاستراحات المعروفة للحجاج، مدينة سنار، وهي مدينة تقع عند النيل الأزرق في وسط السودان. في تلك المدينة فقد زميلي جدّه؛ غرق في النهر، ومنذ تلك الساعة عاشت الأسرة البالغ عدد أفرادها 6 نساء و4 أطفال بالإضافة إلى مراهق مكفوف، في تلك المنطقة من النهر.
تقول الأسطورة: هناك على الضفة الغربية للنيل عاش الزبالعة، وهم قومٌ ينسبون أنفسهم إلى "الأشراف" والرسول محمد، وأحياناً إلى وجهاء الجزيرة العربية، وكانوا قوماً ذوي علم ومال، يستضيفون الحجاج في ديارهم
تقول الأسطورة: هناك على الضفة الغربية للنيل عاش الزبالعة، وهم قومٌ ينسبون أنفسهم إلى "الأشراف" والرسول محمد، وأحياناً إلى وجهاء الجزيرة العربية، وكانوا قوماً ذوي علم ومال، يستضيفون الحجاج في ديارهم، ويفتحون لهم دواوين الضيافة ودور الاستراحة. لكنهم يوماً بعد يوم وعاماً تلو عام، أصابتهم الغيرة وتساءل أحدهم: "لماذا يحجّ الناس إلى بلاد العرب وراء البحر؟ أليست كل الأديرة لله؟ أليست كل البيوت بيوته؟ أم هم يحجون إلى الرسول؟". ثم هام في تلك الأسئلة يستجوب كل المارين من هناك. أراد، لأنه كان رجلاً ذا مكانة في تلك القرية وله الكثير من المريدين والأتباع، أن يبني "كعبةً" ليتدرب فيها الحجاج المهاجرون ووجد التأييد من الجميع، فبنوا كعبةً استمدوا أوصافها من الحكايات الشفاهية للحجاج العائدين، ثم أصبحت تلك الكعبة التدريب الإجباري لكل الذين سينزلون في استراحتهم الآمنة.
أصبحت تلك الديار عامرةً بالذكر والتلاوة والنيران التي لا تنطفئ في محبة النبي، ثم جمع شخص يُدعى "أبو جريد"، الجميع وأخبرهم بأنه هو النبي المنتظر، وأنه حلم بأن الله اختاره نبياً وعلى الجميع التسليم له والإيمان به، ولأنه لم يكن لديه شيء من المعجزات، كرّمه أهله بركعة إضافية في كل صلاة، فأصبحت صلاة المغرب أربع ركعات وهكذا، ثم حلل لنفسه جميع النساء، وهيمن على المنطقة.
يقول التاريخ إن أحد جنرالات مملكة الفونج "سنار"، في القرن السابع عشر، سمع بما يفعله الزبالعة، فأرسل في إثرهم مجموعةً من الجنود، قتلتهم شرّ قتلة، بمن فيهم من كانوا في المهد، وأحرقوا ديارهم وأخفوا كل ما يُذكّر بهم، وبرسالتهم: "الإسلام الباطني".
لمدة طويلة، ظلّ غموض كافٍ لجعل كل ما يتعلق بطائفة الزبالعة خفياً، مسيطراً، بينما تحولت صفة "الزلبعة" إلى شتيمة أو كلمة سيئة السيرة.
لاحظت الاستخدام السياسي المسموم لكلمة "يتزلبعون"، وجاءت في وصف جماعة سياسية تحاول أن تتكسب عن طريق الدين، وتسلك نهجاً متطرفاً، وتم استهلاك الكلمة في الفضاء السياسي لفترة، ثم اختفت.
أتذكر أنني عندما كنت أعدّ بحثاً عن قارب غارق في وسط نهر النيل الأزرق، أتى إليَّ أحد السكان المحليين وطالبني بأن أنظر إلى الطيور التي تطفو فوق الماء وتقف عليه وكأنها تقف على اليابسة تماماً. تقول الأسطورة هنا إن تلك الطيور رأت ما حدث للزبالعة والمقتلة التي تعرضوا لها، لكنها لم تحرّك ساكناً ثم عادت فأكلت ما تبقى من رفات الأشراف، لذلك عاقبها الله بالوقوف في الماء، ولم تعد تستطيع إدخال رأسها للصيد من جديد. لكن ذلك الرجل الدرويش الغارق في خيالات بالية، لم يجعلني أفكر مرتين، لأنني كنتُ متأكداً من أن هناك سرّاً وراء وقوف تلك الأسراب من الطيور على اليابسة. وفي أثناء قلقي ذلك، كدت أصدّق أنهم كفروا حين آمنوا، وكدت أصدق أيضاً أنهم آمنوا حين كفروا، لكن وسط تلك الأسئلة التي ليست لها إجابات اكتشفت التالي: إن القارب الغارق له سارية أقل من مستوى النهر بميليمترات، تقف عليها الطيور، وتأكد ذلك الاكتشاف بطريقة سهلة، وبهت كل ما في رأسي عن أولئك القوم، لكنهم لم يتركوني بحالي طويلاً.
كنت في رحلة عمل إلى إثيوبيا، وكنت معجباً جداً بمكتبة جامعة أديس أبابا، وما تخطّه الأقلام الأمهرية عن السودان، وبينما كانت تقوم مترجمة سمراء بوصف ما يرد عن حكم مملكة سنار، وكيف أن الجنرال "عجيب المانجلك" قد نزل إلى قرية الزنادقة فدقّ فيهم الموت ونشر بينهم النّار، فهمت أنها تعني الزبالعة. لاحقاً، لاحظت الاستخدام السياسي المسموم لكلمة "يتزلبعون"، وجاءت في وصف جماعة سياسية تحاول أن تتكسب عن طريق الدين، وتسلك نهجاً متطرفاً، وتم استهلاك الكلمة في الفضاء السياسي لفترة، ثم اختفت.
فكرت جدّياً في أن أكتب عنهم روايةً، وبدأت بالبحث عنهم وعن أقارب لهم أو أحفاد أو عن سكان تلك المنطقة. دلّني أحدهم على الوحيدة الباقية من سلالتهم، وذكر لي أنها كاتبة وتعيش في سلطنة عمان وتقوم بجمع كتاب عنهم. انتظرت طويلاً ولم يحدث شيء. بعدها بفترة، وجدتُ كتاباً عن الإسلام الباطني الذي يخاصم مدعي النبوة "أبو جريد"، وهو الرجل المعترض على أن تكون الكعبة والأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية، وخطر على بالي رجل اسمه محمد آدم، ادّعى النبوة في العام 1910، وذكر للناس أنه خليفة المهدي، وأنه المهدي المنتظر الجديد، فكان نصيبه الموت شنقاً في مدينة سنجة التي تجاور منطقة الزبالعة، ثم عرفت أن عدداً من مدّعي النبوة والمهدوية قد ظهروا في هذه المنطقة طوال الفترات السابقة، وحتى هذا اليوم يظهر أنبياء جدد في تلك المناطق الخاصة بجماعات الهوس الصوفي ودراويش الجهل والغفلة.
ولأن منطقة سنار، ككل منطقة ينطلي على شيوخها الدينيين شيء من أفعال الزبالعة، سأحكي لكم قصة الشيخ هجو، أو قرن، الذي عاش في سلسلة جبال لأكثر من 30 عاماً، وعندما أكمل عامه الأربعين، نزل إلى الناس وكان متعلماً عارفاً حافظاً للقرآن والتفسير والأحاديث السنية، ولأجل عودته ضرب على النحاس لمدة 40 ليلةً، منها ليلتان قمريتان بالكامل، وذُبح لأجله 40 خروفاً ونُصبت الخيام، ويُعدّ الشيج هجو، زعيماً دينياً مؤسساً لجماعة اليعقوباب -ينتسب إلى النبي يعقوب- وهي طائفة دينية يدين أتباعها للزعيم بكل شيء.
واصلت البحث عن تلك الجماعة، وذهبت إلى إحدى قرى مدينة "السوكي"، إذ سمعت بأن فيها آخر الزبالعة؛ وجدته رجلاً أبيض البشرة، كريم الخصال، بيته مفتوحٌ للضيوف وعابري السبيل، وله مسبحة من كرات الصندل، وله وقار وشيبٌ أبيض
تحدثت إلى أحد الصحافيين ذات يوم عن قصة الزبالعة، وحكيت له وحكى لي، وبينما كنا منسجمَين في تلك الحكايات أصابت الصحافي نوبة من الارتعاش على مستوي اليدين والوجه. أخافني وكدت أطلب الإسعاف لولا أنه طلب مني أن أُخرج من جيبه العلوي قطرةً أضع منها على عينه اليمنى قطرتَين وعلى اليسرى قطرةً واحدةً، ثم بعد ذلك طلب مني أن أضغط على رسغه بشدّة حتى أسمع صوت تكسّر العظم، وقد فعلت وسط دهشة الناس في المكان العام الذي كنا نجلس فيه. وبعدما وضعت له من القطرة وضغطت على رسغ يده اليمنى بدأ لونه بالتحول والشحوب وهدأ تنفسه حتى ظننته قد توقف، وخمد كأنه مات، وفجأةً عادت إليه الحياة. كان عادياً وكنت متعرّق الوجه واليدين. أخبرني بألا أخاف، لأنه موسوي، وعندما تأتي سيرة الأقطاب لا تتحمّل روحه وتحل في جسده الروح الموسوية!! كدت أفقد رباطة جأشي ورصانتي ولم أسمح للضحكة الصفراء التي كانت تنتظر على شفتي بالخروج أبداً. قاومت بشدة وقررت أن أذهب فوراً، لكننه طمأنني قائلاً: قلت لك لا تخف، فأنا أحمل رسالةً لهداية البشر طبعاً.
لاحقاً واصلت البحث عن تلك الجماعة، وذهبت إلى إحدى قرى مدينة "السوكي"، إذ سمعت بأن فيها آخر الزبالعة؛ وجدته رجلاً أبيض البشرة، كريم الخصال، بيته مفتوحٌ للضيوف وعابري السبيل، وله مسبحة من كرات الصندل، وله وقار وشيبٌ أبيض. أخبرته بما أبحث عنه، فنظر إليّ طويلاً، وبينما كان يهرش على ظاهر كفه وعيناه لا تفارقان عينيّ، قال: لا تبحث يا أخي، فالبحث ناموس الجهلاء. ثم طلب مني أن أجثو بالقرب من قدميه ليُقرِأَني السلام الإبراهيمي ويدعو لي بالبركة، وهنا كان فراق بيني وبين أولئك الزبالعة، وبالطبع لم أجثُ له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...