شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"الزبالعة" طريقة باطنية سودانية متحررة جنسياً منذ ثلاثة قرون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 13 سبتمبر 202201:03 م

في القرن السابع عشر، كوَّن رجل شريف جاء من الشرق، في مكة، مع سبعة مشايخ آخرين، طريقة "الزبالعة" التي شغلت الناس في دولة الفونج وسنار، وإلى اليوم.

في الطريق، أطفأ هؤلاء الصالحون نيران القرى التي حرمتهم الطعام، وتحوّل أحدهم إلى عبد، وتحوّل البقية إلى حطب حمله ومضى بعيداً عن القرى التي حاولت اقتفاء أثرهم دون جدوى. لكن الطريقة شاعت وتمددت مع الشيخ "أبو جريد"، الرجل الثالث والمؤسس الفعلي لسيرتها الأسطورية والغامضة، حتى عُرفت باسمه.

الرجل كان أمّياً وخارقاً، تلقى علومه كفاحاً من الملائكة وتكلم بلسانها. كان في وسعه أن يروّض فيلاً برّياً ويحمل عليه الجريد لبناء مسجد مثلما طلب منه الحاكم السناري، اختباراً لبركته وصلاحه. سُمّي بـ"أبو جريد" كما تقول بعض المصادر، حين هاجمه عبيد الحاكم وجنوده في حشد كبير، بعد خصومة وقعت إثر دسائس ومؤامرات، في بعض أتباع له وكانوا عزّلاً، فقال لمريديه الذين زاغت أبصارهم وتملكهم الخوف: "تسلّحوا بجريد النخل"، وبينما المعركة دائرة كان يُسبّح: "أنا أبو جريد، أنا أبو جريد"، فانتصروا على أعدائهم وولّى جيش الدولة هارباً.

خصومات فادحة

كرّست جماعة "أبو جريد"، نهجاً صوفياً مختلفاً عن السائد في دولة الفونج (1505-1821)، وبدت أكثر ثوريةً وتقدميةً، وأتاحت تحرراً للمرأة في الذكر، وفي مخالطة الرجال في الحياة العامة، وتمتع شيوخها بنزعات تشاركية مع الأتباع والمريدين، من دون أبّهة أو أملاك، مع محبة وتبجيل خاص، وهو ما أغاظ خصومهم الذين رموهم بالكفر والفسوق والإباحية، في واقع يشهد تنافساً شديداً بين الطرق الصوفية التي كوّنت سودان ذلك الوقت.

وبدواعي التملك والتقرب من السلاطين، دعا الزبالعة، الأكثر زهداً في التقرب من السلاطين، خصومهم للمناظرات المفتوحة، لكن خصومهم، الدولة وعلماءها، شنوا عليهم الشائعات والحروب، فقُتل الكثير من الزبالعة في استشهاد جماعي، إبان تحالفها -فيما بعد- مع الدولة المهدية.

كرّست جماعة "أبو جريد"، نهجاً صوفياً مختلفاً وبدت أكثر ثوريةً وتقدميةً، وأتاحت تحرراً للمرأة في الذكر، وفي مخالطة الرجال في الحياة العامة، وتمتع شيوخها بنزعات تشاركية مع الأتباع والمريدين، من دون أبّهة أو أملاك، مع محبة وتبجيل خاص، وهو ما أغاظ خصومهم الذين رموهم بالكفر والفسوق والإباحية

واشتدت المواقعة بين جماعة "أبو جريد" وخصومها، فأطلقوا عليها "الزبالعة"، بمعنى الهرطقة والشعوذة.

يقول عبد الله علي إبراهيم: "صارت ‘الزبالعة’ ومشتقاتها صنواً لرقة الدين، بل فساده بالكلية". ويضيف: "تنزل فساد دين الزبالعة المزعوم حتى قال الطيب محمد الطيب، إن مذهبهم صار عنواناً له وشاع التحذير من اتّباعِه". ووردت كلمة "زبلعة" في كتاب "طبقات ود ضيف الله" الشهير، أكثر من مرة، فمن المشائخ من سلك الناس طريقه وأمرهم بترك الزبلعة. وأشار محمد ود ضيف الله (1139هـ-1224هـ)، مؤلف الطبقات، إلى أنهم "كهنة وسحرة". والطريقة عند إبراهيم صديق، الذي نشر "طبقات ود ضيف الله"، في ثلاثينيات القرن الماضي، عنوان لعدم الاستقامة والشعوذة واستعمال التكهن. وشاع عنهم أنهم فُساق يعملون المنكر ويبيحون الفحشاء مع النساء، وشاع عنهم أنهم "العكليتة"، وهم قوم بغاة غصاب خارجون عن طاعة الحكام في السودان شأنهم النهب. ووصفها نعوم شقير، بأنها خارجة عن الدين الإسلامي لا تعرف غير "أبو جريد" نبياً، ولا تؤمن بختام نبوّة. ويذكر أنهم يجتمعون للأذكار مساء كل أحد وثلاثاء ويرددون في أذكارهم: "لا إله إلا الله أبو جريد نبي الله".

مواقعات في لبّ الحضرة

واتُّهم "الزبالعة" بالإباحة والمجون؛ إذ كانوا في حلقات الذكر يواقعون النساء دون فرض أو حدود، ويواقعون الأم والأخت وبنت الولد، مثلما اتُّهموا بامتلاك قوى خفية تساعدهم وتخبرهم عن المكنون.

ويصف المؤرخ محمد عبد الرحيم ليالي، الذكر عند الزبالعة، بأنها تُعقد في جنح الظلام، بعد إنارة المكان في ليالٍ معلومة من كل أسبوع ويحضرها كل الأتباع، سواء في ذلك الرجال والنساء، وكانوا يلحّنون الأناشيد الخاصة بهم، ويتواجدون على تلك النغمات، وبينما هم كذلك إذ يطفئ الرئيس المصباح، وهناك يأخذ كل رجل التي تليه من النساء، ويُباح له وطؤها، وبعد الفراغ يكون ذلك خاتمة الاحتفالات.

ويحمل عليها أكثر، بأنها كانت طريقةً سريةً. يقول: "كانوا كالماسونية في كتمان أمرهم"، وأن خليفة آدم سنّ لهم تحيةً مخصوصةً، وأن الرجل منهم يحمل سبحةً ملونةً شعاراً سرياً يتعارفون من خلاله.

وجرت مناظرات بينهم وبين الشيخ السناري، فرح ود تكتكوك، فحواها أنه تعرّض لهم ولمعتقداتهم الخاصة بالسباب واللعن، واتهمهم بالجهل بالدين والانحراف عن الطريق القيّم، قبل أن تؤلف الحكومة مجلس علماء أفتى بكفر الزبالعة.

ليبرالية أريحية زرقاء

نشأت حركة الزبالعة، في واقع ثقافي واجتماعي يمور بالخرافة والأساطير، ومثّلت السلطنة الزرقاء نفسها حالة انتقال حضاري بين مجتمعات وثنية ومسيحية مترفة، وبين ثقافة بادية وقاحلة حملتها المجموعات العربية التقليدية التي وفدت للتو وليس في نيتها التبشير بدين الإسلام، بقدر ما كانت تبحث عن لجوء اجتماعي واقتصادي وفّره السودان المكتنز والبعيد عن مركز الصراع العربي والإسلامي في القرون الوسطى.

انفردت جماعة الزبالعة بتعامل مختلف مع النساء، إذ كان للنساء حق الانضمام إلى الطريقة ولهنّ ما للرجال من واجبات وحقوق. وتحضر نساء الطريقة إلى الذكر، وهن في أجمل الثياب المعطرة، بحيث تدهن امرأة مختارة الشيخ وتدلّك جسده بالعطور وتبقى في خدمته، ما يكون مصدر فخر لها

وفي العام 1981، زارت الباحثة محاسن زين العابدين، مناطق الزبالعة وسط السودان، والتقت بأحفادهم الذين لم ينكروا التهم التي وُجّهت إلى أسلافهم أو يؤكدوها. وفي كتابها "الإسلام الباطني في السودان-حركة الزبالعة" (2012)، وضعت زين العابدين، الطريقة، في إطار ما أسمته الإسلام الشعبي، وهو خليط من الأديان المحلية الوثنية والمسيحية والإسلام خارج مفهوم الشريعة، "فكل ما ورد عن الزبالعة يمثل جزءاً من المعنى الكامل لهذه الكلمة، وهي في جزيئاتها تمثّل مؤشراً على ما تكوَّن عن الجماعة في العقل والرأي الجمعي الشعبي". ونشأت الجماعة في فترة سيادة الدولة والثقافة الإسلامية وما تحمله من أساطير ومظاهر تتعارض مع أصل الشريعة الإسلامية. "فحركة الزبالعة لم تكن خارجةً عن المألوف، وجاءت من صلب الثقافة السائدة آنذاك"، وتضيف زين العابدين: "إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بعدم صحة ما يشاع عن إباحية ليالي الذكر". وتتساءل: "هل كانت روابط العقد في الزواج وشروطه هي بالشكل والانضباط اللذين وردا لاحقاً بورود الأديان؟".

وتذهب زين العابدين، إلى أن ما سعت إليه الطرق الصوفية الأخرى لاتهام الزبالعة بالإباحية، أمر وارد في فكر وممارسات الإسلام الباطني، وهو ما يُطلق عليه ليالي الإفاضة.

ويؤكد هيللسون، الذي زار الطريقة عام 1917، أنه يجب تجاهل ما قاله نعوم شقير من أنهم يعتقدون بأن نبيهم هو أبو جريد، لأنهم لم يخرجوا من الإطار الإسلامي العام، وتتجلى هذه الحقيقة في أناشيدهم التي يطلقون عليها النغم، وهي الأهازيج التي اعتادوا على ترديدها في ليالي الذكر. وعلى الرغم من ذلك، فإنها الطريقة التي تفردت دون غيرها باختلافات عديدة، إلا أن أغربها ما هو متصل بعلاقتها بالقرآن. تقول زين العابدين: "تأكد لنا بصورة قاطعة أن كتاب القرآن لا يعني شيئاً بالنسبة إليهم، وهم لا يعرفونه ولا يعتقدون به". وتضيف: "يقال إنهم كانوا يسمّونه بـ’أبو رقيط’".

وبخصوص الإباحة الجنسية في الذكر، يقول هيللسون، إنه من الصعب تفيها أو إثباتها، فبعضهم يقول إن ذلك يحدث أسبوعياً بعد الذكر مباشرةً، بينما يقول البعض إنه يحدث مرةً في العام بعد اجتماعهم السنوي في شهر صفر. ويعترف سكان بلدة "خدر"، حاضرة الزبالعة، لهيللسون، بأن عادة وطء النساء في الذكر ربما كانت موجودةً قديماً.

وتلفت زين العابدين، إلى حقيقة مهمة لا بد من تحرّيها بالنظر إلى مسألة ليالي الإباحة، وهي انفراد جماعة الزبالعة بتعامل مختلف مع النساء، إذ كان للنساء حق الانضمام إلى الطريقة ولهنّ ما للرجال من واجبات وحقوق. وتحضر نساء الطريقة إلى الذكر، وهن في أجمل الثياب المعطرة، بحيث تدهن امرأة مختارة الشيخ وتدلّك جسده بالعطور وتبقى في خدمته، ما يكون مصدر فخر لها. وتبدو العلاقة بين المرأة والرجل منفتحةً وأكثر متانةً وقوةً ويحميها عهد الأخوة الذي يتواثق عليه مجتمع الزبالعة، وتبقى المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، كاملة المواطنة، في كل ما يتعلق بشؤون الدين والدنيا، وتستقبل الضيف في غياب الزوج. ولا يجمع الرجل امرأتين في الزواج، بل يكتفي بواحدة فقط.

وترسخت قيم وأعراف الزبالعة بعمق في الثقافة والحياة السودانية في مقاومة السلطة ونشدان الحرية والحِميات الثورية ومشاركة المرأة في الحياة العامة، مثلما شكلت العناصر المدفونة للوعي السوداني الباطني.

طقوس مختلفة

وترى زين العابدين، أن حاجزاً نفسياً واجتماعياً نشأ بين الجماعة ومجموع السكان مردّه إلى كثرة ما يشاع عنهم وإلى المبالغة في الإعلاء من شأن شيوخهم والجو المشحون بالعاطفة والإيمان بالغيبيات، فطقس الانضمام إلى الجماعة شديد الخرافة وبامتياز؛ إذ يُمنح طالب الطريقة اسماً محدداً يتلاشى مع احمرار غروب الشمس، حين يخلع ثيابه ويجلس في بيت للنمل، ثم يردد الاسم إلى أن يأتيه كلب أسود، فإذا ثبت أمام الكلب الذي يقوم بنكاحه فإنه يكتسب العقيدة ويتيسر رزقه ومعاشه. والكلب هو شيخ الطريقة نفسه، يتلقون منه الأوامر والعون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image