شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أمن الدولة" في لبنان... فكرة عبد الحليم خدّام التي لا تموت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن وحرية التعبير

الجمعة 20 يناير 202304:50 م

"هلّق الرتيب يلي حكي معه قال له: تفضّل على فنجان قهوة، يعني Par Politesse... نوع من اللياقة أفضل مما يقولوا تفضّل لعنّا، يعني دايماً هيدا التهذيب بيتدربوا عليه"؛ هكذا اختار جورج حرب، مستشار مدير عام أمن جهاز الدولة اللواء طوني صليبا، التعليق على استدعاء ويليام نون، ثمّ احتجازه.

في 13 كانون الثاني/ يناير الحالي، أوقف جهاز أمن الدولة ويليام نون، وهو شقيق جو نون، أحد ضحايا فوج الإطفاء، الذي قضى خلال تفجير مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020. وجاء التوقيف على خلفية إشارة قضائية صادرة عن القاضي زاهر حمادة، بسبب تصريحات لنون بعد تحركات احتجاجية لأهالي ضحايا تفجير المرفأ.

خلال تحرّك للأهالي الأسبوع الماضي، هدّد نون بتفجير قصر العدل في بيروت. بعد ذلك تم استدعاؤه، مع عدد من الناشطين إلى التحقيق بسبب تحطيم زجاج في قصر عدل بيروت. ولكن بعد ضغط شعبي وإعلامي وسياسي، أفرج جهاز أمن الدولة عن نون، بعدما ربط القاضي حمادة الإفراج عنه بالاستماع إلى رفيقه بيتر بو صعب، شقيق الشهيد جو بو صعب.

"جهاز الرؤساء"

يُعدّ جهاز أمن الدولة "من حصة" رئيس جمهورية، وهو ما برز خلال ولاية الرئيسين السابقين إيميل لحود وميشال عون. عام 2016، "عادت الحياة" إلى الجهاز بعد تسلّم عون الرئاسة كمساحة أمنيّة من ضمن حصّة "المسيحيين" في الأجهزة، برغم ارتفاع المطالبات بإلغائه خلال ولاية فؤاد السنيورة كرئيس لمجلس الوزراء.

يُعدّ جهاز أمن الدولة "من حصة" رئيس جمهورية، وهو ما برز خلال ولاية الرئيسين السابقين إيميل لحود وميشال عون

من يتابع الأوضاع القائمة حالياً في لبنان، يدرك أن الجهاز غائب تماماً عن المهام التي من المفترض منه تأديتها. يتجلّى ذلك بوضوح من خلال مداهمات سابقة للنائبة العامة الاستئنافية في جبل القاضية غادة عون، لمكاتب شركة مكتّف للصيرفة، مع عناصر من أمن الدولة لـ"مَوْنتها عليهم فقط"، بعدما رفض جهاز الأمن الداخلي مرافقتها. كما أن معظم عناصره تحولوا إلى مرافقين وسائقين للقضاة والموظفين، وهي مهمات بعيدة عن مهام الجهاز.

ويخلط كثيرون في توزيع الأجهزة الأمنية في لبنان، ويعتقدون أنّ كل الأجهزة الأمنية تتبع لوزارة الداخلية. الصحيح أنّ جهاز أمن الدولة يتبع لرئاسة الحكومة، ومديره العام يكون عضواً في المجلس الأعلى للدفاع، الذي يرأسه الرئيس الأعلى للقوات المسلحّة، أي رئيس الجمهورية.

النشأة والمسيرة

تأسّس جهاز أمن الدولة في العام 1984، باقتراح من نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام. ويشير الصحافي والكاتب السياسي نقولا ناصيف، إلى أن "طرح جهاز أمن الدولة لأول مرة كان خلال مؤتمر لوزان في سويسرا، ثم أعيد طرحه في خلوات بكفيا خلال عهد الرئيس أمين الجميل". وسبب الطرح هو توزيع المناصب الأمنية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين في لبنان.

وبحسب ناصيف، "طرح رئيس حركة أمل نبيه بري، أن يحصل الشيعة على الأمن العام، والرئيس الجميل اعترض لأنه لا يمكن التخلّي عن الجهاز بحكم أنه مستشار الرئيس، وكان مدير الأمن العام يختاره الرئيس بشكل فردي، فطرح خدّام استحداث جهاز أمن الدولة الموجود في سوريا تحت مسمّى جهاز الاستخبارات العامة، ووقتها كانت نشأة أمن الدولة".

اختير العميد مصطفى ناصر مديراً عاماً لأمن الدولة، إلا أن ظروف الحرب لم تسمح بخلق جهاز أمني حقيقي. في العام 1988، تولّى اللواء نبيه فرحات بناء المديرية، مستفيداً من خبرته الطويلة في الجيش. ويروي فرحات، في مقابلة له مع جريدة الأخبار تعود للعام 2010، أنه "تسلّم جهازاً لم يكن عديده يزيد على 60 فرداً، تنحصر مهامهم في تنظيم رواتبهم، ويجمعون معلومات بسيطةً على طريقة مخافر الدرك".

"أصرّ إيميل لحود في العام 1998، خلال رئاسته، على تسمية جميل السيد مديراً للأمن العام بسبب ثقته به، لينتقل المنصب من الموارنة إلى الشيعة، وعندها انتقلت رئاسة جهاز أمن الدولة إلى إدوار منصور، أي من الشيعة إلى الكاثوليك، للإبقاء على المناصفة"، يقول ناصيف لرصيف22.

كان مدير الأمن العام يختاره الرئيس بشكل فردي، فطرح خدّام استحداث جهاز أمن الدولة الموجود في سوريا تحت مسمّى جهاز الاستخبارات العامة، فماذ حصل بعدها؟

بحسب مرسوم تنظيم المديرية العامة لأمن الدولة، هو جهاز بمثابة ضابطة عدلية يتبع للقضاة، ويمكن أن يأتمروا بأمرٍ من مفوض المحكمة العكسرية. أبرز مهامه هي جمع المعلومات المتعلّقة بأمن الدولة الداخلي، ومراقبة الأجانب والتحرّي عما يقومون به، ووضع التقارير الدورية لإطلاع المجلس الأعلى للدفاع على الوضع العام الأمني والسياسي، بالإضافة إلى التنسيق مع باقي الجهات الأمنية في الجيش في شؤون الاستعلام وتبادل المعلومات.

مطالبات بحلّ الجهاز

بعد تفجير الرابع من آب/ أغسطس، واستدعاء مدير عام أمن الدولة طوني صليبا إلى التحقيقات، علت مطالبات بحلّ الجهاز. إثر توقيف وليام نون، عادت المطالبات نفسها وهو ما نشرته بعض المواقع الإخبارية اللبنانية. إلا أن هذا الجهاز مُدرَج ضمن قانون الدفاع الوطني، وتالياً فإن إلغاءه يحتاج إلى تعديل هذا القانون في مجلس النواب.

خلال توقيف نون، لم يذكر جهاز أمن الدولة وجود إشارة قضائية لتوقيفه، بل عدّها "عزيمة على فنجان قهوة" تمّ على إثرها توقيفه. بحسب أصول المحاكمات، لا يجوز استدعاء أي مواطن من دون إشارة قضائية. كما من حق المطلوب معرفة القاضي الذي أعطى الإشارة، وما هو الجرم، وهوية المدعي الشخصي في حال وجوده.

وارتبط في الفترة السابقة اسم جهاز أمن الدولة، بقضيتَي الممثل المسرحي زياد عيتاني والشاب السوري بشار عبد السعود. إذ تحوّل بشار إلى جثة هامدة في 31 آب/ أغسطس الماضي بعد ساعات من توقيفه على إثر العنف والضرب، الذي تعرّض له من ضباط وعناصر فرع أمن الدولة في تبنين، جنوب لبنان.

بحسب رواية أمن الدولة، تنوّعت شبهات الشاب السوري الجنسية بين "تزوير عملات والانتماء إلى تنظيم إرهابي"، وأثبتت الصور حجم التعذيب الذي لحق بعبد السعود، وتناقضت رواية الجهاز مع تقرير الطب الشرعي. فالأول قال إن سبب الوفاة نوبة قلبية، وتناول حبّة من "الكبتاغون"، إلّا أنّ تقرير الطبيب الشرعي غالب صالح، أكّد وجود آثار تعذيب مبرح على الجثة.

أوقفت النيابة العامة العسكرية خمسةً من ضبّاط وعناصر أمن الدولة وتمت إحالتهم إلى قاضية التحقيق العسكري، نجاة أبو شقرا، التي وجّهت تهمة التعذيب إلى عناصر أمن الدولة الخمسة بموجب قانون مناهضة التعذيب رقم 65 الصادر عام 2017.

تحوّل بشار إلى جثة هامدة في 31 آب/ أغسطس الماضي بعد ساعات من توقيفه على إثر العنف والضرب، الذي تعرّض له 

يشير المحامي ومدير مركز سيدار للدراسات القانونية وحقوق الإنسان محمد صبلوح، في حديث لرصيف22، إلى أن جهاز أمن الدولة يعمل على العراضات للتذكير بـ"أنا موجود"، كي لا تعلو المطالبات بإلغائه مجدداً. ويلفت إلى أن "الأجهزة في لبنان تسعى إلى انتقاء بعض الملفات، كتفكيك خلايا إرهابية، لأنها تجلب ‘سكوبات’ إعلامية وأموال".

ويقول صبلوح، وهو وكيل عائلة عبد السعود، إن "أكثر من سبعة أشخاص كانوا قد تعرّضوا لضرب مبرح وتعذيب، وتقدّمت بإخبار والملف عند المحكمة العسكرية".

إلى جانب قضية عبد السعود، لفّق الجهاز تهمة العمالة للعدو الإسرائيلي لعيتاني عام 2018. حينها، نشر اعترافات "خياليّةً" عن عمل عيتاني بإمرة الموساد الإسرائيلي، وسعيه إلى اغتيالات تطال سياسيين لبنانيين. ثمّ ثبُت زيف هذا الكلام، ونُقل ملفّ عيتاني إلى "فرع المعلومات" بعد ضغوط سياسية على الجهاز وعلى رئاسة الجمهورية.

التنسيق الغائب

"الأجهزة الأمنية صُمّمت على قياس الطوائف. أمن الدولة لا يملك خبرةً في التحقيق في الجرائم وبدأ تنامي الجهاز مع تنامي ظاهرة التيار الوطني الحر"، تقول المحامية والناشطة الحقوقية ديالا شحادة، لرصيف22. وتشير إلى أن "أساليب الضرب والتعنيف التي يعتمدها الجهاز لإرغام الموقوفين على توقيع إفادات، يثبت عدم صحتها لاحقاً"، وترى أن الأجهزة الأمنية تعمل على قاعدة "التنافس لا التكامل".

ولكن هل لمجلس النواب أي دور في الرقابة؟ تقول شحادة: "للمجلس دوران أساسيان، الأول تشريعي والثاني رقابي، وهما غائبان تماماً، إذ يحق للنواب الاستماع إلى أفراد من السلطة التنفيذية في قضايا تمس بالمجتمع، سواء من خلال جلسات اللجان كلجنة العدل مثلاً، أو من خلال جلسات المجلس في الملفات الكبيرة".

"متضامن معك ومع الضحية التالية ومع الضحايا اللاحقين في أقبية التعذيب، أعرف ما هي تلك الأسلاك على ظهرك... أعرف وجوههم وتحاملهم على لحمك الذي لم تحمله إلا أم صابرة ومحتسبة"

من جهته، يشير النائب فراس حمدان، إلى أن" واقع الأجهزة الأمنية شبيه بواقع الدولة نتيجة الضغط وهروب الجنود والضباط من خدماتهم وتدنّي قيمة المداخيل. إلى جانب الأزمات الاقتصادية، تنخر التدخلات السياسية في الأجهزة لتحوّلها إلى منصات لتصفية الحسابات بين مختلف الأحزاب اللبنانية".

ويضيف حمدان لرصيف22: "جهاز أمن الدولة تحول ليؤدي دوراً لوجيستياً اليوم كمرافقة وحماية القضاة والموظفين، وافتقد التدريب والاحترافية وبات جهازاً لديه شبه مرجعية سياسية وهو ما وضع علامات استفهام عدة حول أدائه".

وعن دور المجلس النيابي في ملف متابعة عمل الأجهزة، يقول حمدان: "تمّ استدعاء جهاز أمن الدولة من قبل لجنة حقوق الإنسان لمتابعة ملف بشار عبد السعود، لكن دور اللجان ينحصر في إصدار التوصيات وتقديم الأسئلة، وليس في مقدورنا تحويل أفراد إلى الاستجواب أو إلى التحقيق".

"إلى أخي السوري، متضامن معك ومع الضحية التالية ومع الضحايا اللاحقين في أقبية التعذيب، أعرف ما هي تلك الأسلاك على ظهرك... أعرف وجوههم وتحاملهم على لحمك الذي لم تحمله إلا أم صابرة ومحتسبة"؛ هكذا اختار الضحية زياد عيتاني التضامن مع الضحية بشار عبد السعود، بعد مقتله. اللافت في تغريدة عيتاني، عبارة "الضحايا اللاحقين"، فهو يعلم أن "البطش" سيطال آخرين في دولة اللا دولة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image